السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٩
وفي جميع الأحوال نقول :
إن عدم نقل ذلك لا يدل على عدم وجوده ، ولا يستحق أن يشغل الناس بأمور كهذه.
الخوف من السيف :
قد ذكر النص المتقدم : أن الناس صنفان : إما خائف من السيف ، أو داخل في الإسلام. وهذا كلام غير دقيق. فإن الإسلام لم يزل يعلن للناس أنه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (١).
(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٢).
(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) (٣).
وآيات كثيرة أخرى ..
فالخائفون من السيف هم خصوص أولئك الذين يريدون أن يكونوا جبارين في الأرض ، ويواجهون النبي «صلىاللهعليهوآله» بالحرب ، لمنعه من إبلاغ دعوته ، ومنع من تبلغهم الدعوة من ممارسة حقهم في اختيار هذا الدين ، والإيمان به ، حتى أنهم يعاقبون من يفعل ذلك بالقتل ، وبالتعذيب ، وبالمقاطعة بجميع أنواعها وبكل ما يقع تحت اختيارهم.
__________________
(١) الآية ٢٥٦ من سورة البقرة.
(٢) الآية ٢٩ من سورة التوبة.
(٣) الآية ٢٧٢ من سورة البقرة.
أصغر القوم خادمهم :
وأما حديث أصغر القوم خادمهم ، فنحن نشك في صحته لا سيما وأن الخادم للقوم هو الذي يقدر على خدمتهم ، والقيام بحوائجهم ، والأصغر قد لا يكون كذلك في أحيان كثيرة ..
والمروي عن النبي «صلىاللهعليهوآله» : «سيد القوم خادمهم» (١). وهذا الحديث ، وإن حاول بعض أهل السنة تضعيفه سندا (٢) ، ولكنه يبقى هو المناسب لطبيعة الأمور ، فإن سيد القوم يكون بحسب العادة قادرا على قضاء حوائج الناس وتقديم الخدمات لهم ، إما مباشرة أو من خلال ما لديه من نفوذ ومكانة تجعل كلمته مسموعة ، وتجعله قادرا على استخدام وسائل مختلفة ..
وفود أسلم :
قال ابن سعد : قدم عمير بن أفصى في عصابة من أسلم ، فقالوا : «قد آمنا بالله ورسوله ، واتبعنا منهاجك ، فاجعل لنا عندك منزلة تعرف العرب
__________________
(١) من لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ٣٧٨ ومكارم الأخلاق للطبرسي ص ٢٥١ والبحار ج ٧٣ ص ٢٧٣ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ٥٩ و ٢٩٠ والجهاد لعبد الله بن المبارك ص ١٧٧ والجامع الصغير للسيوطي ج ٢ ص ٥٩ وكنز العمال ج ٦ ص ٧١٠ وج ٩ ص ٤٠ وفيض القدير للمناوي ج ٤ ص ١٦١ وكشف الخفاء للعجلوني ج ١ ص ٤٦٢ و ٤٦٣ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٢٠٩ وتاريخ بغداد ج ١٠ ص ١٨٥ وشرح السير الكبير للسرخسي ج ١ ص ٣٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٣ ص ٣١٣ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٣٠٢ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٠٩ وج ٣ ص ٢٦٧.
(٢) كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني ج ١ ص ٤٦٣.
فضيلتها ، فإنا إخوة الأنصار ، ولك علينا الوفاء والنصر في الشدة والرخاء».
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها».
وكتب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كتابا لأسلم ، ومن أسلم من قبائل العرب ، ممن يسكن السيف (١) والسهل ، وفيه ذكر الصدقة والفرائض في المواشي. وكتب الصحيفة ثابت بن قيس بن شماس. وشهد أبو عبيدة بن الجراح ، وعمر بن الخطاب (٢).
ونقول :
إننا لا نطمئن إلى صحة ما تقدم ، فلاحظ ما يلي :
الثناء على أسلم وغفار :
وأول ما نذكره هنا هذا الثناء على قبيلتي أسلم وغفار ، من دون أي مبرر ظاهر ، مع أن هاتين القبيلتين بالإضافة إلى جهينة ومزينة هم المعنيون بالآية : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) (٣). كما قاله عكرمة (٤).
وقد تحدثنا عن هذا الأمر في بعض أجزاء هذا الكتاب فراجع.
__________________
(١) أي سيف البحر.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٧٠ عن ابن سعد والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٥٤ وهو عند البخاري ج ٢ ص ٣٢ ومسلم ج ٤ ص ١٩٢٢ وراجع الإصابة ج ٣ ص ٢٩.
(٣) الآية ١٠١ من سورة التوبة.
(٤) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧١ عن ابن المنذر. وفتح القدير ج ٢ ص ٤٠١.
ولعل سبب هذا الثناء على قبيلة أسلم هو أنها هي التي كانت قد احتلت المدينة ، ومكنت لأبي بكر من غصب الخلافة من الوصي والولي المنصوب من قبل الرسول الأكرم «صلىاللهعليهوآله» في يوم الغدير بأمر من الله تعالى ، ولم يزل النص عليه بالإمامة والخلافة يتوالى منه «صلىاللهعليهوآله» طيلة أكثر من عشرين سنة. ولعلنا نشير إلى ما فعلته أسلم في التمكين لأبي بكر إن شاء الله تعالى (١).
أسلم إخوة الأنصار :
ثم إننا لم نستطع أن نفهم السبب في أنهم اعتبروا أنفسهم أخوة الأنصار .. فإن كان المقصود هو الأخوّة في الإيمان ، فإن هذا لا يجعل لهم امتيازا على من سواهم من سائر المسلمين ، لكي يطالبوا النبي «صلىاللهعليهوآله» بتمييزهم على من عداهم ، كما أنه لا يبرر تخصيصهم للأنصار بالأخوة ، فهم إخوة للمهاجرين أيضا.
وإن كان المقصود هو : أخوة خاصة ، فإن التاريخ لا يثبت لهم شيئا من ذلك.
طلب المنزلة الخاصة :
على أن طلبهم أن يكون لهم منزلة خاصة عند رسول الله «صلى الله
__________________
(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك (بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم) ج ٣ ص ٢٢٢ وتلخيص الشافي ج ٣ ص ٦٦ والبحار ج ٢٨ ص ٣٢٦ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ٣٢٦ و ٣٣١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٤٠ والجمل للمفيد ص ١١٩.
عليه وآله» يدل دلالة تكاد تكون واضحة على حب هؤلاء للدنيا ، وعلى أن لهم تعلقا خاصا بها ..
وذلك يقتضي أن يبادر «صلىاللهعليهوآله» إلى معالجة هذا الأمر فيهم .. إذ إنهم لم يفعلوا بعد أي شيء يستحقون به تلك المنزلة ، سوى أنهم قد آمنوا بالله ورسوله ، وهذا ما يفعله سائر الناس ، وقد سبقهم إليه غيرهم.
وفد بني هلال :
قالوا : وقدم على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفر من بني هلال ، فيهم عبد عوف بن أصرم بن عمرو ، فسأله عن اسمه ، فأخبره.
فقال : «أنت عبد الله» ، فأسلم.
ومنهم قبيصة بن المخارق قال : يا رسول الله ، إني حملت عن قومي حمالة ، فأعنّي فيها.
قال : «هي لك في الصدقة إذا جاءت» (١).
وروى مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة ، فأتيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أسأله فيها ، فقال : «أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها».
قال : ثم قال : «يا قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٥ وفي هامشه عن : الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ٧٤ وراجع : الإصابة ج ١ ص ٥٥٨ والمعجم الصغير للطبراني ج ١ ص ١٨٠.
اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو قال سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه (فيقولون) لقد أصابت فلانا فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو قال : سدادا من عيش ـ فما سواهن [من المسألة] يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا» (١).
ونقول :
لماذا غضب النبي صلىاللهعليهوآله؟! :
زعمت الرواية المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» غضب حين رأى زياد بن الحارث عند ميمونة ، ورجع ، فلما أخبرته ميمونة بأنه ابن أختها عاد فدخل إليها.
وهذا كلام يشك في صحته :
أولا : لأن المفروض أنه : لابد للنبي «صلىاللهعليهوآله» أن يحسن الظن بميمونة ، فإنها مسلمة يحمل فعلها على الصحة ، ومع شكه في الأمر ، فلما ذا غضب ، ثم بادر لاتخاذ قرار بالرجوع ، ورجع ، قبل أن يتحقق من صحة ما ظنه ، ولو بسؤال ميمونة عن ذلك الرجل الغريب ..
ثانيا : لماذا لم يبادر «صلىاللهعليهوآله» إلى طرد ذلك الرجل ، بدلا من أن يرجع؟! أو فقل : لماذا لم يسأله عن سبب دخوله إلى بيته؟!
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٠٣ وج ٦ ص ٤٢٥ وفي هامشه عن : مسلم ، كتاب الزكاة (١٠٩) وأبي داود (١٦٤٠) والنسائي ج ٥ ص ٨٩.
وفود بني عقيل بن كعب :
قال أشياخ من بني عقيل : وفد منا من بني عقيل على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ربيع بن معاوية بن خفاجة بن عمرو بن عقيل ، ومطرف بن عبد الله بن الأعلم بن عمرو بن ربيعة بن عقيل ، وأنس بن قيس بن المنتفق بن عامر بن عقيل ، فبايعوا وأسلموا ، وبايعوه على من وراءهم من قومهم ، فأعطاهم النبي «صلىاللهعليهوآله» العقيق ، عقيق بني عقيل ، وهي أرض فيها عيون ونخل ، وكتب لهم بذلك كتابا في أديم أحمر :
«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى محمد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ربيعا ومطرفا وأنسا ، أعطاهم العقيق ، ما أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وسمعوا وأطاعوا». ولم يعطهم حقا لمسلم [وكان الكتاب في يد مطرف] (١).
ونقول :
بايعوا على من وراءهم :
إن بيعة بني عقيل على من وراءهم من قومهم لعلها كانت مستندة إلى أن قومهم كانوا قد فوضوهم ، والتزموا بما يقررونه في وفادتهم تلك ، أو أنهم يثقون بقبول قومهم منهم.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٨٤ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ٦٦ و ٦٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٠٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٧٤.
إقطاع أرض فيها عيون ونخل :
وقد ذكر آنفا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أعطى العقيق لبني عقيل ، وهي أرض فيها عيون ونخل ..
وقد ذكرنا حين الحديث عن إقطاعات رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أن الظاهر هو أن المقصود بالنخيل أصولها ، أو تلك التي تركها أهلها ، وليس لها من يهتم بها ..
وربما يكون بنو عقيل هم الأقرب أو الأقدر على إحيائها من غيرهم ، بملاحظة ظروفهم وظروف غيرهم ..
وعن تصريح في الكتاب بقوله : «ولم يعطهم حقا لمسلم» نقول :
إن ذلك يقطع الطريق على أي احتمال ربما يتذرع به أهل الريب في هذا الإتجاه.
إقطاع مشروط :
وقد صرح الكتاب الذي كتبه لبني عقيل : بأن هذا الإقطاع مشروط بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والسمع والطاعة ، فمتى لم يقوموا بهذه الشروط سقطت مالكيتهم ..
وليس لأحد أن يعترض أو أن يناقش في هذا الإشتراط ، فإن الأرض لله ولرسوله ، وهو الذي يشرع ، ويقرر ، ويشترط.
وفود خولان :
قالوا : قدم وفد خولان (قبيلة في اليمن) وهم عشرة نفر في شعبان سنة
عشر ، فقالوا : يا رسول الله ، نحن مؤمنون بالله ، ومصدقون برسوله ، ونحن على من وراءنا من قومنا ، وقد ضربنا إليك آباط الإبل ، وركبنا حزون الأرض وسهولها ، والمنة لله ولرسوله علينا ، وقدمنا زائرين لك.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أما ما ذكرتم من مسيركم إلي ، فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة. وأما قولكم زائرين لك ، فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة».
فقالوا : يا رسول الله ، هذا السفر الذي لا توى عليه (أي لا هلاك).
ثم قال «صلىاللهعليهوآله» : «ما فعل عم أنس»؟ وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه.
قالوا : بشرّ وعرّ ، أبدلنا الله به ما جئت به ، ولو قد رجعنا إليه لهدمناه ، وبقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير ، وعجوز كبيرة متمسكون به ، ولو قد قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى ، فقد كنا منه في غرور وفتنة.
فقال لهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «وما أعظم ما رأيتم من فتنته»؟
قالوا : لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة ، فجمعنا ما قدرنا عليه ، وابتعنا مائة ثور ونحرناهم لعم أنس قربانا في غداة واحدة ، وتركناها تردها السباع ، ونحن أحوج إليها من السباع ، فجاءنا الغيث من ساعتنا ، ولقد رأينا العشب يواري الرجل ، فيقول قائلنا : أنعم علينا عم أنس.
وذكروا لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ما كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم ، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءا له ، وجزءا لله بزعمهم. قالوا : كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه ، فنسميه له ، ونسمي
زرعا أخر حجرة لله ، فإذا مالت الريح فالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس ، وإذا مالت الريح فالذي سميناه لعم أنس جعلناه لله.
فذكر لهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن الله عزوجل قد أنزل عليه في ذلك : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١).
قالوا : وكنا نتحاكم إليه فنكلم.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «تلك الشياطين تكلمكم».
قالوا : إنّا أصبحنا يا رسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ، ولا يدري من عبده ممن لم يعبده.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «الحمد لله الذي هداكم وأكرمكم بمحمد».
وسألوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن أشياء من أمر دينهم ، فجعل يخبرهم بها ، وأمر من يعلمهم القرآن والسنن ، وأمرهم بالوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وحسن الجوار ، وألا يظلموا أحدا.
قال : قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «الظلم ظلمات يوم القيامة.
وأنزلوا دار رملة بنت الحدث ، وأمر بضيافة ، فأجريت عليهم ، ثم جاؤوا بعد أيام يودعونه ، فأمر لهم بجوائز باثنتي عشرة أوقية ونشا ، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس ، وحرّموا ما حرّم
__________________
(١) الآية ١٣٦ من سورة الأنعام.
عليهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأحلوا ما أحل لهم (١).
ونقول :
إننا لا نرى أن ثمة حاجة للتعليق على ما ذكر آنفا ، فإنه واضح قريب المأخذ. ولا نجد فيه ما يثير الريب والشك.
وفود تجيب ، وهم من السكون :
وقدم وفد تجيب (وهم بطن من كندة) على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهم ثلاثة عشر رجلا ، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عزوجل ، فسر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بهم ، وأكرم منزلهم.
وقالوا : يا رسول الله ، سقنا إليك حق الله في أموالنا.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : «ردوها فاقسموها على فقرائكم».
قالوا : يا رسول الله ، ما قدمنا عليك إلا بما فضل من فقرائنا.
فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما قدم علينا وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : «إن الهدى بيد الله عزوجل ، فمن أراد الله به خيرا شرح صدره للإيمان».
__________________
(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٢٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٧٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ٣١٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٣١ و ٣٣٢ وفي هامشه عن : البخاري ج ٣ ص ١٦٩ والترمذي (٢٠٣٠) ومسند أحمد ج ٢ ص ١٣٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٩٣.
وراجع : المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ٢١٩ و ٢٢٠.
وسألوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أشياء فكتب لهم بها ، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن ، فازداد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فيهم رغبة ، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم.
فأقاموا أياما ، ولم يطيلوا اللبث.
فقيل لهم : ما يعجلكم؟
قالوا : نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وكلامنا إياه. وما رد علينا.
ثم جاؤوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يودعونه ، فأمر بلالا فأجازهم بأرفع مما كان يجيز به الوفود ، وقال : «هل بقي منكم أحد»؟
قالوا : غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنا.
قال : «أرسلوه إلينا».
فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام : انطلق إلى رسول الله ، فاقض حاجتك منه ، فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه.
فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فقال : يا رسول الله ، إني غلام من بني أبذى من الرهط الذين أتوك آنفا ، فقضيت حوائجهم ، فاقض حاجتي يا رسول الله.
قال : «وما حاجتك»؟
قال : «يا رسول الله ، إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي ، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام ، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم ، وإني والله ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل الله عزوجل أن يغفر لي ، ويرحمني ، وأن يجعل غناي في قلبي».
فقال «صلىاللهعليهوآله» : «اللهم اغفر له وارحمه ، واجعل غناه في قلبه».
ثم أمر به بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه.
فانطلقوا راجعين إلى أهليهم ، ثم وافوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بمنى سنة عشر ، فقالوا : نحن بنو أبذى ، فسألهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن الغلام ، فقالوا : يا رسول الله ، والله ما رأينا مثله قط ، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله. لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «الحمد لله ، إني لأرجو أن يموت جميعا».
فقال رجل منهم : أو ليس يموت الرجل جميعا؟
فقال «صلىاللهعليهوآله» : «تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا ، فلعل أجله يدركه في بعض تلك الأودية ، فلا يبالي الله عزوجل في أيها هلك».
قالوا : فعاش ذلك الرجل فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا ، وأقنعه بما رزقه الله.
فلما توفي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام ، قام في قومه فذكرهم الله والإسلام ، فلم يرجع منهم أحد. وجعل أبو بكر يذكره ، ويسأل عنه حتى بلغه حاله ، وما قام به. فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا (١).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٨٥ و ٢٨٦ والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ـ
الإكتفاء الذاتي في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله :
ونلاحظ أن النص المتقدم قد صرح : بأن تلك القبيلة قد استغنى فقراؤها حين أخذت الزكاة من أغنيائها ووزعت عليهم ، وبقيت لديها أموال لم تجد لها موردا تصرفها فيه ، فحملتها إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وذلك يشير إلى أن ما شرعه الإسلام في أمر الأموال يحقق العدالة الإجتماعية ، ويكفي لاقتلاع جذور الفقر من بين البشر ، فإن الكل يعلم أنه لا خصوصية لقبيلة تجيب السكونية في المجتمع العربي ، فما يجري في هذه القبيلة وعليها يجري في غيرها ، خصوصا في الشأن المعيشي.
وقد ورد في بعض الأخبار ما يدل على أن الناس لو التزموا بأحكام الله وشرائعه ، وعملوا بما فرضه الله في الأموال ، وأخرجوا حق الله منها ، وأوصلوه إلى أهله لم يبق في الدنيا فقير على الإطلاق ، ومن هذه النصوص قول أمير المؤمنين «عليهالسلام» : «ما جاع فقير إلا بما متع به غني» (١).
__________________
ج ٥ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٤ عن الديلمي ، واليعمري ، وراجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٩٣ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٤٥ عن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٦٠ وعن السيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٣٢ وعن الطبقات الكبرى ج ١ ق ٢ ص ٦٠ و ٦١ ورسالات نبوية ص ٣٧ و ٣٨ ومعجم القبائل ج ١ ص ١١٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٣٠٢.
(١) نهج البلاغة ج ٤ ص ٧٨ الخطبة رقم (٣٢٨) ومستدرك الوسائل ج ٧ ص ٩ والغدير ج ٨ ص ٢٥٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٩ ص ٢٤٠ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليهالسلام» للريشهري ج ٤ ص ٣٠ و ٢٠٣ والبحار ج ٩٣ ص ٢٢ وروائع نهج البلاغة لجورج جرداق ص ٢٣٣.
أو «ما جاع فقير إلا بما منع غني» (١).
وفي رواية عن أبي الحسن الأول «عليهالسلام» يقول في آخرها بعد أن ذكر أصناف المستحقين وسهامهم : «فلم يبقى فقير من فقراء الناس ، ولم يبق فقير من فقراء قرابة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلا وقد استغنى فلا فقير» (٢).
حديث الرجل من بني أبذى :
وقد لفت نظرنا أيضا : أنه برغم أهمية قصة ذلك الرجل الذي هو من بني أبذى ، فإن الروايات المتقدمة قد عجزت عن ذكر اسمه لنا ، مع انهم يذكرون لنا اسماء من ليس له أثر يستحق الذكر على الإطلاق. فلما ذا كان ذلك؟! لا ندري!!
__________________
(١) البحار ج ٩٣ ص ٢٢ وروضة الواعظين للفتال النيسابوري ص ٤٥٤ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٩ ص ٢٩ و (ط دار الإسلامية) ج ٦ ص ١٦ ومشكاة الأنوار لعلي الطبرسي ص ٢٢٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ٨ ص ٣٦ ومستدرك سفينة البحار ج ٤ ص ٢٩٤ وينابيع المودة ج ٢ ص ٢٤٩ والجامع للشرايع للحلي ص ١٥٢ وعيون الحكم للواسطي ص ١٥٣ ومشكاة الأنوار للطبرسي ص ٢٢٨.
(٢) تهذيب الأحكام ج ٤ ص ١٣١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٩ ص ٥١٤ و (ط دار الإسلامية) ج ٦ ص ٣٥٩ عن أصول الكافي ج ١ ص ٥٤٢ وشرح أصول الكافي ج ٧ ص ٣٩٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ٨ ص ٦١ و ٥٨٦ وذخيرة المعاد (ط. ق) للمحقق السبزواري ج ١ ق ٣ ص ٤٨٦.
الفصل التاسع :
وفد نجران .. أحداث وتفاصيل
ماذا عن نجران؟! :
قالوا : «نجران : بلد كبير يقع على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن ، يشتمل على ثلاث وسبعين قرية ، مسيرة يوم للراكب السريع ـ كما في فتح الباري ـ والأخدود المذكور في القرآن قرية من قراها» (١).
وقالوا : إنه هو من مخاليف اليمن بالقرب من صنعاء ، ما بين عدن وحضرموت (٢).
وكل أهل نجران صنفين : نصارى وأميين ؛ فأما النصارى فنحن نتحدث عنهم ، وقد صالحهم. وأما الأميون منهم ، فبعث إليهم خالد بن الوليد ، فأسلموا ، وقدم وفدهم على النبي «صلىاللهعليهوآله» .. (٣).
كتاب دعوة .. ووفد استطلاع :
وكتب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى أهل نجران قبل أن ينزل
__________________
(١) راجع : شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٨٦ وراجع : السيرة النبوية لدحلان والسيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٢١ ومعجم ما استعجم للأندلسي ج ١ ص ١٢١.
(٢) راجع : نهاية الإرب ص ١٩ ومعجم البلدان ج ٥ ص ٢٦٦.
(٣) قد تقدم الحديث حول هذا الأمر في هذا الكتاب.
عليه : (طس) (١). (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٢) ما يلي :
«بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، من محمد النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى أسقف نجران وأهل نجران ، إن أسلمتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
أما بعد .. فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» (٣).
والظاهر : أن المبعوث إليه هذا الكتاب هو الأسقف أبو حارثة بن علقمة ، فإنه كان هو الرأس فيهم.
فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه قطع به ، وذعر ذعرا شديدا. فبعث إلى
__________________
(١) الآية ١ من سورة النمل.
(٢) الآية ٣٠ من سورة النمل.
(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤١٥ عن البيهقي ، ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٨٩ عن المصادر التالية : البداية والنهاية ج ٥ ص ٥٣ عن البيهقي ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٥ وفي (ط أخرى) ص ٧٠ وصبح الأعشى ج ٦ ص ٣٦٧ وفي (ط أخرى) ص ٣٨١ وفي (ط ثالثة) ص ٣٨٨ وحياة الصحابة ج ١ ص ١١٨ ورسالات نبوية ص ٦٠ ومآثر الإنافة ج ٣ ص ٢٣٧ وزاد المعاد ج ٣ ص ٣٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٣٨٥ والدر المنثور ج ٢ ص ٣٨ عن الدلائل للبيهقي ، وناسخ التواريخ سيرة النبي «صلىاللهعليهوآله» ص ٤٤٨ والبحار ج ٢١ ص ٢٨٥ عن السيوطي و ٢٨٧ عن الإقبال وج ٣٥ ص ٢٦٢ عن البيهقي ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ٥٠ وجمهرة رسائل العرب ج ١ ص ٧٦ ومدينة العلم ج ٢ ص ٢٩٧ وتفسير الميزان ج ٣ ص ٢٥٥ وتفسير ابن كثير ج ١ ص ٣٧٧ ولباب النقول للسيوطي ص ٥٢. ومجموعة الوثائق السياسية ص ١٧٤ / ٩٣ عن جمع ممن قدمناه ، وعن المصباح المضيء كلمة نجران.