السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-204-8
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٦٨
على الحر قوصية» (١). نسبة إلى حر قوص ، أحد زعماء الخوارج ، كأنه يشير إلى أن الذي شكك في حديث الغدير كان من هذه الفرقة الخبيثة.
من هما العبدان الصالحان؟! :
ورد في رواية جرير بن عبد الله البجلي لواقعة الغدير : أنه «صلىاللهعليهوآله» أخذ بذراع علي «عليهالسلام» وقال :
«من يكن الله ورسوله مولاه ، فإن هذا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. اللهم من أحبّه من الناس فكن له حبيبا ، ومن أبغضه فكن له مبغضا. اللهم إنّي لا أجد أحدا استودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين (٢)
__________________
(١) راجع : مشكل الآثار ج ٢ ص ٣٠٨ والصواعق المحرقة ص ٤٢ و ٤٣ والمعتصر من المختصر ج ٢ ص ٣٠١ والمرقاة في شرح المشكاة ج ١٠ ص ٤٧٦ وشرح الأخبار ج ١ ص ٨١ والمسترشد للطبري (الشيعي) ص ٣٥ وإقبال الأعمال لابن طاووس ج ٢ ص ٢٣٩ والبحار ج ٣٧ ص ١٢٦ والغدير ج ١ ص ١٥٣ ورجال النجاشي ص ٣٢٢ وقاموس الرجال ج ٩ ص ١٥١ و ١٥٤ و ١٩٣.
(٢) الغدير (تحقيق مركز الغدير للدراسات) ج ١ ص ٦٢١ عن مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٠٦ والمعجم الكبير ج ٢ ص ٣٥٧ وهداية العقول ص ٣١ وقال في الغدير :
في تعليق هداية العقول (ص ٣١) : لعله أراد بالعبدين الصالحين أبا بكر وعمر ، وقيل : الخضر وإلياس ، وقيل : حمزة وجعفر رضياللهعنهما ، لأن عليا «عليهالسلام» كان يقول عند اشتداد الحرب : وا حمزتاه ولا حمزة لي؟ وا جعفراه ولا جعفر لي؟
أقول : هذا رجم بالغيب ، إذ لا مجال للنظر في تفسير العبدين الصالحين بمن ذكر إلا أن يعثر على نص ، والظاهر : عدم ذلك لما ذكره سيدي العلامة بدر الدين محمد بن ـ
غيرك (١) ، فاقض له بالحسنى.
قال بشر (الراوي عن جرير) قلت : من هذان العبدان الصالحان؟
قال : لا أدري (٢).
__________________
إبراهيم بن المفضل «رحمهالله» لما سأله بعضهم عن تفسير الحديث ، فأجاب بما لفظه : لم أعثر عليه في شيء من كتب الحديث إلا أن في رواية مجمع الزوائد ما يدل على عدم معرفة الراوي أيضا بالمراد بالرجلين لأن فيه قال بشر أي الراوي عن جرير : قلت : من هذان العبدان الصالحان؟
قال : لا أدري.
قال «رحمهالله» : ومثل هذا إن لم يرد به نقل فلا طريق إلى تفسيره بالنظر أه.
وقال في كتاب على ضفاف الغدير : وأخرجه عنه أحمد بن عيسى المقدسي في الجزء الثاني من فضائل جرير بن عبد الله البجلي الموجود في المجموع ٩٣ في المكتبة الظاهرية. أخرجه في الورقة ٢٤٠.
وأخرجه ابن عساكر في تاريخه : رقم ٥٨٧ ، وابن منظور في مختصر تاريخ دمشق ص ١٧ ص ٣٥٨ ، والقرافي في نفحات العبير الساري : ق ٧٦ / ب ، والسيوطي في جمع الجوامع ص ١ ص ٨٣١ ، وفي قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص ٢٧٧ ح ١٠٢ ، والزبيدي في لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص ٢٠٦ ، والشوكاني في در السحابة ص ٢١٠ ، والكتاني في نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص ١٩٤ وإسحاق بن يوسف الصنعاني في تفريج الكروب في حرف الميم.
(١) راجع : الغدير ج ١ هامش ص ٦٢.
(٢) أسد الغابة ج ١ ص ٣٠٨ وقال : أخرجه الثلاثة. يريد : ابن عبد البر ، وابن منة ، وأبا نعيم.
ولم يرضوا بتفسير العبدين الصالحين بأنهما الخضر وإلياس ، وقالوا : لا بدّ من أن يحدّدهما نصّ المعصوم ، وهو غير موجود (١).
الزهري لا يحدث بفضائل علي عليهالسلام :
وقد حدث الزهري بحديث الغدير ، فقيل له : لا تحدث بهذا بالشّام وأنت تسمع ملء أذنيك سب علي.
فقال : والله ، إن عندي من فضائل علي «عليهالسلام» ما لو تحدّثت بها لقتلت (٢).
وهذا يعطي : أنّ هذا الرجل كان يكتم من فضائل علي «عليهالسلام» ما هو أهم من حديث الغدير .. وذلك خوفا من القتل ، فما بالك بما كان يكتمه الآخرون من فضائله صلوات الله وسلامه عليه!!
نص الطبري مؤيد بالنصوص :
وإذا تأملنا في نص خطبة الغدير ، وما جرى في التهنئة به ، الذي رواه محمد بن جرير الطبري ، صاحب التاريخ المعروف ، والتفسير الموصوف ، ورواه الطبرسي في الإحتجاج وآخرون ، ثم راجعنا النصوص المختلفة الأخرى ، فسنخرج بنتيجة حاسمة هي : أنه نص جدير بالتأمل ، لأن النصوص الأخرى
__________________
(١) راجع الهامش الذي في الصفحة قبل السابقة.
(٢) أسد الغابة ج ١ ص ٣٠٨ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ٣٨ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٧ ص ٢٢٨ والغدير ج ١ ص ٢٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٦ ص ٢٧٤ و ٣٧٦.
تؤيده ، والأحداث والوقائع تسدده ، وتشيده وتؤكده ..
وإذا كانت البيعة في يوم الغدير قد استمرت مدة طويلة ، قيل : ثلاثة أيام ، وقيل : غير ذلك ، فلماذا لا يكون «صلىاللهعليهوآله» قد خطب الناس مرة بعد أخرى في تلك الأيام ، لكي يقيم الحجة على أبلغ وجه وأتمه ، وليسمعهم المزيد مما ربما يكون أكثر المجتمعين لم يسمعوه منه. إذ لعل معظمهم لم يكن قد رأى النبي «صلىاللهعليهوآله» قبل ذلك ، ولن يراه أكثرهم بعد ذلك.
أما شرح مضامين هذه الخطبة ، والإلمام بدلالات سائر ما جرى فلا بد لنا من الإعتذار عنه ، لأنه يحتاج إلى توفر تام ، وجهد مستقل.
جبريل .. وعمر بن الخطاب :
لا بد من ذكر الواقعة التي نوقشت هاهنا ، وهي في كتاب الغدير الجزء الأول.
ونقول :
لعل عمر بن الخطاب قد بهره جمال ذلك الشاب الذي كان إلى جانبه ، حيث لم يعهد في أقرانه ، ونظرائه الذين يعرفهم شيئا يذكر من الجمال ، باسثناء بني هاشم ، فأثار ذلك عجبه ، ولم يتهيأ له أن يسأل ذلك الشاب عن نفسه ، فروى ما رأى للنبي «صلىاللهعليهوآله» عله يعرف منه شيئا عنه.
أو لعله أراد من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يأتي بذلك الشاب ويؤنبه ، على ما فرط منه ، حين اتهم من يسعى في حل هذا العقد بأنه منافق.
أو أنه أراد أن يسمع من النبي «صلىاللهعليهوآله» كلمة مفادها : أن
الأمر لا يبلغ إلى هذا الحد. وأن الشاب قد أخطأ في تقديره ..
وحينئذ فقط يمكنه أن يروي هذه الواقعة للآخرين.
ولكن عمر قد فوجئ بما لم يكن يخطر له على بال ، فقد أخبره النبي «صلىاللهعليهوآله» بأن ذلك الشاب هو جبرئيل ، وكم كانت جميلة تلك اللحظات التي حلم عمر فيها أن يتمكن من رواية ما يسمعه للآخرين على سبيل التفاخر والمباهاة ، باعتبار أن رؤية جبرئيل حدث متميز ، ربما يشير إلى خصوصية غير عادية في من يوفق لرؤية هذا الملاك العظيم.
ولكن الذي يصده عن ذلك ، كان أعظم وأخطر ، فإن ذلك الشاب الجميل الصورة ، قد حكم على من يسعى في حل هذا العقد بالنفاق ..
وقد صدّق النبي «صلىاللهعليهوآله» قوله ، مبينا أن قائل هذا القول هو جبرئيل «عليهالسلام».
وإذا عرف الناس ذلك ، فسيكون سببا في زيادة تعقيد الأمور أمام الساعين في حل هذا العقد ، وعمر بن الخطاب منهم ، بل هو العنصر الأبرز والأقوى ، والأشد صلابة فيه.
إن ذلك يمثل تأكيدا على أن الله هو الذي أبرم هذا العقد ، وأن أي سعي في الإتجاه الآخر سيكون تمردا على الله مباشرة. وليس بالإمكان لمن يعترف بأن جبريل هو الذي حكم بنفاق من يحل العقد أن يدّعي للناس : أن من الممكن أن يكون هذا التدبير من ابتكارات رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حبا بصهره وابن عمه ..
الفصل التاسع :
الغدير في ظل التهديدات الإلهية
قريش وخلافة بني هاشم :
قد عرفنا في الفصل السابق : أن قريشا ، ومن هم على رأيها هم الذين كانوا يخططون لصرف الأمر عن بني هاشم ، وبالذات عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه الصلاة والسلام» ، وكانوا يتصدون لملاحقة هذا الأمر ومتابعته في جميع تفاصيله وجزئياته ، دون كلل أو ملل ، ولو عن طريق إثارة الشكوك والشبهات ، واختلاق الشائعات ، وحياكة المؤامرات ، وتوجيه الإتهامات إلى حد اتهام النبي «صلىاللهعليهوآله» بنزاهته ، وفي عدله ، وحتى في عقله. حتى قالوا عنه : إنه يهجر .. وكانت قريش تتحدى ، وتمانع بالقول ، وبالفعل ، حتى منعت النبي «صلىاللهعليهوآله» من إعلان هذا الأمر في عرفات ، ثم في منى. فراجع.
وقد رأوا : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كان في مختلف المواقع والمواضع لا يزال يهتف باسمه ، ويؤكد على إمامته ، لكن الأصعب والأمر عليهم أن يعلن إمامته «عليهالسلام» أمام تلك الجموع الغفيرة ، التي جاءت للحج من جميع الأقطار والأمصار ، ولأجل ذلك بادروا إلى التشويش والإخلال بالنظام. وحين غلبوا على أمرهم ، وأعلن «صلىاللهعليهوآله» أن الأئمة اثنا عشر كانت قريش بالذات هي التي قصدت النبي
«صلىاللهعليهوآله» في منزله بعد هذا الموقف مباشرة ، لتستوضح منه ماذا يكون بعد هؤلاء الأئمة ، لترى إن كان لها نصيب في هذا الأمر ولو بعد حين.
فكان الجواب : ثم يكون الهرج.
وفي نص آخر : (الفرج) ، كما رواه الخزاز (١).
والظاهر : أن هذا هو الصحيح ..
وقد رأى النبي «صلىاللهعليهوآله» : أن مجرد التلميح لهذا الأمر ، قد دفعهم إلى هذا المستوى من الإسفاف والإسراف في التحدي لإرادة الله سبحانه. ولشخص النبي «صلىاللهعليهوآله» ، دون أن يمنعهم من ذلك شرف المكان ، ولا خصوصية الزمان ، ولا قداسة المتكلم ، وشأنه وكرامته. حسبما أشار إليه «صلىاللهعليهوآله» في تقريره لهم حين سألهم عن أي شهر أعظم حرمة ، وأي بلد أعظم حرمة ، وأي يوم أعظم حرمة (٢).
__________________
(١) راجع : كفاية الأثر ص ٥٢ ويقارن ذلك مع ما في إحقاق الحق (الملحقات) وغيبة النعماني وغيرهما. فإنهم صرحوا بان قريشا هي التي أتته.
(٢) راجع هذه الفقرات : في خطبة النبي «صلىاللهعليهوآله» في حجة الوداع في المصادر التالية : مسند أحمد ج ٣ ص ٣١٣ و ٣٧١ وكنز العمال ج ٥ ص ٢٨٦ و ٢٨٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٦٠٠ والكافي ج ٧ ص ٢٧٣ و ٢٧٥ ودعائم الإسلام ج ٢ ص ٤٨٤ والمجموع للنووي ج ٨ ص ٤٦٦ وج ١٤ ص ٢٣١ والمحلى لابن حزم ج ٧ ص ٢٨٨ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٩ ص ١٠ و (ط دار الإسلامية) ج ١٩ ص ٣ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٦٧ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٦٥٥ وتفسير القمي ج ١ ص ١٧١ ومستدرك
فكيف لو صرح «صلىاللهعليهوآله» بذلك ، وجهر باسمه «عليه الصلاة والسلام» في ذلك الموقف ، فقد يصدر منهم ما هو أمر وأدهى ، وأشر وأقبح ، وأشد خطرا على الإسلام وأهله.
وقد فضح الله بذلك أمر هؤلاء المتظاهرين بغير حقيقتهم ، أمام فئات من الناس ، جاءت للحج من كل حدب وصوب ، وسيرجع الناس بذكريات مرة عنهم ، ليحدثوا بها أهلهم ، وأصدقاءهم ، وزوارهم .. في زمان كان الرجوع من سفر كهذا ، والنجاة من أخطاره ومشقاته ، بمثابة ولادة جديدة ..
التدخل الإلهي :
ثم جاء التهديد الإلهي لهم ، فحسم الموقف ، وأبرم الأمر ، وظهر لهم أنهم عاجزون عن الوقوف في وجه إرادة الله ، القاضية بلزوم إقامة الحجة على الناس كافة ، وفق ما يريده الله ويرتضيه. وأدركوا : أن استمرارهم في المواجهة السافرة قد يؤدي بهم إلى حرب حقيقية ، مع الله ورسوله ، وبصورة علنية ومكشوفة.
فلم يكن لهم بد من الرضوخ ، والانصياع ، لا سيما بعد أن أفهمهم الله سبحانه : أنه يعتبر عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ أصل الدين ،
__________________
الوسائل ج ١٧ ص ٨٧ والبحار ج ٣٧ ص ١١٣ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٣٤٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣٩١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢١٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ٢٦ ص ١٠٠ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ١٧٠ إضافة إلى مصادر أخرى تقدمت.
وأساس الرسالة ، وأن معارضتهم لهذا الإبلاغ ، تجعلهم في جملة أهل الكفر ، المحاربين ، الذين يحتاج الرسول إلى العصمة الإلهية منهم.
وهذه الأمور الثلاثة قد تضمنتها الآية الكريمة التي حددت السياسة الإلهية تجاههم ، فهي تقول :
(وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١).
والتركيز على هذه الأمور الثلاثة معناه : أن القرار الإلهي هو أنه تعالى سوف يعتبر عدم تبليغ هذا الأمر للناس بصورة علنية بمثابة العودة إلى نقطة الصفر ، وخوض حروب في مستوى بدر ، وأحد والخندق ، وحنين وسواها من الحروب التي خاضها المسلمون ضد المشركين ، من أجل تثبيت أساس الدين وإبلاغه.
ومن الواضح لهم : أن ذلك سوف ينتهي بهزيمتهم وفضيحتهم ، وضياع كل الفرص ، وتلاشي جميع الآمال في حصولهم على امتياز يذكر ، أو بدونه ، حيث تكون الكارثة بانتظارهم ، حيث البلاء المبرم ، والهلاك والفناء المحتّم.
فآثروا الرضوخ ـ مؤقتا ـ إلى الأمر الواقع ، والانحناء أمام العاصفة ، في سياسة غادرة وماكرة .. ولزمتهم الحجة ، بالبيعة التي أخذت منهم له «عليهالسلام» في يوم الغدير. وقامت الحجة بذلك على الأمة بأسرها أيضا. ولم يكن المطلوب أكثر من ذلك. وكان ذلك قبل استشهاده «صلى الله عليه
__________________
(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.
وآله» بسبعين يوما ..
سياسة الفضائح :
ولكن ذلك لم يكن ليمنعهم من ادعاء التوبة عما صدر عنهم ، والندم على ما بدر منهم ، وادعاء أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد رضي عليهم وسامحهم ، وأنه قد استجدت أمور دعت النبي إلى العدول عن ذلك كله ، فصرف النظر عن تولي الإمام علي «عليهالسلام» للأمور بعده .. ربما لأنه رأى أن العرب لن ترضى بهذا الأمر ، لأن عليا «عليهالسلام» وترها ، وقتل رجالها .. أو لغير ذلك من أسباب ..
١ ـ فكانت قضية تجهيز جيش أسامة ، وظهور عدم انصياعهم لأوامر النبي «صلىاللهعليهوآله» وانسحابهم من منظومة ذلك الجيش ، وسعيهم في تعطيل مسيره ، رغم إصرار النبي «صلىاللهعليهوآله» عليهم في ذلك ، حتى لقد لعن «صلىاللهعليهوآله» من تخلف عن جيش أسامة ..
كانت هذه القضية هي الدليل الآخر على أنهم لا يزالون على سياساتهم تجاه النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وأنهم كانوا دائما بصدد عصيان أوامره ، رغم شدة غضبه «صلىاللهعليهوآله» ، منهم ، ومن موقفهم ..
وقد يعتذرون عن ذلك بأن حبهم للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، وخوفهم من أن يحدث له أمر في غيبتهم ، هو الذي دعاهم إلى هذا العصيان ، فليس هو عصيان تمرد ولا هو عن سوء نية ، بل هو يدل على أنهم في غاية درجات الحسن والصلاح ..
ثم إنهم قد يقولون للناس ـ وقد قالوا ذلك بالفعل ـ : إن لعن النبي لهم
هو من أسباب زيادة درجات الصلاح فيهم ، حيث روى الرواة عنه «صلىاللهعليهوآله» زورا وبهتانا ، أنه قال :
«والله إني بشر ، أرضى وأغضب ، كما يغضب البشر ، اللهم من سببته ، أو لعنته ، فاجعل ذلك زكاة له ورحمة». أو نحو ذلك من الألفاظ (١).
٢ ـ فجاءت قضية صلاة أبي بكر بالناس ، في مرض موته «صلىاللهعليهوآله» ، وعزل النبي «صلىاللهعليهوآله» له عنها ، لتفسد عليهم أي ادعاء لأن يكونوا أهلا لما هو أدنى من مقام إمامة الأمة ، وخلافة النبوة ، فإن
__________________
(١) راجع : مسند أحمد ج ٢ ص ٢٤٣ و ٤٩٣ وج ٦ ص ٥٢ وصحيح مسلم ج ٨ ص ٢٦ و ٢٧ وشرح مسلم للنووي ج ١٦ ص ١٥١ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٦٧ وفتح الباري ج ١١ ص ١٤٧ وأبو هريرة لشرف الدين ص ٤٣ ص ٩١ وقاموس الرجال ج ١٠ ص ١٢٥ والتاريخ الكبير للبخاري ج ٤ ص ١٠٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ٣٢٦ وأسد الغابة ج ٤ ص ٣٨٦ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١١٣ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٦٧ وج ٢ ص ٢٥١ و ٢٥٢ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٣٤ وعمدة القاري ج ٢٢ ص ٣١٠ وعون المعبود ج ١٢ ص ٢٧٠ و ٢٧١ ومسند ابن راهويه ج ١ ص ٢٧٥ وج ٢ ص ٥٤٣ والآحاد والمثاني ج ٢ ص ٢٠٠ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٤٤٤ والإستذكار ج ٢ ص ٧٥ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٢٦١ واللمع في أسباب ورود الحديث ص ٨٢ وكنز العمال ج ٣ ص ٦٠٩ و ٦١١ و ٦١٣ والفتح السماوي ج ٢ ص ٧٦٨ وتفسير السمعاني ج ٢ ص ٣٦٩ وج ٣ ص ٢٢٣ وأحكام القرآن ج ٣ ص ٤٣١ وتفسير الرازي ج ٢٢ ص ٢٣١ والجامع لأحكام القرآن ج ١٠ ص ٢٢٧ وتفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٢٤ و ٢٥ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٥٨٧ و ٥٨٩ و ٦١٧ والغدير ج ٨ ص ٢٥١ و ٢٥٢.
عدم الأهلية حتى للإمامة في الصلاة ، التي لا تحتاج إلا إلى صحة القراءة «والعدالة» (١) ، يكشف عن عدم الصلاحية لمقام الإمامة الذي يحتاج إلى العلم الغزير ، وإلى العدالة ، وإلى الشجاعة ، وإلى غير ذلك من صفات ..
ولكنهم قد يعتذرون عن ذلك أيضا بالتشكيك في اشتراط العدالة ، ويروون عن النبي «صلىاللهعليهوآله» زورا وبهتانا أيضا أنه قال : «صلوا خلف كل بر وفاجر» .. ثم يفتي فقهاؤهم بذلك ، أو يدّعون أن النبي هو الذي صلى خلف أبي بكر ، كما صلى ـ بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد ـ خلف عبد الرحمن بن عوف .. ويدّعون .. ويدّعون ..
٣ ـ فجاءت قضية كتابة النبي «صلىاللهعليهوآله» الكتاب الذي لن يضلوا بعده أبدا ، لتظهر كيف أنهم لا يتورعون حتى عن اتهام النبي «صلىاللهعليهوآله» في عقله ، حتى ليقول قائلهم : «إن النبي ليهجر»!! أو قال كلمة معناها : «غلبه الوجع».
رغم أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يصرح لهم بأنه يريد أن يعين الخليفة من بعده ، بل قال : «أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا» .. فواجهوه بهذا الأمر العظيم ، فكيف لو زاد على ذلك ما هو أوضح وأصرح؟!
ألا يحتمل أن يبادروا حتى إلى قتله؟!
وقد يعتذرون عن ذلك أيضا بأن الذي تجرأ على النبي «صلىاللهعليهوآله» وواجهه بهذا القول ، هو عمر بن الخطاب قد ندم وتاب ، وقد يدعون أنه اعتذر إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وأنه «صلىاللهعليهوآله» قد عذره
__________________
(١) وفق مذهب أهل البيت «عليهمالسلام» فقط.
وصفح عنه وسامحه.
بل لقد قالوا : إن ما صنعه عمر ، من منع النبي «صلىاللهعليهوآله» من كتب الكتاب كان هو الأصح والأصلح ، وأنه لو كتب ذلك الكتاب لاختلف المسلمون ، ولكانت المصيبة أعظم. وسيأتي بيان ذلك
٤ ـ فجاء ما جرى على السيدة الزهراء «عليهاالسلام» ليؤكد إصرارهم على مناوأة النبي «صلىاللهعليهوآله» في أهدافه ، وعلى أنهم لا يتورعون حتى عن الاعتداء على البنت الوحيدة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. إلى حد إسقاط الجنين ، وكسر الضلع ، وضربها إلى حد التسبب باستشهادها .. وذلك بعد أن جمعوا الألوف من المقاتلين ، خصوصا من قبيلة بني أسلم. التي كانت تعيش أعرابيتها بالقرب من المدينة ، وقد قال تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) (١).
وقد يعتذرون عن ذلك ويقولون للناس أيضا : لعن الله الشيطان لقد كانت ساعة غضب وعجلة ، ولم نكن نحب أن نسيء إلى بنت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. وقد ندمنا أعظم الندم على ما صدر وبدر منا ـ رغم أن لنا ، أسوة برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فإنه إذا كان النبي قد يبدر منه حين الغضب ما لا يناسب مقامه ، وفقا لحديث : إني بشر أرضى وأغضب كما يغضب البشر ، اللهم من سببته أو لعنته الخ .. فكيف يمكن تنزيه غيره «صلىاللهعليهوآله» عن مثل ذلك؟!
وهذا معناه : أن ما صدر منهم لا يعني بالضرورة أنهم لا يصلحون
__________________
(١) الآية ١٠١ من سورة التوبة.
لمقام الإمامة والخلافة ، خصوصا وأن ما صدر منهم تجاه السيدة الزهراء «عليهاالسلام» كان في ساعات حرجة ، مشوبة بالكثير من الإنفعال والتوتر ، وهم يزعمون : أنهم يسعون فيها إلى حفظ الإسلام ، قبل انتشار الأمر ، وفساد التدبير ..
٥ ـ فجاءت قضية فدك لتبين أن هؤلاء غير صادقين فيما يدّعونه ، وأنهم يفقدون أدنى المواصفات لمقام خلافة النبوة ، فهم :
غير مأمونين على دماء الناس ، كما أظهره فعلهم بالسيدة الزهراء «عليهاالسلام».
وغير مأمونين على أعراضهم ، كما أوضحه هتكهم لحرمة بيتها ، وهي التي تقول : خير للمرأة أن لا ترى رجلا ولا يراها رجل.
وغير مأمونين على أموال الناس كما أوضحه ما صنعوه في فدك ..
فإذا كانوا لا يحفظون أموال ودماء وعرض رسول الله ، فهل يحفظون دماء وأعراض وأموال الضعفاء من الناس العاديين؟!
وإذا كانوا يجهلون حكم الإرث ، فقد علمتهم إياه السيدة الزهراء «عليهاالسلام».
وبعد التعليم ، والتذكير ، فإن الإصرار يدل على فقدانهم لأدنى درجات الأمانة والعدالة.
فهل يمكنهم بعد ذلك كله ادعاء أنهم يريدون إقامة العدل ، وحفظ الدماء ، والأعراض ، والأموال ، وتعليم الناس دينهم ، وتربيتهم ، وبث فضائل الأخلاق فيهم ، وغير ذلك ..
والنتيجة من ذلك هي : أن هؤلاء القوم قد أصروا على صرف هذا
الأمر عن الإمام علي «عليهالسلام» ، ونكثوا بيعته ، وأجبروا الناس على البيعة لهم ..
وقد توسلوا للوصول إلى أهدافهم بقوة السلاح ، فجهزوا ألوفا من المقاتلين من قبيلة بني أسلم ، وفرضوا على الناس البيعة ، وأهانوهم من أجلها ، وسحبوهم إلى البيعة من بيوتهم سحبا ، وحملوهم عليها قهرا ، وجبرا ، كما صرحت به النصوص التاريخية.
وكان هناك من يدلهم على البيوت التي اختبأ فيها أفراد لا يريدون البيعة لأبي بكر ، فكانوا يستخرجون الرجلين والثلاثة ، ويأتون بهم ملببين ، مهانين إلى المسجد ليبايعوا أبا بكر ..
وبعد أن تضايقت سكك المدينة بالرجال المسلحين من بني أسلم وغيرهم ، فإنه إن كان هناك أفراد يحبون نصرة الإمام علي «عليهالسلام» ، فكيف يمكنهم الوصول إليه؟! وقد أخذ الرجال عليهم أقطار الأرض ، وآفاق السماء؟!!
لقد كان ما جرى إنقلابا مسلحا بكل معنى الكلمة ، قام به أناس بعد وفاة النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وبعد إحساسهم بالأمن ، وبالقوة.
(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (١).
(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢).
__________________
(١) الآية ١٠ من سورة الفتح.
(٢) الآية ١٣ من سورة العنكبوت.
تذكير ضروري : الورع والتقوى :
وقد يدور بخلد بعض الناس السؤال التالي : إنه كيف يمكن أن نصدق أن يقدم عشرات الألوف من الصحابة على مخالفة ما رسمه النبي «صلىاللهعليهوآله» لهم في أمر الخلافة والإمامة. وهم أصحابه الذين رباهم على الورع والتقوى ، وقد مدحهم الله عزوجل في كتابه العزيز ، وذكر فضلهم ، وهم الذين ضحوا في سبيل هذا الدين ، وجاهدوا فيه بأموالهم وأنفسهم؟!
ونقول في الجواب :
إن ما يذكرونه حول الصحابة أمر مبالغ فيه. وذلك لأن الصحابة الذين حجوا مع النبي «صلىاللهعليهوآله» قبيل وفاته ، وإن كانوا يعدون بعشرات الألوف .. ولكن لم يكن هؤلاء جميعا من سكان المدينة ، ولا عاشوا مع النبي «صلىاللهعليهوآله» فترات طويلة ، تسمح له بتربيتهم وتزكيتهم ، وتعليمهم وتعريفهم بأحكام الإسلام ، ومفاهيمه.
بل كان أكثرهم من بلاد أخرى ، بعيدة عن المدينة أو قريبة منها ، وقد فازوا برؤية النبي «صلىاللهعليهوآله» هذه المرة ، ولعل بعضهم كان قد رآه قبلها أو بعدها بصورة عابرة أيضا ، ولعله لم يكن قد رآه.
ولعل معظمهم ـ بل ذلك هو المؤكد ـ قد أسلم بعد فتح مكة ، وفي عام الوفود ، سنة تسع من الهجرة : فلم يعرف من الإسلام إلا اسمه ، ومن الدين إلا رسمه ، مما هو في حدود بعض الطقوس الظاهرية والقليلة.
وقد تفرق هؤلاء بعد واقعة الغدير مباشرة ، وذهب كل منهم إلى أهله وبلاده.
ولم يبق مع رسول الله بعد حادثة الغدير ، الا أقل القليل ، ربما بضعة
مئات من الناس ، ممن كان يسكن المدينة.
وربما كان فيهم العديد من الخدم والعبيد ، والأتباع ، بالإضافة إلى المنافقين الذين هم ممن حولهم من الأعراب ومن أهل المدينة ، مردوا على النفاق ، ولم يكن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يعلمهم بصورة تفصيلية ، وكان الله سبحانه هو الذي يعلمهم (١).
قال تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (٢).
هذا إلى جانب فئات من الناس ، من أهل المدينة نفسها ، كانوا لا يملكون درجة كافية من الوعي للدين ، وأحكامه ومفاهيمه ، وسياساته ، بل كانوا مشغولين بزراعاتهم ، وبأنفسهم ، وتجاراتهم ، وملذاتهم ، فإذا رأوا تجارة أو لهوا ، انفضوا إليها ، وتركوا النبي «صلىاللهعليهوآله» قائما.
وقد تعرض كثير من الناس منهم لتهديدات النبي «صلىاللهعليهوآله» بحرق بيوتهم ، لأنهم كانوا يقاطعون صلاة الجماعة التي كان يقيمها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالذات ، كما أنه قد كان ثمة جماعة اتخذت لنفسها مسجدا تجتمع فيه ، وتركت الحضور في جماعة المسلمين ، وهو ما عرف بمسجد الضرار ، وقد هدمه «صلىاللهعليهوآله» ، كما هو معروف.
وتكون النتيجة هي أن من كان في ساحة الصراع والعمل السياسي في
__________________
(١) الظاهر : أنه لا يعلمهم في مقام الظاهر ، وفقا لوسائل العلم العادية ، أما بعلم الشاهدية ، فإنه كان «صلىاللهعليهوآله» يرى أعمال الخلائق ..
(٢) الآية ١٠١ من سورة التوبة.