السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٧٥
إلا أن يقال : إن الحجاب قد كان موجودا في الجاهلية.
أو يقال : صحيح إن فرض الحجاب وإيجابه قد كان في سنة خمس ، أو بعدها ، لكن الالتزام بالحجاب ، على اعتبار أنه محبوب ومطلوب لله ، وأمر راجح وحسن قد كان قبل ذلك بسنين. وذلك اتباعا لتوجيهات النبي «صلى الله عليه وآله» ، وترغيباته ، ودعواته إلى ذلك ، إذ لا يبعد أن يكون تشريع الحجاب قد جاء تدريجا ؛ لتتقبله النفوس ، وتألفه العادة.
ولا سيما إذا لاحظنا : أنه ربما كان أمرا صعبا على نساء الجزيرة العربية ، اللواتي يعشن في جو حار جدا ، كما هو معلوم.
وعلى كل حال ، فإن هذا الأمر يحتاج إلى تحقيق ، ولسوف نتحدث عنه بشيء من التفصيل فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
و : الغرور والإيمان :
إننا نلاحظ : أنه «صلى الله عليه وآله» حتى حينما انتصر على المشركين في بدر ذلك الانتصار الباهر والساحق ، وكذلك حينما انتصر عليهم في غيرها من المواقف الصعبة ، فإنه لا ينسب انتصاراته إلى نفسه ، أو إلى جيشه.
ولا يسمح لنفسه بأن تتوهم : أنها هي التي انتصرت بالقوة ، والعدة ، والعدد ، أو بالعبقرية الحربية ؛ لأنه يعلم أن الانتصار الذي سجل في بدر مثلا ، لم يكن في المقاييس المادية انتصارا.
وإنما هو معجزة إلهية ، لا يمكن لأحد أن يحترم نفسه إلا أن يذعن إلى هذه الحقيقة ، ويسلم بها. وهذا هو ما قرره الله تعالى بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)(١).
كما أنه تعالى قد تعرض لحالة العجب بالنفس في حنين ، فقال : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً)(٢).
بينما نجد بني قينقاع مغرورين بقوتهم وشوكتهم ، حتى قالوا له : لو حاربناك لتعلمن : أنا نحن الناس. فأوعدهم الله بالهزيمة والخذلان.
وصدق الله وعده ، فزاد ذلك من يقين المؤمنين وتصميمهم ، ومن ذل الكافرين وخزيهم.
ز : الاستجابة لابن أبي :
وإن استجابة النبي «صلى الله عليه وآله» لابن أبي في بني قينقاع ، كانت تهدف إلى الحفاظ على الجبهة الداخلية من التصدع. ولولا ذلك فلربما كان ينتهي الأمر إلى النزاعات المكشوفة ، والمواجهات العلنية ، الأمر الذي لم يكن في صالح الإسلام والمسلمين في تلك الفترة ؛ فإن الإبقاء على العلاقات الحسنة مع المنافقين في تلك الظروف كان أمرا ضروريا ؛ لكسب أكبر عدد منهم في المستقبل ، عن طريق التأليف والترغيب ، وكذلك من أبنائهم ، ثم توفير الطاقات لعدو أشد وأعتى.
كما أن إجلاء بني قينقاع ، كما يعتبر ضربة روحية ونفسية لغيرهم من اليهود ، كذلك هو يعتبر إضعافا لابن أبي ومن معه من المنافقين. فخسران
__________________
(١) الآية ١٢٣ من سورة آل عمران.
(٢) الآية ٢٥ من سورة التوبة.
الأعداء متحقق على كل تقدير.
ح : بنو قينقاع تحت الأضواء :
وأما لماذا تجرأ بنو قينقاع على نقض العهد ، فالظاهر :
أن ذلك يرجع : إلى غرورهم واعتدادهم بشجاعتهم ، وبكثرتهم ، ولعلهم كانوا يتوقعون نصر حلفائهم من الخزرج لهم ، كما يظهر من قولهم له «صلى الله عليه وآله» : لتعلمن أنا نحن الناس.
ثم هناك اعتمادهم على ما يملكونه من خبرة عسكرية ، ومعرفة بالحرب ، وقد عبروا عن ذلك أيضا بقولهم له «صلى الله عليه وآله» : لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب. وإلا ، فإننا لا نرى مبررا لأن تعلن قبيلة واحدة الحرب على كثير من القبائل في المدينة ، إن كانت لا تملك شيئا من مقومات النصر المحتمل. ولكن كثرتهم وخبرتهم الحربية لم تغن عنهم شيئا ، كما أن حلفاءهم من الخزرج لم يفعلوا لهم شيئا ، لأن المؤمنين منهم تخلوا عنهم ، لأن الوفاء لهم خيانة لعقيدتهم ومبدئهم وإيمانهم ، الذي يبذلون أرواحهم في سبيل الحفاظ عليه.
وأما المنافقون منهم فلم يتمكنوا من نصرهم ، بسبب ما قذف الله في قلوبهم من الرعب ، وكون ذلك سوف يتسبب لهم بانشقاقات وخلافات داخلية.
وأقصى ما استطاع ابن أبي أن يقدمه لهم ، هو أن يمنع من استئصالهم ، مع الاكتفاء بإجلائهم إلى مناطق بعيدة لن يمكنهم الصمود فيها أكثر من سنة ، وليواجهوا من ثم الفناء والهلاك.
وأما لماذا لم يهب اليهود لنصرة بني قينقاع ، فإن ذلك يرجع إلى أنه قد
كان بينهم وبين سائر اليهود عداوة ، وذلك لأن اليهود كما قال ابن اسحاق :
«كانوا فريقين ، منهم بنو قينقاع ولفهم (١) ، حلفاء الخزرج ، والنضير وقريظة ولفهم حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم. وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان : لا يعرفون جنة ، ولا نارا ، ولا بعثا ، ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حلالا ، ولا حراما.
فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أساراهم ، تصديقا لما في التوراة ، وأخذ به بعضهم من بعض ، يفتدي بنو قينقاع من كان من أسراهم من أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما في أيدي الخزرج منهم ، ويطلون ما أصابوه من الدماء وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لأهل الشرك عليهم» (٢).
وكانوا بذلك مصداقا لقوله تعالى وهو يخاطب اليهود : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ، ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ)(٣) صدق الله العلي العظيم.
__________________
(١) لفهم : أي من يعد فيهم.
(٢) السيرة النبوية ، لابن هشام ج ٢ ص ١٨٨ و ١٨٩.
(٣) الآيتان ٨٤ و ٨٥ من سورة البقرة.
القسم السادس
حتى الخندق
الباب الأول : غزوة أحد .. آثار ونتائج
الباب الثاني : أحداث وقضايا
الباب الثالث : حتى بئر معونة
الباب الرابع : سرية بئر معونة
الباب الخامس : غزوة بني النضير
الباب الأول
غزوة أحد .. آثار ونتائج
الفصل الأول : قبل نشوب الحرب
الفصل الثاني : نصر وهزيمة
الفصل الثالث : في موقع الحسم
الفصل الرابع : بعد ما هبت الرياح
الفصل الخامس : غزوة حمراء الأسد وإلي السنة الرابعة
الفصل الأول :
قبل نشوب الحرب
أجواء ومواقف :
وفي سنة ثلاث ـ وشذ من قال في سنة أربع (١) في شهر شوال ، يوم السبت على الأشهر ـ كانت غزوة أحد (٢) ، وهو جبل يبعد عن المدينة حوالي فرسخ. وذلك أن نتائج حرب بدر كانت قاسية على مشركي مكة ، ومفاجأة لليهود والمنافقين في المدينة.
فقريش لا يمكن أن تهدأ بعد الآن حتى تثأر لكرامتها ، ولمن قتل من أشرافها. حتى لقد أعلنوا المنع عن بكاء قتلاهم ؛ لأن ذلك يذهب الحزن ، ويطفئ لهيب الأسى من جهة. ولأنه يدخل السرور على قلوب المسلمين من الجهة الأخرى.
ولكنهم عادوا فتراجعوا عن هذا القرار ؛ فسمحوا للنساء بالبكاء ، لأن
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٦ ، وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤١٩.
(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٩ ، ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٣ ص ٢٠١ ، وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣١١ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ١٩٩ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٤٨ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٨٦ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٦ ، والسيرة النبوية لدحلان (المطبوع بهامش الحلبية) ج ٢ ص ١٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤١٩.
ذلك ـ بزعمهم ـ يثير المشاعر ، ويذكر الرجال بالعار الذي لحق بهم.
ومضت قريش تستعد لقتال النبي محمد «صلى الله عليه وآله» ، وتعبئ النفوس ، وتجهز القوى الحربية لأخذ الثأر ، ومحو العار. ومضى اليهود الذين أصبحوا يخافون على مركزهم السياسي ، والاقتصادي في المنطقة ، وعلى هيمنتهم الثقافية أيضا يحرضون المشركين على الثأر ممن وترهم ، وأعلنوا بالحقد ، ونقض العهد ، حتى كال لهم المسلمون ضربات صاعقة ، هدت كيانهم ، وجرحت وأذلت كبرياءهم وغرورهم.
ومن جهة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، ومن معه من المسلمين ؛ فإنهم لن يتخلوا عن قبلتهم ، الكعبة ، ولن يتركوا قريشا وغطرستها وغرورها ، لا سيما بعد تعدّيها عليهم ، وظلمها القبيح لهم ، حتى اضطرهم ظلمها وتعدّيها إلى الهجرة من ديارهم ، تاركين لها أوطانهم ، وكل ما يملكون.
وكذلك ، فإن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد حاصر قريشا بمعاهداته للقبائل التي في المنطقة ، وموادعاته لها ، وأصبح يسيطر على طريق تجارتها ، ولم يعد هذا الطريق آمنا لها ، وأصبحت ترى نفسها بين فكي (كماشة) ، فلا بد لها إذا من كسر هذا الطوق ، وتجاوز هذا المأزق.
وهذا ما عبّر عنه ذلك الزعيم القرشي ـ كما تقدم في سرية القردة ـ بقوله لقريش :
«إن محمدا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا ، فما ندري كيف نصنع بأصحابه؟ لا يبرحون الساحل.
وأهل الساحل قد وادعهم ، ودخل عامتهم معه ، فما ندري أين نسلك ، وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا ، ونحن في دارنا هذه فلم يكن لنا بقاء. إنما
نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف ، وفي الشتاء إلى أرض الحبشة» (١).
جيش المشركين إلى أحد :
وكانت العير التي كانت وقعة بدر من أجلها ـ وهي ألف بعير كما قالوا ـ قد بقيت سالمة ومحتبسة في دار الندوة. واتفقوا مع أصحابها على أن يعطوهم رؤوس أموالهم ، وهي خمسة وعشرون أو خمسون ألف دينار ـ على اختلاف النقل ـ على أن يصرف الربح في قتال المسلمين. وكان كل دينار يربح دينارا ، وهو مبلغ هائل في وقت كانت للمال فيه قيمة كبيرة ، والقليل منه يكفي للشيء الكثير.
وبعثوا الرسل إلى القبائل يستنصرونهم ، وحركوا من أطاعهم من قبائل كنانة ، وأهل تهامة ، واشترك الشاعر أبو عزة الجمحي في تحريض القبائل على المسلمين ، وكان قد أسر في بدر ، ومنّ عليه النبي «صلى الله عليه وآله» بشرط أن لا يظاهر عليه.
وقد شارك في ذلك بعد أن ألح عليه صفوان بن أمية ، وضمن له إن رجع من أحد أن يغنيه ، وإن أصابه شيء أن يكفل بناته.
وخرجت قريش بحدها وجدها ، وأحابيشها ومن تابعها.
وأخرجوا معهم بالظعن خمس عشرة امرأة ، فيهن هند بنت عتبة ، لئلا يفروا ، وليذكرنهم قتلى بدر. يغنين ويضر بن بالدفوف ، ليكون أجد لهم في القتال.
وخرج معهم الفتيان بالمعازف ، والغلمان بالخمور ، وكان جيش المشركين ثلاثة آلاف مقاتل.
__________________
(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ١٩٧ ، وسيرة المصطفى ص ٣٨٥.
وقيل : خمسة آلاف.
ونحن نرجح الأول ؛ لقول كعب بن مالك :
ثلاثة آلاف ونحن نصيبه |
|
ثلاث مئين إن كثرنا وأربع (١) |
أي : وأربع مئين.
وكان في جيش المشركين سبعمائة دارع ، ومئتا فارس على المشهور.
وقيل : مئة ، ومئة رام ، ومعهم ألف ـ وقيل ثلاثة آلاف ـ بعير.
ولا يبعد صحته (٢) كلهم بقيادة أبي سفيان الذي صار زعيم قريش بعد قتل أشرافها في بدر.
وكان معهم أبو عامر الفاسق ، الذي كان قد ترك المدينة إلى مكة مع
__________________
(١) البدء والتاريخ ج ٤ ص ٢٠٧. نعم يمكن أن يكون عمدة الجيش ثلاثة آلاف ، ومعهم من العبيد والخدم ـ وهم مقاتلون أيضا ـ ألفان بل في البحار ج ٢٠ ص ١١٧ : أن أبا سفيان قد استأجر ألفين من الأحابيش.
(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤١٩ ـ ٤٢٢ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٧ و ٢١٨ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) ج ٢ ص ١٩ ـ ٢١ و ٢٦ ، وراجع : الوفاء بأحوال المصطفى ص ٦٨٤ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ٢٠٠ ـ ٢٠٤ و ٢٠٦ ، وأنساب الاشراف ج ١ ص ٣١٢ و ٣١٣ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٨٧ ـ ١٩٠ و ١٩٧ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠ ـ ١٦ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٠ و ٢٥ و ٢٦ و ٣٠ و ٣٢ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٦٤ و ٦٥ و ٧٠ و ٧١ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٤٩ ـ ١٥١ ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٢٢١ و ٢٠٩ ، والبحار ج ٢ ص ٤٨ ، وحياة محمد لهيكل ص ٢٥٤ ، وسيرة المصطفى ص ٣٩١.
خمسين رجلا من أتباعه من الأوس كراهية لمحمد ، خرج إلى مكة يحرض على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ويقول لهم : إنهم على الحق ، وما جاء به محمد باطل.
فسارت قريش إلى بدر ، ولم يسر معهم ، وسار معهم إلى أحد.
وكان يزعم لهم : أنه لو قدم على قومه لم يختلف عليه اثنان منهم ، فصدقوه ، وطمعوا في نصره ، ولكن الأمر كان على عكس ذلك كما سنرى.
وكان مع المشركين أيضا : وحشي غلام جبير بن مطعم ، الذي وعده سيده بالحرية ، إن هو قتل محمدا ، أو عليا ، أو حمزة بعمه طعيمة بن عدي ؛ فإنه لا يدري في القوم كفؤا له غيرهم (١).
فقال وحشي له ـ أو لهند ـ : أما محمد ؛ فلن يسلمه أصحابه ، وأما حمزة فلو وجده نائما لما أيقظه من هيبته ، وأما علي فإنه حذر مرس ، كثير الالتفات (٢).
وسيأتي : أنه تمكن من الغدر بحمزة ، أسد الله وأسد رسوله.
سؤال وجوابه :
ويرد هنا سؤال : وهو أنهم إذا كانوا قد أخرجوا معهم النساء لئلا يفروا ، فلماذا فروا حين حميت الحرب ، وتركوا النساء؟!.
والجواب عن ذلك سيأتي حين الكلام عن هذا الموضوع ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٧ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) ج ٢ ص ٢٠.
(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٢٨٥.
وصول الخبر إلى المدينة :
ويقولون : إن العباس بن عبد المطلب كتب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» يخبره بمسير قريش ، وبكيفية أحوالهم ، وبعددهم ، مع رجل غفاري ، على أن يصل إلى المدينة في ثلاثة أيام ، فقدم الغفاري المدينة ، وسلم الكتاب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، وهو على باب مسجد قباء ، فقرأه له أبي بن كعب ، فأمره «صلى الله عليه وآله» بالكتمان (١).
ووقعت الأراجيف بالمدينة ، وقال اليهود : إن الغفاري ما جاء بخبر يسر محمدا. وفشا الخبر بخروج المشركين قاصدين المدينة بعدتهم وعددهم ، هكذا قالوا.
ولكننا في مقابل ذلك : نجد الواقدي يذكر : أن نفرا من خزاعة فيهم عمرو بن سالم سروا من مكة أربعا ، فوافوا قريشا ، وقد عسكروا بذي طوى ، فلما وصلوا المدينة أخبروا رسول الله «صلى الله عليه وآله» الخبر ، ثم انصرفوا ، فلقوا قريشا ببطن رابغ على أربع ليال من المدينة.
فقال أبو سفيان : أحلف بالله ، إنهم جاؤوا محمدا فخبروه بمسيرنا ، وعددنا ، وحذروه منا ، فهم الآن يلزمون صياصيهم ، فما أرانا نصيب منهم شيئا في وجهنا.
فقال صفوان بن أمية : إن لم يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج
__________________
(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٠ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ٢٠٤ ، وأنساب الاشراف ج ١ ص ٣١٤ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٧٢ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠ ، وسيرة المصطفى ص ٣٩٣ ، وحياة محمد لهيكل ص ٢٥٥.
فقطعناه ، فتركناهم ولا أموال لهم ؛ فلا يختارونها أبدا. وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم ، ولنا خيل ، ولا خيل معهم ، ونحن نقاتل على وتر لنا عندهم ، ولا وتر لهم عندنا (١).
وقد يقال : لا مانع من أن يكون الخبر قد وصل إلى النبي «صلى الله عليه وآله» من قبل الغفاري ، ومن قبل هؤلاء معا. وقبل أن نمضي في الحديث نشير في ما يلي إلى بعض النقاط ، وهي التالية :
سؤال يحتاج إلى جواب :
ويرد هنا سؤال وهو : كيف قبلت قريش بإقامة العباس في مكة مسلما ـ إذا صح أنه أسلم في بدر ـ وقريش لم تكن لترحم أحباءها وأبناءها إذا علمت بإسلامهم ، ولا سيما بعد تلك النكبة الكبرى التي أصابتها على يد ابن أخيه في بدر ، حيث قتل أبناءها وآباءها وأشرافها؟
إلا أن يقال : إنه كان مسلما سرا ، وقد أمره «صلى الله عليه وآله» بالبقاء في مكة ؛ ليكون عينا له ، ولازم ذلك هو أن يتظاهر بالشرك ، وأنه معهم ، وعلى دينهم.
وقد تقدمت بعض تساؤلات حول وضع العباس في مكة في غزوة بدر ، فلا نعيد.
المشركون وأزمة الثقة :
ويلاحظ هنا : أن أبا سفيان لم يكن يثق بمن هم على دينه ، ولا يستطيع
__________________
(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٠٥ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢١٨ و ٢١٩.
أن يعتمد عليهم ، ولذلك نراه يبادر إلى اتهامهم بأنهم قد أخبروا محمدا بمسيرهم ، وعددهم ، وحذروه منهم.
وقد أشير إلى هذه الحالة في حديث سدير ، قال : قلت لأبي عبد الله : إني لألقى الرجل لم أره ولم يرني فيما مضى قبل يومه ذلك ؛ فأحبه حبا شديدا ، فإذا كلمته وجدته لي مثلما أنا عليه له ، ويخبرني : أنه يجد لي مثل الذي أجد له.
فقال : صدقت يا سدير ، إن ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا ـ وإن لم يظهروا التودد بألسنتهم ـ كسرعة اختلاط قطر السماء مع مياه الأنهار ، وإن بعد ائتلاف قلوب الفجار إذا التقوا ـ وإن أظهروا التودد بألسنتهم ـ كبعد البهائم عن التعاطف ، وإن طال اعتلافها على مذود واحد (١).
ويمكن أن يستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الآيات القرآنية ، قال تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ)(٢).
وقال تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٣).
وقال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)(٤).
وموجز القول في سر ذلك : وهو ما أشار إليه الطباطبائي أيضا ، الذي سنكتفي بتلخيص كلامه لما فيه من الخصوصيات ، وإن كان أصل الكلام
__________________
(١) سفينة البحار ج ١ ص ٢٠٤.
(٢) الآيتان ١١٨ و ١١٩ من سورة هود.
(٣) الآية ٦٣ من سورة الأنفال.
(٤) الآية ١٠٣ من سورة آل عمران.
قد كان محط نظرنا أيضا : أن الكفار إنما يلتقون على مصالحهم الدنيوية الشخصية ، ويتفقون ويختلفون على أساسها ؛ وذلك لأن الإنسان يحب بطبعه أن يخص نفسه باللذائذ والنعم ، وعلى هذا الأساس يحب هذا ويبغض ذاك.
وحيث إنه لا يستطيع أن يلبي كل ما يحتاج إليه من ضروريات حياته ؛ فإنه لا بد له من حياة اجتماعية تعينه على ذلك ، ويتبادل مع الآخرين ثمرات الأتعاب ، حيث إن كل شخص له مؤهلات تجعله يختص ببعض الامتيازات لنفسه : من مال ، أو جمال ، أو طاقات فكرية ، أو نفسية ، أو غريزية ، أو غير ذلك.
هذه الامتيازات التي تطمح إليها النفوس ، ويتنافس فيها البشر عموما. وبسبب الاحتكاكات المتوالية ، وما يصاحبها من وجوه الحرمان ، والبغي ، والظلم ، والشح ، والكرم في هذه الأمور التي يتنافسون فيها ، فإن العداوات والصداقات تنتج عن ذلك.
وأما محاولات بذل النعم لفاقديها ، فإنها لا ترفع هذه النزاعات والعداوات وغيرها إلا في موارد جزئية. أما الحالة العامة فتبقى على حالها ؛ لأن هذا البذل لا يبطل غريزة الاستزادة ، والشح الملتهب ، على أن بعض النعم لا تقبل إلا الاختصاص والانفراد ، كالملك ، والرئاسة ، فالشرور والأحقاد التي تتولد عن ذلك باقية على حالها. هذه حالة المجتمع الكافر بالله ، الذي لا يؤمن إلا بالمصلحة الدنيوية الشخصية ، واللذات الحاضرة. ولكن الله قد منّ على المسلمين ، وأزال الشحّ من نفوسهم : (وَمَنْ يُوقَ شُحَ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١) وألّف بين قلوبهم ، وذلك لأنه عرّفهم : أن الحياة الإنسانية حياة خالدة ، وأن الحياة الدنيا زائلة لا قيمة لها ، وأن اللذة المادية لا قيمة لها ، واللذة الواقعية هي أن يعيش الإنسان في كرامة عبودية الله سبحانه ، ورضوانه ، والقرب والزلفى منه تعالى ، مع النبيين والصديقين ، وهناك اللذة الحقيقية الدائمة ، قال تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢).
كما أنه لا يملك أحد لنفسه نفعا ولا ضررا ، ولا موتا ولا حياة ، بل هو في تصرف الله الذي بيده الخير والشر ، والنفع والضر ، والغنى والفقر. وكل نعمة هي هبة من ربه ، وما حرم منه احتسب عند ربه أجره ، وما عند الله خير وأبقى. وإذ لم يعد للمادة قيمة عند المؤمنين ؛ فإن أسباب الضغن والحقد تزول ، ويصبحون بنعمته إخوانا ، ولا يبقى في نفوسهم غل ، وحسد ، ورين (٣).
وهكذا يتضح : أن موقف الخزاعيين ، وعدم التزامهم بنصر قومهم ، والحفاظ على أسرارهم أمر طبيعي.
كما أن سوء ظن أبي سفيان ، وعدم ثقته بهم هو أيضا نتيجة طبيعية للشرك ، وعدم الإيمان.
ومن كل ذلك نعرف أيضا سر عدم تأثير تشجيع النساء في ثبات المشركين ، ولم يمنعهم عار أسر نسائهم من الهزيمة ، وتركوهن في معرض
__________________
(١) الآية ٩ من سورة الحشر.
(٢) الآية ٦٤ من سورة العنكبوت.
(٣) راجع : تفسير الميزان ج ٩ ص ١١٩ ـ ١٢١.