السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٢
رسول الله الخندق مروا بكدية ، فتناول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المعول من يد أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، أو من يد سلمان ، فضرب بها ضربة ، فتفرق بثلاث فرق.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : لقد فتح الله عليّ في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر.
فقال أحدهما لصاحبه : يعدنا كنوز كسرى وقيصر ، وما يقدر أحدنا يخرج يتخلى (١).
والمراد بأحدهما وصاحبه : هو أبو بكر وعمر ، ولم يذكر اسميهما صراحة تقية.
ونقول :
لكن هذه الرواية : تخالف ما تقدم عن ابن الوردي وزيني ودحلان ، من أن الذي قال ذلك : هو معتب بن قشير ، أو عبد الله بن أبي.
نص آخر يخالف ما سبق :
ويقولون أيضا : كان عمر بن الخطاب يضرب يومئذ بالمعول فصادف حجرا صلدا ، فأخذ «صلىاللهعليهوآله» منه المعول ، وهو عند جبل بني عبيد فضربه ، فذهبت أولها برقة إلى اليمن ، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة إلى الشام ، ثم ضرب ثالثة فذهبت برقة نحو المشرق ، وكسر الحجر عند الثالثة.
__________________
(١) بحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٧٠ و ٢٧١ عن الكافي.
فكان عمر بن الخطاب يقول : والذي بعثه بالحق ، لصار كأنه سهلة (رمل ليس بالدقاق).
وكان كلما ضرب ضربة يتبعه سلمان ببصره ، فيبصر عند كل ضربة برقة ، فسأله عن ذلك ، فأخبره «صلىاللهعليهوآله» : أنه رأى في الأولى قصور الشام ، وفي الثانية قصور اليمن ، وفي الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن. وجعل يصفه لسلمان ؛ فصدقه سلمان ، وشهد له بالرسالة.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : هذه فتوح يفتحها الله عليكم بعدي يا سلمان لتفتحن الشام ، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته ، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد ولتفتحن اليمن ، وليفتحن هذا المشرق ، ويقتل كسرى بعده.
قال سلمان : فكل هذا قد رأيت (١).
ونقول :
إن هذا النص ـ كما ترى ـ يخالف جميع النصوص الأخرى الواردة في كتب الصحاح ، والمسانيد ، وفي كتب التاريخ ، التي سجلت لنا هذا الحدث الهام.
حيث إنه يذكر : أن عمر بن الخطاب هو الذي صادف الحجر الصلد ، الذي ضربه النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فبرقت البرقات الثلاث.
مع أن النصوص التي أوردتها سائر المصادر المعتبرة بالأسانيد الموثوقة : قد
__________________
(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٠ و ٤٤٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٣ واشار إليه في سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٩ و ٥٢٠ عن الواقدي ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٨.
نصت على أن القضية بجميع فصولها وخصوصياتها ، وجزئياتها قد كانت مع سلمان الفارسي.
بل قد ذكر النص الذي أوردناه أولا : أسماء ثلاثة ليس عمر بن الخطاب أحدهم. ثم صرح بأن الستة الباقين جميعهم من الأنصار.
بل إن نفس هذا النص الذي ذكرناه آنفا ، والذي أراد حشر اسم الخليفة الثاني في هذه القضية ، قد عاد والتزم جانب سلمان ، بمجرد أن أخذ النبي «صلىاللهعليهوآله» المعول ليضرب به ذلك الحجر ولم يعد لعمر فيه أي دور يذكر.
وكل ذلك يعطينا : أن ذكر اسم الخليفة الثاني هنا قد جاء سهوا من الراوي ، ولعل ثمة حاجة في النفس قضيت.
القيادة الحازمة ، والإنضباط أساس النجاح :
وبعد ، فإن سيطرة القيادة النبوية الشريفة على الموقف وإشرافه «صلىاللهعليهوآله» على كل تحرك وتصرف ، واستتباب حالة الانضباط التام لدى الفئات التي كانت تعمل معه وتحت قيادته ، له تأثير كبير في حسم الموقف ، وفقا لما ترسمه القيادة ويحقق أهدافها.
وقد تجلت الهيمنة القيادية للرسول الأعظم «صلىاللهعليهوآله» في أكثر من مجال في غزوة الأحزاب.
وقد قرأنا آنفا : أنهم حين ظهرت الكدية والصخرة ، قالوا : إنهم ما كانوا يتجاوزون ما خطه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أبدا ، رغم أن المعدل قريب.
وتقدم أيضا : أن أحدا لم يكن يترك موضعه وعمله لحاجة يريدها إلا أن يأذن له النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله». وهذا هو ما طالب به أمير المؤمنين «عليهالسلام» بعض أصحابه في صفين ، حين قال له : طاعة إمامك أوجب عليك من مبارزة عدوك ، ونجد أمثال هذه الكلمة في مغزاها ومرماها الكثير في مختلف المواضع والمواقع.
وهذا الانضباط هو الضمانة للنجاح في أية خطة ترسم ، إذ إن القبول بالانسياق وراء الاجتهادات المختلفة يفقد القيادة الثقة بإمكانية تحقيق أية خطة تضعها للمواجهة ، ثم هو يفسح المجال لتمرير بعض الخدع التي تفيد الأعداء ، وتهيئ لهم الظرف الملائم لتسديد ضرباتهم الموجعة ، والخطيرة في أحيان كثيرة.
أضف إلى ذلك : ما يمكن أن ينشأ عن ذلك من منافسات ثم من نزاعات ، إلى أن ينتهي الأمر إلى التراشق بالتهم وتصدع الصف الواحد ، الذي يفترض أن يكون كالبنيان المرصوص.
ولم ينس المسلمون بعد ، ما أصابهم في حرب أحد حيث تسبب الرماة والذين تركوا مراكزهم على ثغرة الجبل بكارثة حقيقية مني بها المسلمون كما سبق بيانه.
ومهما يكن من أمر : فإن الانضباط في غزوة الأحزاب ، والتقيد بأوامر النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله» قد هيأ الفرصة لتحقيق النجاح الكبير الذي غير مسار تاريخ المواجهة مع المشركين ، حتى قال النبي «صلىاللهعليهوآله» : الآن نغزوهم ولا يغزوننا كما سيأتي ذلك مع مصادره في الفصل الأخير من هذا الباب إن شاء الله.
نقول هذا رغم أننا نجد المنافقين : يحاولون التملص من تحمل مسؤولياتهم ، ويختلقون الذرائع والحجج المختلفة لذلك ، ولكن ذلك كان يتم وفقا لقوانين الانضباط أيضا ، فقد كانوا يورون بالضعيف من العمل ، وكانوا يستأذنون لحاجات وهمية ، وما إلى ذلك ، ولكنه كله كان تحت سمع وبصر القيادة وفي نطاق علمها ، وسيطرتها على الموقف كما هو معلوم.
مدائن كسرى وقصور الروم وصنعاء :
إننا حين نقرأ هذه القضية نشعر : أن المسلمين كانوا يواجهون أكبر تجمع لقوى الشرك ، ويتهيأون للدفاع عن وجودهم وحياتهم وهم يشعرون بعظيم الخطر الداهم ، وتختلف في نفوسهم عوامل اليأس تارة ، وعوامل الرجاء تارة أخرى.
ولعل المنافقين ، ومن وراءهم اليهود ، قد أسهموا بتضعيف عوامل الرجاء بما أشاعوه وأذاعوه مما يؤكد ويقوي حالة التشاؤم إلى درجة اليأس لدى الكثيرين ممن لم ترسخ لهم بعد قدم في الإيمان والتسليم ، والتوكل.
فتأتي قصة رؤية قصور الحيرة والروم وصنعاء ، ومدائن كسرى حينما ضرب النبي «صلىاللهعليهوآله» تلك الصخرة المستعصية في الخندق ضربات ثلاثا ـ تأتي ـ لتعيد للمسلمين ثقتهم بأنفسهم وبربهم ، وتطلعاتهم ونظراتهم القوية والثاقبة للمستقبل ، ويبتعد حينئذ تلقائيا شبح الخوف المذل والاستسلام الخانع لعوامل اليأس ، التي لو تمكنت وترسخت فيهم لجرتهم إلى مزالق الذل ، ولكان ذلك سببا في ذهاب ريحهم وسقوطهم في حمأة الهوان ، والبوار.
إذ إن الحادثة قد استنبطت : أن ما هم فيه ما هو إلا «سحابة صيف عن قريب تقشع» وأنهم سيخرجون من هذه الضائقة التي يواجهونها مرفوعي الرأس ، ليواصلوا مسيرتهم الظافرة من نصر إلى نصر ، ومن فتح إلى فتح ، حتى ينتهي بهم الأمر إلى فتح الفتوح ، حيث تفتح لهم البلاد ، وتدخل العباد في دينهم أفواجا ، ويملكون كنوز كسرى وقيصر ، حسبما أخبرهم به الرسول «صلىاللهعليهوآله» منذ فجر دعوته في مكة.
ومما يدخل في هذا السياق : ما روي من أنه «صلىاللهعليهوآله» قال يوم الخندق لأصحابه : لئن أمسيتم قليلا ، لتكثرن ، وإن أمسيتم ضعفاء لتشرقن ، حتى تصيروا نجوما يهتدى بكم ، وبواحد منكم (١).
الأمل بالنصر :
وذلك كله يوضح لنا : سر اطمئنان المؤمنين بنصر الله لما رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة ، وضيقوا عليها الخناق ، فلم ينهزموا أمام كل تلك الحشود ، وما وهنوا لما أصابهم ، بل واجهوا ذلك بكل صلابة عزم ، وبكل تصميم قاهر ، تحدث الله عنه سبحانه حينما قال :
(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٢)» (٣).
أما المنافقون ، فاتخذوا ما أخبر به النبي «صلىاللهعليهوآله» ذريعة
__________________
(١) الخرائج والجرائح ج ١ ص ٦٦.
(٢) الآية ٢٢ من سورة الأحزاب.
(٣) فتح الباري ج ٧ ص ٣٠٥.
للمزيد من السخرية ، والتندر والاستهزاء ، الذي يعبر عن انهزامهم النفسي والروحي أمام القوى الغازية قال تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (١).
كرم وكرامة :
وقضية وليمة جابر في الخندق تروى بنصوص مختلفة نلخصها فيما يلي :
قال جابر : رأيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يحفر ، ورأيته خميصا ورأيت بين عكنه الغبار ؛ فاستأذن من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يذهب إلى بيته ، فأذن له فعاد إلى امرأته ـ واسمها سهيلة بنت مسعود الأنصارية ـ فاتفق معها على أن يصلحا ما عندهما ، وهو مد من شعير ، وعناق (شاة) أو شويهة غير سمينة. ثم يدعو النبي «صلىاللهعليهوآله» للطعام.
فذهب ليدعوه مع رجل أو رجلين ؛ فسأله النبي «صلىاللهعليهوآله» عما عنده فأخبره ؛ فقال «صلىاللهعليهوآله» : كثير طيب.
ثم دعا أهل الخندق جميعا ، وقال لهم : إن جابرا قد صنع لهم سورا ؛ فأقبلوا معه.
قال جابر : فقلت : والله إنها الفضيحة.
فأتيت المرأة فأخبرتها (أي بأنه «صلىاللهعليهوآله» قد جاءها بالجند أجمعين ، أو قد جاءك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وأصحابه أجمعون).
فقالت : أنت دعوتهم ، أو هو دعاهم؟
__________________
(١) الآية ١٢ من سورة الأحزاب.
فقلت : بل هو دعاهم.
قالت : دعهم ، هو أعلم.
وفي نص آخر : أنها سألته إن كان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد سأله عما عنده.
فأجابها بالإيجاب ، فقالت له ذلك.
وذكرت نصوص أخرى : أنه «صلىاللهعليهوآله» أقبل وأمر أصحابه ، فكانوا فرقا عشرة عشرة ، ثم قال اغرفوا وغطوا البرمة ، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه. ففعلوا ، فجعلوا يغرفون ، ثم يغطون البرمة ، ثم يفتحونها فلا يرون أنها نقصت شيئا ، ويخرجون الخبز من التنور ، ثم يغطونه فما يرونه ينقص شيئا ؛ فأكل الجميع حتى شبعوا.
وقال «صلىاللهعليهوآله» : كلوا واهدوا ، فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة فأكلنا وأهدينا.
وفي نص آخر : فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع ، فلما خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ذهب ذلك.
ولهذه الرواية : نصوص تختلف من حيث التفصيل والإختصار ، لم نر حاجة إلى إيرادها ، ويمكن لمن يريد ذلك أن يراجع المصادر التي في الهامش (١).
__________________
(١) راجع النصوص المختلفة لهذه القضية في : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٦ ـ ١٩٠ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٧٨ و ١٧٩ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢١٩ و ٢٢٠ و ١٩٨ و ١٩٩ وج ١٨ ص ٢٦ ج ٧ وص ٣٢ حديث ٢٥ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٦ و ٤١٥ و ٤٢٧ ومستدرك الحاكم ج ٣ ـ
وقد صرحت بعض المصادر : بأن الذين أكلوا عند جابر كانوا ألف رجل ، وهم جميع أهل الخندق.
وقيل : كانوا ثلاث مئة ، وقيل : ثمان مئة ، وقيل : تسع مئة (١).
وفي بعض النصوص : حتى شبع المسلمون كلهم.
__________________
ـ ص ٣١ وراجع : تاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٤ و ٢٣٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٩ و ٣٣٠ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٧ ـ ٩٩ عن البخاري ، وأحمد ، والبيهقي ، وابن أبي شيبة ، ومسلم ، وابن إسحاق وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٠ و ٥٢١ عمن تقدم ، وعن الحاكم والطبراني وحدائق الأنوار ج ١ ص ٢١٢ وج ٢ ص ٥٩٢ وشرح الشفاء للقاري (ط سنة ١٢٦٤) ج ١ ص ٢٤٥ و ٢٤٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٧ و ٥٨ ودلائل النبوة لابن نعيم ص ٣٥٨ و ٣٦٠ والشفاء ج ١ ص ٢٩١ وإعلام الورى (ط دار المعرفة) ص ٣٦ وصحيح مسلم ، كتاب الأشربة ، باب جواز استتباعه غيره والخرايج والجرايح ج ١ ص ٢٧ و ١٥٢ ـ ١٥٤ وإثبات الهداة ج ٢ ص ٨٨.
(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ٩٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٨ و ١٨٩ و ١٩٠ عن البخاري وابن أبي شيبة وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢١ و ٥٦٤ ودلائل النبوة لأبي نعيم ص ٣٦٠ والشفاء ج ١ ص ٢٩١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٢٤ و ٤٢٦ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٥ ، وراجع : تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٩ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦١ وإعلام الورى ص ٩٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٣٣ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٤ و ٢٣٥ والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١٣٤ و ١٣٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٧ و ٥٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٤ وحدائق الأنوار ج ١ ص ٥٣ و ٢١٢ وج ٢ ص ٥٩٢.
زاد ابن شهر آشوب : فلم يكن موضع للجلوس ، فكان يشير إلى الحائط ، والحائط يبعد ، حتى تمكنوا ، فجعل يطعمهم بنفسه (١).
وفي نص آخر : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال : هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟
فدلوه على رجل ، فذهب إلى بيته ، ولكنه كان في الخندق يعالج نصيبه ، فأرسلت إليه امرأته ، فأقبل يسعى ، فذبح لهم جديا كان عنده فأكل منه عشرة ، ثم ذهبوا ، وجاء عشرة آخرون فأكلوا.
«ثم قام «صلىاللهعليهوآله» ودعا لربة البيت ، وسمت عليها ، وعلى أهل بيتها» (٢).
قضية أخرى فيها كرامة لرسول الله صلىاللهعليهوآله :
وأرسلت أم متعب (أو أم عامر) الأشهلية بقعبة فيها حيس (٣) إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وهو في قبته مع أم سلمة ، فأكلت حاجتها ، ثم خرج بالقعبة فنادى مناديه : هلم إلى عشائه ، فأكل أهل الخندق حتى
__________________
(١) دلائل النبوة لأبي نعيم ص ٣٦٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٨ وراجع : الخرائج والجرائح ج ١ ص ١٥٤ و ١٥٥ والبحار ج ١٨ ص ٣٢ حديث ٢٥ والمناقب لابن شهراشوب ج ١ ص ١٠٣.
(٢) السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٣ و ١٩٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠١ و ١٠٠ عن الطبراني ، وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٠٥.
(٣) الحيس : طعام متخذ من التمر والسمن ، والدقيق والفتيت.
نهلوا ، وهي كما هي (١).
كرامة أخرى للنبي صلىاللهعليهوآله :
وبعث أبو طلحة إنسانا بأقراص من الشعير تحت إبطه ، ففتها «صلىاللهعليهوآله» وأطعم منها ثمانين (٢).
يطعم الجيش كله حفنة من تمر :
ومما ذكره في هذا السياق : أن ابنة بشير بن سعد (٣) جاءت بحفنة من تمر إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة ؛ فرآها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهي تلتمس أباها وخالها ، فأخذ ذلك منها في كفه فما ملأتها ، ثم أمر بثوب فبسط له ، ثم دحا بالتمر عليه ، فتبدد فوق الثوب.
ثم أمر جعال بن سراقة ، فصرخ في أهل الخندق : أن هلم إلى الغداء ؛ فاجتمعوا ، فجعلوا يأكلون منها ، وجعل يزيد ، حتى صدر أهل الخندق عنه ، وأنه ليسقط من أطراف الثوب (٤).
__________________
(١) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٢ عن ابن عساكر ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣٠.
(٢) حدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٢ وسنن الدارمي ج ١ ص ٢١ و ٢٢ (المقدمة).
(٣) هي أخت النعمان بن بشير.
(٤) راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٨ و ٢٢٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢١ و ٥٢٢ عن أبي نعيم ، وابن إسحاق والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٠ و ١٦١ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٠ و ١٦١ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٥ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٠ و ١٩١ والبداية ـ
كرامة أخرى لرسول الله صلىاللهعليهوآله :
عن معاوية بن الحكم قال : لما أجرى أخي علي بن الحكم فرسه فدق جدار الخندق ساقه ، فأتينا به إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على فرسه ، فقال : بسم الله ، ومسح ساقه ، فما نزل عنها حتى برئ (١).
بين نظرتين :
ألف : ويلفت نظرنا في قصة جابر : أن جابرا قد تصرف وفق ما وجد أنه متوفر لديه من معطيات مادية ، حيث رأى أن ما عنده لا يكفي إلا لعدد يسير من الأشخاص ، ولكن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لم يكن ليجعل نفسه أسيرة للأسباب المادية في حدودها الظاهرة.
بل تجاوز ذلك ليتعامل مع مسبب الأسباب ، ومفيض الوجود مباشرة ، وهو الله سبحانه ، ولم يكن الله ليبخل على نبيه «صلىاللهعليهوآله» في وقت يحتاج فيه هؤلاء الناس إلى الشعور برعاية الله سبحانه لهم.
وحتى مع إغماض النظر عن ذلك كله ، في الأسوة والقدرة ، لم يكن
__________________
ـ والنهاية ج ٤ ص ٩٩ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٥ وجوامع السيرة النبوية ص ١٤٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٢٧ ودلائل النبوة لابي نعيم ص ٤٣٣ والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١٣٤ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٦ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٤٧ والخرائج والجرائح ج ١ ص ١١٠ و ١٢٣ وفيه : أنها أخت عبد الله بن رواحة وكذا في مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٠٢.
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٢ عن الطبراني ، وأبي القاسم البغوي.
ليميز نفسه عن الناس ، بل هو سوف يواسيهم بنفسه فيما قل وكثر ، وفيما صغر وكبر. وذلك هو ما تمليه عليه التعاليم والمبادئ التي جاء بها من عند الله جل وعلا.
والذي يستأثر بإعجابنا العميق هو تلك اللفتة الواعية من زوجة جابر ، والتي تظهر لنا أيضا مدى إيمان هذه المرأة ومدى تسليمها لرسول الله «صلىاللهعليهوآله». كما أنها تحكي لنا طبيعة ونوعية وسنخ اعتقادها بهذا الرسول الكريم والعظيم.
وذلك حينما أخرجت زوجها جابرا من حيرته المحرجة بسؤالها له : إن كان النبي «صلىاللهعليهوآله» قد علم بمقدار الطعام المتوفر عندهم ، فأجابها بالإيجاب ، فقالت : الله ورسوله أعلم.
ومن يدري فلعل النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله» قد عرف أن هذا الإخلاص من جابر وزوجته ، ثم الإيثار منه «صلىاللهعليهوآله» ، وحبه لأصحابه ، وإقدامه على تقسيم هذا القليل من الطعام معهم ، ثم إخلاص صحابته الأخيار في دفاعهم عن أنفسهم ، وعن كرامتهم ، وشرفهم ودينهم ، ونبيهم ، وهذه المتاعب الكبيرة ، والمصاعب الخطيرة التي تواجههم ، بالإضافة إلى أن الله سبحانه لن يخيب نبيه ووليه وصفيه ،
نعم .. إن ذلك كله إذا اقترن بأن اللطف الإلهي لا بد أن يظهر في هذه الفترة العصيبة بالذات ليطمئن المؤمنون إلى نصر الله سبحانه ، فإن زيادة الطعام الذي قدمه جابر ، حتى ليأكل المسلمون كلهم حاجتهم منه ، تصبح أمرا مقبولا ومعقولا ، وفي محله ..
التزوير الرخيص :
زعم الشعراني : «أنه شاهد شيخه الشيخ محمد الشنّاوي ، وقد جاء من الريف ، ومعه نحو خمسين رجلا ، ونزل بزاوية شيخه الشيخ محمد السروي ، فتسامع مجاورو الجامع الأزهر بمجيئه ، فأتوا لزيارته ، فامتلأت الزاوية ، وفرشوا الحصر في الزقاق.
ثم قال لنقيب شيخه : هل عندك طبيخ؟!
قال : نعم ، الطبيخ الذي أفعله لي ولزوجتي.
وقال له : لا تغرف شيئا حتى أحضر.
ثم غطى الشيخ الدست بردائه ، وأخذ المغرفة ، وصار يغرف إلى أن كفى من في الزاوية ، ومن في الزقاق. وهذا شيء رأيته بعيني» (١).
ونحن إذا قارنّا بين هذا الكلام وبين قضية وليمة جابر ، فإننا نجد أن هذا النص أراد أن يعطي الشناوي نفس الكرامة التي ثبتت لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين استجاب لدعوة ذلك الرجل الصالح «رحمهالله».
والذي يستوقفنا هنا : ثقة الشنّاوي بحصول الكرامة له ، وكأنه يمارس عملا عاديا لا يشك في انتهائه إلى النتيجة التي يريدها. تماما كما كان الحال بالنسبة للنبي «صلىاللهعليهوآله» في الخندق.
وليت شعري لماذا لم يشتهر أمر الشنّاوي في الآفاق ، وتسير به الركبان من بلد إلى بلد ، ويصبح قبره كقبر النبي «صلىاللهعليهوآله» في المدينة المنورة تشد إليه الرحال ، وتقصده النساء والرجال من أقصى بلاد المعمورة؟
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣١.
مع أننا نجدهم يقصدون زيارة قبور أناس صالحين لم تظهر لهم حتى ولو كرامة واحدة من هذا القبيل!!
الجهد ، والضعف والجوع :
قد تحدثت النصوص التي سلفت في هذا الفصل ، وفي غيره من الفصول ، عن المعاناة التي كان يتعرض لها المسلمون بسبب شحة الأقوات في تلك السنة بالذات حيث : «كان المسلمون قد أصابهم مجاعة شديدة ، وكان أهلوهم يبعثون إليهم بما قدروا عليه» (١).
وذكر نص آخر : أن حفر الخندق كان في زمان عسيرة ، وعام مجاعة حتى أن الأصحاب كانوا يشدون على بطونهم الحجر من الجهد والضعف الذي بهم من الجوع ، ويقول البخاري : إنهم لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا ، وكذا النبي «صلىاللهعليهوآله» (٢).
وفي نص آخر : «يأتون بملء كفي شعير ، فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم ، والقوم جياع ، وهي بشعة في الحلق ، ولها ريح منتن» (٣).
__________________
(١) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٦.
(٢) راجع مصادر حديث جابر الذي أوردناه في فقرة : كرم وكرامة. وراجع أيضا : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢.
(٣) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٦ عن البخاري ، وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٤٥ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٢ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٧.
ويقول أبو طلحة : «شكونا إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الجوع ، ورفعنا عن بطوننا عن حجر ، حجر ، فرفع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن بطنه حجرين» (١).
ويقول نص آخر : «وكانوا في قر شديد وجوع» (٢).
وعن علي أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، قال : «كنا مع النبي «صلىاللهعليهوآله» في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة ، ومعها كسرة خبز ، فدفعتها إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» وقال النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام : ما هذه الكسرة؟!
قالت : قرصا خبزتها للحسن والحسين ، جئتك منه بهذه الكسرة.
فقال النبي «صلىاللهعليهوآله» : أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث (٣).
ولنا هنا وقفات :
الأولى : النبي صلىاللهعليهوآله وصوم الوصال :
لقد ذكروا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» نهى عن صوم الوصال ، فقالوا له : ما لك تواصل يا رسول الله؟!
قال : إني لست مثلكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني.
__________________
(١) السيرة النبوية للندوي ص ٢٨٢ عن الترمذي.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٩.
(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٤٠ وذخائر العقبى ص ٤٧ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٤٥ وصحيفة الإمام الرضا «عليهالسلام» ط دار الأضواء ص ٧١ و ٧٢.
قال ابن حبان : ويستدرك بهذا الحديث على بطلان ما ورد : أنه «صلىاللهعليهوآله» ، كان يضع الحجر على بطنه ، لأنه كان يطعم ويسقى من ربه إذا واصل. فكيف يترك جائعا مع عدم الوصال ، حتى يحتاج إلى ربط الحجر على بطنه؟!
قال : وإنما لفظ الحديث : الحجز ، بالزاي ، وهو طرف الإزار. فصحفوا ، وزادوا لفظ الجوع.
وأجيب : بأنه «لا منافاة ، كان «صلىاللهعليهوآله» يطعم ويسقى إذا واصل في الصوم ، أي يصير كالطاعم والساقي ، تكرمة له. ولا يحصل له ذلك دائما ، بل يحصل له الجوع في بعض الأحايين ، على وجه الابتلاء الذي يحصل للأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، تعظيما لثوابهم» (١).
أضف إلى ذلك : أن توجه ابن حبان هذا ، ودعواه تصحيف كلمة الحجز بالحجر لا تتلاءم مع ما تقدم عن علي «عليهالسلام» ، ولا مع ما تقدم عن جابر في قصة اندفاعه لتهيئة طعام للنبي «صلىاللهعليهوآله» لما رآه خميصا ، ولا مع ما ذكر في قصة سلمان حينما طلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يعالج الصخرة.
الثانية : العزم والثبات :
ويلفت النظر هنا : أنه رغم كل ما كان يعانيه المسلمون من جهد وضعف وجوع ، وبرد ـ كما يقولون ـ فإن ذلك لم ينل من عزمهم ، ولم يؤثر
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٩.
على إرادتهم ، ولا هزمهم روحيا. بل استمروا في تصميمهم على تنفيذ قرارهم بالمواجهة ، ولم يحملهم ذلك على الدخول في أي مساومة ، وتقديم أية تنازلات.
ولا شك : في أن للعامل الإيماني دوره الحساس في هذا المجال ، ولعل العامل الأهم هنا : هو توفر القيادة الحكيمة والواعية والحازمة ، المرتبطة بالله سبحانه ، المتمثلة بشخصية النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله».
الثالثة : الخصاصة والجوع :
قد تعودنا من أولئك الذين يتعاقبون على كراسي الحكم : أن يكونوا من أصحاب الأموال الطائلة ، وأهل الثراء الفاحش ، مع السعي الحثيث منهم للتمتع بمباهج الحياة ، والتقلب في ملذاتها ، واهتمام ظاهر بما فيها من زينة ، وبهارج ، في حين تكون شعوبهم تعاني من النصب والحرمان ، ومن الحاجة والخصاصة بدرجة قبيحة ومزرية.
إن لم نقل : إن الكثيرين من هؤلاء الحكام هم الذين يمتصون دماء شعوبهم ، ويعبثون بمقدراتها ، ويختلسون كل ما قدروا عليه من أموالها.
أما نبينا الأكرم «صلىاللهعليهوآله» : فإنه على عكس ذلك تماما ، فها هو في أيام الخندق يربط الحجر ، ولا يستأثر نفسه بشيء من حطام الدنيا. بل إنه حتى حينما يرغب أحدهم في استضافته على الشيء القليل جدا في هذا الظرف العصيب بالذات ، لا يرضى «صلىاللهعليهوآله» إلا أن يشاركه المسلمون جميعا في ضيافته تلك ، فيبارك الله سبحانه في ذلك الطعام ، وتكون الكرامة من الله سبحانه لرسوله الأكرم «صلىاللهعليهوآله».
ثم نجد عليا أمير المؤمنين «عليهالسلام» خير من يتأسى برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويسير على نهجه ، وينسج على منواله. فإنه رغم أنه كان قد أنشأ ـ بكديده ، وبعرق جبينه ـ الكثير من الضياع والبساتين ، لكنه لم يكن يستفيد منها بتحسين وضعه المعيشي ، ولا أحدثت تغييرا في حياته الخاصة ، بل كان يتصدق بها ويوزعها على الفقراء والمحتاجين ، وقد أوقف عامتها على جهات البر المختلفة ، ثم لم يزل يلبس الخشن ، ويأكل الجشب إلى أن توفاه الله سبحانه.
وحسبك ما كتبه لعثمان بن حنيف : يلومه على حضوره وليمة دعي إليها :
قال «عليهالسلام» : «ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به ، ويستضيء بنور علمه ، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع ، واجتهاد ، وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة ، ولهي في عيني أوهى وأهون من غصة مقرة» (١).
إلى أن قال : «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع.
أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرى ، أو أكون كما قال القائل :
__________________
(١) الأتان الدبرة : التي عقر ظهرها فقل أكلها. مقرة : مرة.
وحسبك داء أن تبيت ببطنة |
|
وحولك أكباد تحن إلى القد |
أأقنع من نفسي بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟ فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات ، كالبهيمة المربوطة ، همها علفها ، أو المرسلة ، شغلها تقممها (١) ، تكترش (٢) من أعلافها ، وتلهو عما يراد بها».
إلى أن قال : «وكأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب ، فقد قعد به الضعف على قتال الأقران ، ومنازلة الشجعان. ألا وإن الشجرة البرية أصلب عودا ، والروائح الخضرة أرق جلودا ، والنباتات العذية (٣) أقوى وقودا ، الخ ..» (٤).
__________________
(١) التقمم : التقاط القمامة.
(٢) تكترش : تملأ كرشها.
(٣) العذي : الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر.
(٤) نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح ، ط سنة ١٣٨٧ ه. ق) ص ٤١٧ و ٤١٨.