السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-178-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٧٥
الفصل الثاني :
نصر وهزيمة
التعبئة للقتال :
ويقولون : إنه لما وصل النبي «صلى الله عليه وآله» إلى منطقة القتال ، اختار أن ينزل إلى جانب جبل أحد ، بحيث يكون ظهرهم إلى الجبل.
ثم عبأ أصحابه ، وصار يسوي صفوفهم ؛ حتى إنه ليرى منكب الرجل خارجا ، فيؤخره.
وأمرهم أن لا يقاتلوا أحدا حتى يأمرهم.
وكان على يسار المسلمين جبل اسمه جبل عينين ، وهو جبل على شفير قناة ، قبلي مشهد حمزة ، عن يساره (١).
وكانت فيه ثغرة ؛ فأقام عليها خمسين رجلا من الرماة ، عليهم عبد الله بن جبير ، وأوصاه : أن يردوا الخيل عنهم ، لا يأتوهم من خلفهم.
وفي رواية قال : إن رأيتمونا تختطفنا الطير ، فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ، وأوطأناهم ؛ فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم (٢).
وحسب نص آخر : احموا ظهورنا ؛ فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ،
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢٣.
(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢٣ عن البخاري.
وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا (١).
وكان شعاره يوم أحد : أمت. أمت.
ويقولون أيضا : إنه «صلى الله عليه وآله» قد ظاهر بين درعين ، كما نص عليه الحاكم ، وطائفة من المؤرخين.
ويقول الواقدي : إنه كان قد لبس قبل وصوله إلى أحد درعا ، فلما وصل إلى ساحة الحرب لبس درعا أخرى ، ومغفرا وبيضة (٢) فوق المغفر (٣).
ومن جهة أخرى : فقد عبأ المشركون قواهم ، استعدادا للحرب ، وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار :
خلوا بيننا وبين ابن عمنا ؛ فننصرف عنكم ؛ فلا حاجة بنا إلى قتالكم ، فردوا عليه بما يكره (٤).
ونذكر هنا ما يلي :
ألف : المظاهرة بين درعين :
إننا نشك في أنه «صلى الله عليه وآله» قد ظاهر بين درعين في الوقت الذي يرى فيه أن غالب أصحابه لا درع لهم يحميهم من سيوف المشركين ، فضلا عن أن يكون لهم درعان.
ولم يكن النبي «صلى الله عليه وآله» ليميز نفسه عنهم ، بل كان من
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢٤ ، عن الطبراني والحاكم ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٢.
(٢) المغفر : زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس. والبيضة : الحذوة.
(٣) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢١٩ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٣٠.
(٤) الكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٥١.
عادته أن يجعل نفسه كأحدهم.
مع أنه يعلم : أنه هو المستهدف بالدرجة الأولى. وهذه هي أخلاق النبوة. وتلك هي سيماء الأفذاذ من الرجال ، وعباد الله الصالحين.
إلا أن يقال : إن المسلمين أنفسهم قد أصروا عليه بأن يظاهر بين درعين ، من أجل الحفاظ عليه «صلى الله عليه وآله» ، كما كانوا يقومون بحراسته «صلى الله عليه وآله» ليلا من أجل ذلك أيضا ..
ويكون «صلى الله عليه وآله» قد قبل منهم ذلك لتطمئن قلوبهم ، ويهدأ روعهم.
ونقول :
إن ذلك لا يصح أيضا ، لأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان ملاذا للناس حين الحرب ، وكانوا يلجأون إليه في الشدائد والأهوال.
ولم يكن أحد أقرب منه إلى العدو ، وكان يقدم أحباءه وأهل بيته في الحرب ، ولا نجد مبررا بعد هذا للمظاهرة بين درعين ، لا سيما مع وجود المنافقين ، ومن في قلوبهم مرض ، ومع وجود اليهود وغيرهم من الأعداء ، الذين سوف لا يسكتون عن أمر كهذا ، بل سوف يستفيدون منه لتضليل الناس ، وخداع ضعاف النفوس ، والسذج والبسطاء.
ولم يكن النبي «صلى الله عليه وآله» ليسجل على نفسه سابقة كهذه أصلا.
ب : المنطق القبلي لدى أبي سفيان :
إن محاولة أبي سفيان استعمال المنطق القبلي حين قال : خلوا بيننا وبين ابن عمنا إنما كانت لتفريق الناس عن النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ ليتمكن من القضاء على حركته من أسهل طريق ؛ فلا يتعرض للعداوات الحادة بينه
وبين المدنيين ، ولا للخسائر الكثيرة في الأرواح ، ولا لتغيير المعادلات السياسية في المنطقة. إلى غير ذلك من الاعتبارات الكثيرة في جو كهذا.
ولكن فأله قد خاب ، فقد وجد : أن الإسلام والمسلمين لا يأبهون لمنطق كهذا ، وأصبح المسلم أخا للمسلم أيا كان ، ومن أي قبيلة كانت.
أما أبو سفيان وأصحابه فعدو محارب ، حتى ولو كانوا آباءهم ، أو أبناءهم ، أو إخوانهم ، أو عشيرتهم ، أو غيرهم.
أبو دجانة والسيف :
ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» أخذ سيفا ، وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ، فطلبه جماعة ، منهم الزبير.
وفي نصوص أخرى : أبو بكر ، وعمر ، وتضيف رواية الينابيع عليا «عليه السلام» أيضا ، فلم يعطهم إياه.
فسأله أبو دجانة : ما حقه؟
فقال : أن تضرب به العدو حتى ينحني.
فطلبه أبو دجانة ؛ فأعطاه إياه ، فجعل يتبختر بين الصفين ، فقال «صلى الله عليه وآله» : إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن.
فقاتل أبو دجانة قتالا عظيما ، حتى حمل على مفرق رأس هند ـ التي كانت تحوش المسلمين بهجماتها ـ ثم عدل السيف عنها ؛ لأنها صرخت ، فلم يجبها أحد ؛ فكره أن يضرب بسيف رسول الله امرأة لا ناصر لها (١).
__________________
(١) راجع نصوص هذه الرواية المختلفة في : لباب الآداب ص ١٧٦ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢٤ و ٤٢٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٢ و ٢٢٣ و ٢٢٥ ، وشرح
ملاحظات على هذه الرواية :
ونقول :
١ ـ إن قضية عرضه السيف على أصحابه ، ومنعه من البعض ، وإعطائه لأبي دجانة قد تكون صحيحة.
ولكن ما تقدم عن الينابيع ، من ذكر علي «عليه السلام» فيمن لم يعطه «صلى الله عليه وآله» السيف في غير محله.
إذ سيأتي : أنه لم يثبت أمام ذلك الجيش الهائل سوى أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا يقرب : أنه «عليه السلام» كان يدرك : أنه لم يكن هو المقصود للنبي «صلى الله عليه وآله» في دعوته للمسلمين لأخذ السيف بحقه ؛ لأنه كان يعرف موقعه ودوره في المعركة.
ولنا أن نحتمل هنا ـ بسبب ما عرفناه وما ألفناه من هؤلاء الرواة والمحدثين ـ :
أن إضافة اسم علي في الرواية ، قد كانت من أجل الحفاظ على كرامة وشخصية الطالبين والممنوعين الحقيقيين عن السيف في هذا الموقف. فإنهم لم تكن مواقفهم الحربية تأبى عن مثل هذا ، حيث لم تؤثر عنهم مواقف
__________________
النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٥٧ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦ و ١٧ ، وفيهما ذكر عمر والزبير ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٢٥٩ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٥٧٥ ـ ٥٧٧ عن غير واحد ، وينابيع المودة ، إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة التي لا مجال لتعدادها.
حربية شجاعة في ساحات الجهاد ، بل أثر عنهم العكس من ذلك تماما.
٢ ـ إننا لا نفهم : لماذا يرفض رسول الله «صلى الله عليه وآله» إعطاء السيف للزبير ، ولأبي بكر ، وعمر ، بعد طلبهم إياه ، قبل أبي دجانة ، ولماذا لا يجربهم ، ليظهر مواهبهم ومواقفهم؟!
ولماذا يواجههم أمام الناس بهذا الرفض الفاضح والقاسي ، حتى لقد وجدوا في أنفسهم من منعه لهم؟
ولربما يقال : إنه أراد أن يعطيه أنصاريا ؛ ليقتدي به الأنصار.
وجوابه : أنه قد كان اللازم حينئذ : أن يوضح ذلك لهم بكلمة ، أو بإشارة ، حتى لا يتعرض الممنوعون لسوء ظن الناس بهم ، أو حتى لا ينسبوا للفشل والعجز ، وتصير كرامتهم في معرض الامتهان.
وإن كنا سنرى : أن هؤلاء الممنوعين لم يكونوا في المستوى المطلوب ، وكان أبو دجانة أولى منهم بهذا التكريم ، لأن هذه القضية قد جرت لو صحت بعد عودة المسلمين من الهزيمة.
وسيأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء الله.
٣ ـ إن ما ذكروه : من أن هندا كانت تقاتل المسلمين وتحوشهم قد كذبته أم عمارة رحمها الله ؛ فراجع (١).
ولا ندري من أين حصلت هند على هذه البسالة النادرة ، التي تجعلها في عداد أعظم فرسان التاريخ؟
ولماذا لم يعدها المؤرخون من فرسان الدهر ، وشجعان ذلك العصر؟!
__________________
(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٧٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٦٨.
كما أن من المعلوم : أنه «صلى الله عليه وآله» قد كان يوصي سراياه وبعوثه وصايا عديدة ، منها : أن لا يقتلوا امرأة ، ولا ولا الخ.
٤ ـ إن من الواضح مدى التشابه بين ما تذكره هذه القضية عن تبختر أبي دجانة بين الصفين ، وقول النبي «صلى الله عليه وآله» له ، وبين ما كان من تبختر علي «عليه السلام» يوم الخندق ، فاعترض عمر على ذلك ، ونبه النبي «صلى الله عليه وآله» إلى مشيته «عليه السلام».
فأجابه النبي «صلى الله عليه وآله» بهذا الجواب بعينه.
وستأتي مصادر هذه القضية هناك ، وأنها ثابتة بلا ريب.
ويبعد أن تتعدد الواقعة بكل خصوصياتها ، كما أنه بعد قضية أبي دجانة في أحد لا يبقى مورد لاعتراض عمر في الخندق ، إذ نستبعد عدم اطلاعه على ما جرى في أحد ، إن لم يكن هو نفسه الذي اعترض آنئذ كما تعودنا منه في المواقف المختلفة ، حتى ليندر أن تجد في التاريخ اعتراضا على النبي لغيره!! ولا أقل من حضوره وشهوده الأحداث عن قرب ، فإنه ممن طلب السيف ، ورفض طلبه ؛ فإذا كان ما جرى يوم الخندق هو الصحيح ، وإذا كان ثمة تبديل وتغيير في الأسماء والأشخاص فقط ؛ فلا عجب ، فإنما هي شنشنة نعرفها من أخزم.
وعلى كل حال ، فإن مشية علي «عليه السلام» يوم الخندق ، كان الهدف منها هو الافتخار بعظمة وبعزة الإسلام ، وذل أعدائه حتى في حال انتصارهم من جهة ، ثم الحرب النفسية لأعدائه ، والتأثير على معنوياتهم من جهة أخرى.
نشوب الحرب ، وقتل أصحاب اللواء :
وكان أول من رمى بسهم في وجوه المسلمين أبو عامر الفاسق في خمسين ممن معه ، بعد أن حاول استمالة قومه من الأوس ؛ فردوا عليه بما يكره ، فتراموا مع المسلمين ، ثم ولوا مدبرين.
وحرض أبو سفيان بني عبد الدار ، حاملي لواء المشركين على الحرب ، وجعل النساء يضربن بالدفوف ، ويحرضنهم بالأشعار.
وطلب طلحة بن أبي طلحة ، حامل لواء المشركين البراز ، فبرز إليه علي «عليه السلام» فقتله. فسر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بذلك ، وكبر تكبيرا عاليا.
ويقال : إن طلحة سأل عليا «عليه السلام» : من هو؟. فأخبره.
فقال : قد علمت يا قضم : أنه لا يجسر علي أحد غيرك (١).
__________________
(١) فعن أبي عبد الله «عليه السلام» : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان بمكة لم يجسر عليه أحد ؛ لموضع أبي طالب ، وأغروا به الصبيان ، وكانوا إذا خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» يرمونه بالحجارة والتراب ، وشكا ذلك إلى علي «عليه السلام» ، فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، إذا خرجت فأخرجني معك ، فخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» ومعه أمير المؤمنين «عليه السلام» ، فتعرض الصبيان لرسول الله «صلى الله عليه وآله» كعادتهم ، فحمل عليهم أمير المؤمنين «عليه السلام» ، وكان يقضمهم في وجوههم ، وآنافهم ، وآذانهم ، فكان الصبيان يرجعون باكين إلى آبائهم ، ويقولون : قضمنا علي ، قضمنا علي ، فسمي لذلك : (القضم). راجع : البحار ج ٢٠ ص ٥٢ ، وتفسير القمي ج ١ ص ١١٤ ، وأشار إلى ذلك أيضا في نهاية ابن الاثير.
وقد ضربه علي «عليه السلام» على رأسه ، ففلق هامته إلى موضع لحيته ، وانصرف علي «عليه السلام» عنه ، فقيل له : هلا ذففت عليه؟!
قال : إنه لما صرع استقبلني بعورته ؛ فعطفتني عليه الرحم. وقد علمت أن الله سيقتله ، وهو كبش الكتيبة (١).
وفي رواية أخرى : أنه صلوات الله وسلامه عليه قال : إنه ناشدني الله والرحم ؛ فاستحييت. وعرفت أن الله قد قتله (٢).
وقيل : إن ذلك كان حينما قتل «عليه السلام» أبا سعيد بن أبي طلحة. وثمة كلام آخر في المقام لا أهمية له.
قال ابن هشام : «لما اشتد القتال يوم أحد ، جلس رسول الله «صلى الله عليه وآله» تحت راية الأنصار ، وأرسل إلى علي «عليه السلام» : أن قدم الراية ، فتقدم علي ، وقال : أنا أبو القصم (والصحيح : أبو القضم) ؛ فطلب أبو سعيد بن أبي طلحة ـ وكان صاحب لواء المشركين ـ منه البراز ، فبرز إليه علي «عليه السلام» ، فضربه ، فصرعه». ثم ذكر قصة انكشاف عورته حسبما تقدم (٣).
واقتتل الناس ، وحميت الحرب. وحارب المسلمون دفاعا عن دينهم ، وعن وطنهم ، الذي فيه كل مصالحهم ، ويتوقف على حفظه مستقبلهم ووجودهم. حاربوا فئة حاقدة ، تريد الثأر لقتلاها في بدر ، وهي أكثر منهم
__________________
(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٢٦ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٣٦ وغير ذلك.
(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٩٤ ، والكامل لابن الأثير ج ١ ص ١٥٢ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٣ ، والأغاني ج ١٤ ص ١٦.
(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢٧.
عددا ، وأحسن عدة.
ثم شد أصحاب رسول الله (١) «صلى الله عليه وآله» على كتائب المشركين ، فجعلوا يضربون وجوههم ، حتى انتقضت صفوفهم ، ثم حمل اللواء عثمان بن أبي طلحة ، أخو طلحة السابق ، فقتل ، ثم أبو سعيد أخوهما ، ثم مسافع ؛ ثم كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ، ثم أخوه الجلاس ، ثم أرطأة بن شرحبيل ، ثم شريح بن قانط ، ثم صواب ، فقتلوا جميعا ؛ وبقي لواؤهم مطروحا على الأرض ، وهزموا ، حتى أخذته إحدى نسائهم ، وهي عمرة بنت علقمة الحارثية ، فرفعته ، فتراجعت قريش إلى لوائها ، وفيها يقول حسان :
ولو لا لواء الحارثية أصبحوا |
|
يباعون في الأسواق بالثمن البخس |
ويقال : إن أصحاب اللواء بلغوا أحد عشر رجلا (٢).
قال الصادق «عليه السلام» ، بعد ذكره قتل أمير المؤمنين «عليه السلام» لأصحاب اللواء : «وانهزم القوم ، وطارت مخزوم ، فضحها علي «عليه السلام» يومئذ» (٣).
كما أن رماة المسلمين الذين كانوا في الشعب قد ردوا حملات عديدة لخيل المشركين ، حيث رشقوا خيلهم بالنبل ، حتى ردوها على أعقابها.
وقبل المضي في الحديث نسجل هنا ما يلي :
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢٧.
(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٢٧.
(٣) الإرشاد للمفيد ص ٥٢ ، والبحار ج ٢٠ ص ٨٧ عنه.
ألف : بنو مخزوم ، وأهل البيت عليهم السّلام :
ولعل ما تقدم هو سر حقد خالد بن الوليد المخزومي ـ الذي كان على ميمنة المشركين في أحد ـ على أمير المؤمنين «عليه السلام» ، الذي قتل عددا من فراعنتهم (١).
وقد تقدم في الجزء السابق حين الكلام عن خطبة علي «عليه السلام» لبنت أبي جهل بعض ما يشير إلى حقد خالد هذا ، فلا نعيد.
وقد روى الحاكم ، عن النبي «صلى الله عليه وآله» قوله :
«إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا ، وإن أشد قومنا لنا بغضا : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وبنو مخزوم» (٢).
ب : الزبير والمقداد على الخيل :
وثمة رواية تفيد : أن الزبير والمقداد كانا على الخيل ، وحمزة بالجيش بين يديه «صلى الله عليه وآله» ، وأقبل خالد الذي كان على ميمنة المشركين ، وعكرمة بن أبي جهل على الميسرة ، فهزمهم الزبير والمقداد ، وحمل النبي «صلى الله عليه وآله» ، فهزم أبا سفيان (٣).
ونحن لا نصدق هذه الرواية ؛ فقد تقدم : أنه لم يكن مع النبي «صلى الله عليه وآله» خيل.
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٨٤.
(٢) مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٨٧.
(٣) الكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٥٢.
وجاء في بعض الروايات :
أنه كان ثمة فرس واحد ، أو فرسان : فرس للنبي «صلى الله عليه وآله» ، والآخر لأبي بردة بن نيار كما تقدم.
إلا أن يقال : إن المراد : أنه كان في مقابل خيل المشركين : الزبير والمقداد. ولكن ذلك بعيد عن سياق الكلام ، ولا سيما إذا لم يكن معهما خيل. أما العشرة أفراس التي غنمها المسلمون يوم بدر ، فلعلها قد بيعت ، أو نفقت ، أو كان بعضها في حوزة من لم يشاركوا في حرب أحد ، ممن رجع مع ابن أبي أو غيرهم.
ثم إننا لا ندري أين كان علي «عليه السلام» ، الذي قتل نصف قتلى المشركين أو أكثر كما سيأتي؟!.
ولماذا لا تتعرض له هذه الرواية ، ولا تدلنا على دوره في هذه الحرب؟!.
ج : إخلاص علي عليه السّلام وعطفه على كبش الكتيبة :
وأما أن عليا «عليه السلام» انصرف عن قتل حامل لواء المشركين ، لأنه قد عطفته عليه الرحم ، فلا يمكن أن يصح ؛ لأن عليا «عليه السلام» لم يكن ليرحم من حاد الله ، ورسوله ، وكان كبش كتيبة المشركين ، الذين جاؤوا لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين.
ونحن نعلم : أن عليا «عليه السلام» كان في كل أعماله مخلصا لله تعالى كل الإخلاص.
وقد قدمنا الإشارة إلى موقفه حينما قتل عمرو بن عبد ود فلا نعيد.
فالظاهر أن الصحيح : هو أنه ناشده الله والرحم ، واستقبله بعورته فانصرف عنه. وهو بلاء تعرض له أمير المؤمنين «عليه السلام» مع غيره
أيضا ، كعمرو بن العاص ، وبسر بن أبي أرطأة في وقعة صفين ، كما هو معلوم.
نعم ، لقد انصرف عنهم جميعا ، بدافع من كرم النفس ، وطاعة الله.
فهو حين يقتل قومه يقتلهم طاعة لله ، وحين ينصرف عنهم ينصرف لكرم النفس والنبل والشرف ، وطاعة لله أيضا. حيث لم يكن ثمة حاجة للتذفيف عليه ، مع مشاهدة ما لا يحسن مشاهدته منه ـ عورته ـ وقد علم أن الله سيقتله من ضربته تلك ، التي فلقت هامته إلى موضع لحيته.
ولا ننسى أن نشير هنا إلى أنه إذا بلغ السيف إلى موضع لحيته ، فإنه لن يكون قادرا على مناشدة أحد.
د : من قتل أصحاب اللواء :
إن من الثابت : أن عليا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، هو الذي قتل جميع أصحاب اللواء وكانوا أحد عشر رجلا ، ولا يعتنى بتفصيلات طائفة من المؤرخين في من قتل هذا ، ومن قتل ذاك ، ونستند في ذلك إلى ما يلي :
١ ـ قال الطبري ، وابن الزبير ، وغيرهما : «وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي ، قال أبو رافع : قال : فلما قتلهم أبصر النبي «صلى الله عليه وآله» جماعة من المشركين الخ ..».
وستأتي المصادر الكثيرة جدا لهذا النص حين الكلام عن مناداة جبرئيل :
لا سيف إلا ذو الفقار |
|
ولا فتى إلا علي |
وقد نص على أنه «عليه السلام» هو الذي قتل أصحاب اللواء عدد جم من المؤرخين وغيرهم (١) ، وبعضهم ـ كالإسكافي ـ ذكر ذلك في مقام الحجاج والاحتجاج. ولو كان ثمة مجال لإنكار ذلك ، لم يجرؤ على إيراده في مقام كهذا.
٣ ـ وعن أبي عبد الله ، عن أبيه «عليهما السلام» ، قال : كان أصحاب اللواء يوم أحد تسعة ، قتلهم علي بن أبي طالب عن آخرهم الخ .. (٢).
ويمكن تأييد ذلك بما سيأتي إن شاء الله ، من أن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد قتل نصف بل أكثر قتلى المشركين في معركة أحد. لماذا التزوير؟!.
فإذا كان هذا هو الصحيح في هذه القضية ، وإذا كنا نلاحظ كثيرا : أنهم في مقام تفصيلاتهم الأخرى في هذا المقام ، وفي غيره أيضا ، يحاولون إعطاء كثير من الامتيازات لأولئك الذين لم تكن لهم علاقات حسنة بأهل البيت «عليهم السلام». بل كان لغالبهم عداوات كبيرة مع علي وأهل بيته ، وعلاقات وثيقة بأعدائهم ومناوئيهم.
إذا كان كذلك ، فإننا نستطيع أن نعرف سر محاولة صرف الأنظار هنا عن رجل الجهاد الحقيقي ، الذي كان ولا يزال شوكة جارحة في أعين أعداء الدين
__________________
(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٩٣ عن الاسكافي ، وليراجع : آخر العثمانية للجاحظ ص ٣٤٠ ، وشرح التجريد للقوشجي ص ٤٨٦ ، ومجمع البيان ج ٢ ص ٥١٣ ، والبحار ج ٢٠ ص ٢٦ و ٤٩ و ٦٩ و ٨٧ ، وتفسير القمي ج ١ ص ١١٣ ، والإرشاد للشيخ المفيد ص ٥٢ ، وعن الخصال ج ٢ ص ١٢١ و ١٢٤.
(٢) الإرشاد للشيخ المفيد ص ٥٢ ، والبحار ج ٢٠ ص ٨٧ عنه.
الحق ، الذين يحاربون الله ورسوله بالسلاح تارة ، وبالكذب والدعايات المسمومة أخرى ، وبالتحريف والتزوير ثالثة ، وهكذا.
ومن الممكن أن يكون بعض ما ذكروه عن غير علي «عليه السلام» صحيحا أيضا ، وأنهم قد قتلوا بعض المشركين.
ولكن من المؤكد : أنه لم يكن لهم دور بهذا المستوى المعروض فعلا ، ولا هم قتلوا أصحاب اللواء. ولكن مناوئي أهل البيت «عليهم السلام» قد بدلوا الأسماء كيدا منهم وحقدا.
ومن هنا فلا مانع من أن يكون أحدهم ، وهو حمزة ، قد قتل بطلا من غير أصحاب اللواء من المشركين بأن ضربه بالسيف فقطع يده وكتفه ، حتى بلغ مؤتزره ، فبدا سحره (أي رئته) ، ثم رجع ، وقال : أنا ابن ساقي الحجيج (١).
ولسوف يأتي إن شاء الله المزيد من الكلام فيما يرتبط بهذا الموضوع.
ه : مبارزة أبي بكر لولده :
ويقولون : إن أبا بكر دعا ابنه عبد الرحمن للبراز يوم أحد ، وكان عبد الرحمن من أشجع قريش ، وأشدهم رماية!! (٢).
فقال له النبي «صلى الله عليه وآله» : «متعنا بنفسك ، أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي من بصري ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
__________________
(١) السيرة النبوية لدحلان (بهامش السيرة الحلبية) ج ٢ ص ٢٨ ، وأنساب الاشراف ج ١ ص ٥٤.
(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٦٨.
وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)(١)» (٢).
وقد ذكرت قصة شبيهة بهذه لأبي بكر وابنه في يوم بدر أيضا.
لكن فيها : أن عبد الرحمن هو الذي دعا أباه للبراز ، ولكن لم يذكر فيها نزول الآية بهذه المناسبة (٣).
كما أن أكثر المصادر لم تذكر قوله : أما علمت أنك مني بمنزلة الخ ..
وفي بعض السير : أن أبا بكر قال لولده يوم بدر وهو مع المشركين : أين مالي يا خبيث؟.
فقال له عبد الرحمن كلاما معناه : أنه لم يبق إلا عدة الحرب ، التي هي السلاح ، وفرس سريعة الجري ، وجنان يقاتل عليه شيوخ الضلال (٤).
ولنا على ما ذكر ملاحظات :
١ ـ أما بالنسبة لمال أبي بكر الذي طالب به ولده ، فيرده قولهم : إن أبا
__________________
(١) الآية ٢٤ من سورة الأنفال.
(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٦٩ و ٢٢٤ وفيها عن علي ما يؤيد هذا ، والعثمانية للجاحظ ص ٦٢ ولم يذكر نزول الآية وكذا في الكامل لابن الاثير ج ٢ ص ١٥٦ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٥٦ مثله ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٢٥٧ ، وملحق العثمانية ص ٣٣٠ و ٣٤٠ ، والبحار ج ٢٠ هامش ص ١٠٣ عن كشف الغمة ، وعن المقريزي في الامتاع.
(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٦٨ ، والإستيعاب هامش الاصابة ج ٢ ص ٣٩٩ و ٤٠٠ وراجع : غزوة بدر ، فقد أشرنا إلى هذه الرواية هناك أيضا.
(٤) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٦٩ ، وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٩١.
بكر حمل ماله كله حين هاجر من مكة إلى المدينة ، حتى إن أباه أبا قحافة لما جاء وسأل : إن كان أبقى لأهله شيئا ، اضطرت أسماء لأن تضع الحصى في كيس وتلمسه إياه على أنه نقود (١) وقد تقدم بعض الحديث حول ثروة أبي بكر حين الكلام على قضية الغار ، فليراجع ما ذكرناه هناك.
٢ ـ وأما نزول الآية في أبي بكر في هذه المناسبة فلا ندري : هل نصدق هذا؟! أم نصدق قولهم : إن أبا بكر سمع والده أبا قحافة يذكر النبي «صلى الله عليه وآله» بشر ؛ فلطمه لطمة سقط منها ، فنهاه النبي «صلى الله عليه وآله» عن أن يعود لمثلها؟!.
فقال : والله ، لو حضرني سيف لقتلته به فنزلت الآية (٢).
وهذا يعني أن الآية مكية وليست مدنية قد نزلت في أحد ، لأن أبا قحافة قد بقي في مكة إلى حين الفتح.
كما أن هذا ينافي ما قيل في تفسير هذه الآية ، من أن المراد : الدعوة إلى الحرب ، أو إلى القرآن (٣).
ومقتضى ما ذكر في قصته : أنه دعاه لترك الحرب ، وليبقى حيا ويمتعهم بنفسه.
٣ ـ قال ابن ظفر في الينبوع : «لم يثبت أن أبا بكر دعا ابنه للمبارزة ،
__________________
(١) تقدمت مصادر ذلك في هذا الكتاب في فصل هجرة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» حين الحديث حول شراء أبي بكر للموالي ونفقاته.
(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٦٩.
(٣) راجع الدر المنثور ج ٣ ص ١٧٦ عن ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن اسحاق.
وإنما هو شيء ذكر في كتب التفسير» (١).
٤ ـ ولما ذكر الجاحظ في عثمانيته هذه الحادثة متبجحا بها ، أجابه الإسكافي بقوله : «ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر ، فإنه لو تسمعه الإمامية لأضافته إلى ما عندها من المثالب ، لأن قول النبي «صلى الله عليه وآله» : (إرجع) دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد ، لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه ، وأنت تعلم حنو الابن على الأب ، وتبجليه له ، وإشفاقه عليه ، وكفه عنه ، لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي.
وقوله : (ومتعنا بنفسك) إيذان بأنه كان يقتل لو خرج ، ورسول الله كان أعرف به من الجاحظ. فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلي بالحرب ، ومشى إلى السيف بالسيف ، فقتل السادة والقادة ، والفرسان والرجالة»؟! (٢).
٥ ـ وأخيرا .. فإن عائشة تقول : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، غير أن الله أنزل عذري (٣).
وحتى عذرها هذا لا يمكن أن يكون قد نزل فيها كما أثبتناه في كتابنا حديث الإفك ، وفي الجزء الثالث عشر من هذا الكتاب. فكيف تكون الآية قد نزلت بهذه المناسبة؟!.
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٦٩.
(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٩٤ وص ٢٨١ ، وليراجع آخر كتاب العثمانية ص ٣٤٠ وليراجع ص ٢٣٠.
(٣) صحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ج ٣ ص ١٢١ ، وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٥٩ ، والدر المنثور ج ٦ ص ٤١ ، وفتح القدير ج ٤ ص ٢١. وراجع : الغدير ج ٨ ص ٢٤٧.