خطرة الطيف

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

خطرة الطيف

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: أحمد مختار العبّادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

وتجّارها تعقد لواء خالقا ، وتقيم الجهاد سوقا نافقا ، وتركض الخيول السابحة ، وتعامل الله على الصفقة الرابحة ، وكفاها أنّها أم للعدّة من الثغور والحصون ، والمدن ذات الحمى المصون ، وشجرة الفروع الكثيرة والغصون وما منها إلا معقل سام ، وبلد بالخيل والرجل مترام ، وغيل حام ، يحتوي بها ملك باذخ ، وينسق فيها للسلطان فخر شادخ.

وأين سلا من هذه المزية ، والشنعة العلية ، أين الجنود والبنود ، والحصون تزور منها الوفود ، وإن كان بعض الملوك ذهب إلى اتخاذها دارا ، واستيطانها من أجل الأندلس قرارا ، فلقد هم وما أتم وطلله نم.

ولنقل في الحضارة بمقتضى الشواهد المختارة ، ولا كالحلى والطيب ، والحلل الديباجية والجلابيب ، والبساتين ذات المرأى العجيب ، والقصور المبتناة بسفوح الجبال ، والجنّات الوارفة الظلال ، والبرك الناطفة بالعذب الزلال ، والملابس المختالة في أفنان الجمال ، والأعراس الدّالة على سعة الأحوال ، والشورات المقدرات بالآلاف من الأموال.

وأما سلا ، فأحوال رقيقة ، وثياب في غالب الأمر خليقة ، وذمم منحطّة ونفقات تحصرها من التقتير خطّة ، ومساجد فقيرة ، وقيسارية حقيرة ، وزيّ مجلوب وحلي غير معروف ولا منسوب ، تملأ مسجدها الفذ العدد والأكسية ، وتعدم فيها أو تقل الطيالس والأردية ، وتكثر البلغات ، وتندر النعال ، وتشهد بالسجية البربرية والأصوات واللغات والأقوال والأفعال.

وأما العمارة ، فأين يذهب رائدها ، وعلام يعول شاهدها ، وما دار عليه السور متراكم متراكب ، منتسجة مبانية كما تفعل العناكب ، فناديقه (٣٢٥)

__________________

(٣٢٥) فنادق جمع فندق

٦١

كثيرة ، ومساجده أثيرة ، وأرباضه حافلة ، وفي حلل الدوح رافلة ، وسككه غاصّة ، وأسواقه بالدكاكين متراصّة ، أقسم لربض من أرباضها أعمر من مدينة سلا ، وأبعد عن وجود الخلا ، واملأ مهما ذكر الملأ ، بلد منخرق منقطع منفرق ، ثلثه مقبرة خالية ، وثلثه خرب بالية ، وبعضه أخصاص وأقفاص ، ومعاطن وقلاص ، وأواري بقر تحلب ، ومعاطن سائمة تجلب.

وأما الإمارة ، فلمالقة القدح (٣٢٦) المعلّى ، والتّاج المحلّى ، وهو على كل حال بالفضل الأولى ، حيث مناهل المختص ، والخارج الأفيح الفحص. وسلا لا تأكل إلا من غرارة جالب ، لا من فلاحة كاسب. ومالقة مجتزئة بنفسها في الغالب ، محسبة من شرقيها وغربيها بطلب الطالب.

وأما النضارة ، فمن ادّعى أنّه ليس في الأرض مدينة أنضر منها جنابا ، ولا أغزر منها غروسا وأعنابا ، ولا آرج أزهارا ولا أضوأ نهارا ، لم تكذب دعواه ، ولا أزرى به هواه ، إنما هي كلّها روض وجابية وحوض بساتين قد رقمتها الأنهار وترنّمت بها الأطيار.

وسلا بلد عديم الظلال ، أجرد التلال ، إذا ذهب زمن الربيع والخصب المريع ، صار هشيما ، وأضحى ماؤها حميما ، وانقلب الفصل عذابا أليما.

أما المساكن ، فحسبك ما بمالقة من قصور بيض ، وملك طويل عريض جنّة السيد (٣٢٧) ، وما أدراك ما بها من جنّة دانية القطوف ، سامية السقوف ، ظاهرة المزية والشفوف ، إلى غيرها ممّا يشذّ عن الحصر ، إلى هذا العصر.

والجنّات التي ملأت السهل والجبل ، وتجاوزت الأمل ، بحيث لا أسد يمنع من الأصحار بالعشي والأسحار ، ولا لص يستجن بسببه في الديار.

__________________

(٣٢٦) القدح المعلى : السهم السابع في الميسر عند العرب في الجاهلية. وهو أكثر السهام ربحا.

والمعنى هنا مجازي للدلالة على علوّ شأن المدينة. انظر (ابن قتيبه : الميسر والقداح (القاهرة ١٣٤٣).

(٣٢٧) جنة السيد : يبدو أن هذا الاسم قد أطلق على قصر هناك لبعض أمراء الموحدين ، انظر : (Oliver Hurrtado : Granada y sus Monumentos arabes, p, ٥٦٣ y nota I)

٦٢

وأما سلا وإن كان بها للملك دور وقصور ، ولأهل الخدمة بناء مشهور فنهل قليل ، وليس بالجمهور إليه سبيل.

وأما الساكن بمالقة بين راهن قيد الحياة ، ومنتقل من جنّاتها إلى روضات الجنّات ، فأكبر به أن يفاضل ، أو يجادل فيه أو يناضل ، ولا شاهد كالصلات (٣٢٨) الباقية المكتبة ، والتواريخ المقرّرة المرتبة.

فاستشهد مغرب البيان (٣٢٩) وتاريخ ابن حيّان (٣٣٠) ،

__________________

(٣٢٨) صلات جمع صلة ويقصد بها المعاجم والتراجم التي ظهرت مسلسلة تحت هذا الاسم كما هو واضح في المتن.

(٣٢٩) لعلّه يقصد كتاب البيان المغرب لابن عذاري المراكشي الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي. وقد ظهر هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء ، الأول والثاني نشرهما دوزي (ليدن ١٨٤٨ ـ ١٨٥١) والجزء الثالث نشره ليفي بروفنسال (باريس ١٩٣٠) كذلك توجد طبعة لبنانية للجزءين الأول والثاني (بيروت ١٩٥٠) هذا وتوجد ترجمة فرنسية للكتاب من عمل فاجنان Fagnan وأخرى إسبانية لفرناندث جونثالث Fernandez y Gonzalez وقد ظهر جزء رابع خاص بتاريخ الموحدين نشره أويني ميراندا بالاشتراك مع محمد بن تاويت وإبراهيم الكتاني (تطوان ١٩٦٠).

(٣٣٠) ابن حيّان ، المؤرّخ القرطبي الكبير (٣٧٧ ـ ٤٦٩ ، ٩٨٧ ـ ١٠٧٦ م) ومن مؤلّفاته ، كتاب المتين وهو مفقود ، وكان يقع في ستين جزءا ويتناول الأحداث المعاصرة للمؤلف ويعرف أيضا بالتاريخ الكبير. وقد نقل ابن بسّام بعض أجزائه في كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (القاهرة ١٩٣٩ ـ ١٩٤٥) ومن مؤلّفات ابن حيّان أيضا كتاب المقتبس في تاريخ الأندلس ، وكان يقع في عشرة أجزاء ، وقد عثر على خمس قطع منه : ـ الأولى وتتناول عهدي الحكم الأول ومعاوية الثاني وكانت عند المرحوم ليفي بروفنسال الذي استغلّها في كتابة الجزء الأوّل من مؤلّفه الكبير عن تاريخ إسبانيا الإسلامية. وكان يعدّ العدّة لنشرها لو لا وافاه أجله المحتوم. القطعة الثانية وتتناول إمارة الأمير عبد الله الأموي في قرطبة وقد نشرها الراهب الإسباني ملتشور انطونياMelchor Antuna) باريس ١٩٣٧). القطعة الثالثة وتتناول الجزء الأخير من عهد عبد الرحمن الأوسط والشطر الأكبر من عهد ولده محمد ابن عبد الرحمن. وقد نشرها محمود مكي (بيروت ١٩٧٣) والقطعة الرابعة تتناول معظم عهد عبد الرحمن الثالث (الناصر) ونشرها كورينتس وشالمينا ومحمود صبح (مدريد ١٩٧٩) والقطعة الخامسة وتتناول عصر الحكم المستنصر ونشرها عبد الرحمن الحجي (بيروت ١٩٦٥). والكتاب عموما ، كما هو واضح من عنوانه عبارة عن اقتباس من كتب المؤرّخين الذين سبقوه ولا سيّما عيسى الرازي ، أما كتاب المتين فهو تأريخ للأحداث التي رآها المؤلف بنفسه. انظرGarcia Gomez : a proposito de Ibn Hayyan; AlAndalus ٦٤٩١; Vol. XI, Fasc. ٢ ؛ انظر كذلك لنفس المؤلف : Garcia Gomez : Al ـ Hakam II y los Berebers segun un texto inedito de Ibn Hayyan, Al ـ Andalus ٨٤٩١, vol. XIII Fasc. I

٦٣

وتاريخ الزمان (٣٣١) ، وكتاب ابن (٣٣٢) الفرضي وابن بشكوال (٣٣٣) ، وصلة ابن الزبير (٣٣٤) القاضي ومن اشتملت عليه من الرجال ، وصلة ابن الأبّار (٣٣٥) ، وتاريخ ابن عسكر (٣٣٦) وما فيه من أخبار.

وبادر بالإماطة ، عن وجه الإحاطة (٣٣٧) ، ترى الأعلام سامية ، وأدواح الفضلاء نامية ، وأفراد الرجال يضيق بهم رحب المجال.

وسلا المسكينة لا ترجو لعشرتها ، إلا ابن عشرتها ، مهملة الذكر والإشادة ، عاطلة من حلى تلك السادة ، وإن كان بها أهل عبادة ، وسالكي

__________________

(٣٣١) لا أعرف شيئا عن هذا الكتاب الذي يشير إليه ابن الخطيب

(٣٣٢) ابن الفرضي ، مؤرّخ قرطبي (٣٥١ ـ ٤٠٣ ه‍ ـ ٩٦٢ ـ ١٠١٣ م) وهو صاحب كتاب تاريخ علماء الأندلس ، نشره المستشرق الإسباني كوديراCodera في الجزءين السابع والثامن من مجموعة المكتبة الأندلسية (مدريد ١٨٩١).

(٣٣٣) ابن بشكوال ، مؤرّخ قرطبي (٤٩٤ ـ ٥٧٨ ه‍ ـ ١١٠١ ـ ١١٨٣ م) ألّف كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس ، وهو يكمل معجم ابن الفرضي السابق الذكر. وقد نشره كوديرا أيضا في الجزءين الأول والثاني من المكتبة الأندلسية (مدريد ١٨٨٣)

(٣٣٤) القاضي أحمد بن الزبير ، مؤرّخ جياني (نسبة إلى مدينة جيان ٧٠٨ ـ ٦٢٧)(Jaen ه ـ ١٢٢٩ ـ ١٣٠٨) كتب ذيلا لصلة ابن بشكوال سمّاه (صلة الصلة) وقد نشر هذا الكتاب المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال (الرباط ١٩٣٨).

(٣٣٥) ابن الأبّار ، مؤرّخ بلنسي (٥٩٥ ـ ٦٥٨ ه‍ ـ ١١٩٩ ـ ١٢٦٠ م) كتب تكملة أيضا للصلة البشكوالية في تراجم أعلام الأندلس سمّاه (كتاب التكملة لكتاب الصلة) نشر هذا الكتاب كوديراCodera في الجزءين الخامس والسادس من مجموعة المكتبة الأندلسية (مدريد ١٨٨٩) كذلك نشره ابن شنب ، وجونثالث بالنثياGonzalez Palencia وألاركون Alarcon. انظر (Enc.Islam II ,p.٤٧٣) انظر كذلك (دكتور عبد العزيز عبد المجيد : ابن الأبّار ، حياته وكتبه (معهد مولاي الحسن ١٩٥٢)

(٣٣٦) ابن عسكر ، مؤرّخ مالقة (٥٨٤ ـ ٦٣٦ ه‍ ـ ١١٨٨ ـ ١٢٢٨ م) يروي المؤرّخون إنه كتب تاريخا لمالقة ، أتّمه ابن أخيه المسمّى ابن خميس. ويروي ابن الخطيب في إحاطته (نسخة الاسكوريال لوحة ١٥٢) أن القاضي الغرناطي أبا الحسن النباهي (القرن الثامن الهجري) كتب ذيلا لكتاب ابن عسكر سمّاه ذيل على تاريخ مالقة.

(٣٣٧) يقصد ابن الخطيب كتابه المشهور : الإحاطة في تاريخ غرناطة. وتوجد منه نسخ مختلفة في مكتبة الاسكوريال (رقم ١٦٧٣) ومكتبة الأكاديمية التاريخية بمدريد (رقم ٣٤ ، ١٤٢) ورواق المغاربة بالأزهر. وقد نشر عدة أجزاء من هذا الكتاب الأستاذ عبد الله عنان (القاهرة ١٩٥٦) كما توجد طبعة قديمه لهذا الكتاب من جزءين (القاهرة ١٣١٩ ه‍).

٦٤

سبيل زهادة ، فكم بمالقة من وليّ ، وذو مكان عليّ ، ومن طنجاليّ وساحليّ (٣٣٨). وهذه حجج لا تدفع ، ودلائل إنكارها لا ينفع ، فمن شاء فليؤثر الاتصاف بالإنصاف ، ومن شاء فليؤثر الخلاف وسجايا الأخلاف. فأنا ـ يعلم الله ـ قد عدلت لما حكمت ، ورفعت لما ألممت ، وسكت عن كثير ، وجلب فضل أثير ، إذا لم تحوج إليه ضرورة الفخر ، ولا داعية القهر. ولو شئت لجلبت من أدلّة التفضيل ما لا يدفع في عقده ، ولا سبيل لنقده ، لكن الله أغنى عن ذلك ، وكفى بهذه المسالك ، بيانا للسالك ، وفضلا بين المملوك والمالك. والله يشمل الجميع بنعماه ، ويتغمّد الحيّ والميت برحماه.

وفصل الخطة أن لمالقه مزية بجلالها وكمالها وحسن أشكالها ، ووفود مالها ، وتهدّل أظلالها وشهرة رجالها ، وظرف صنائعها وأعمالها.

ولسلا ، الفضل لكن على أمثالها ونظرائها ، من بلاد المغرب وأشكالها ، إذ لا ينكر فضل اعتدالها ، وأمنها من الفتن وأهوالها عند زلزالها ، ومدفن الملوك الكرام بجبالها.

ومالقة ، قطر من الأقطار ، ذوات الأقدار والأخطار ، وتحصيل الأوطار.

وسلا ، مصبّ الأمطار ، ومرعى القطار ، وبادية بكل اعتبار.

وهنا نلقي عصا التسيار ، ونغضّ من عنان الإكثار ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ...

__________________

(٣٣٨) انظر ما كتبه الرّحّالة ابن بطوطه عن هؤلاء المتصوّفة أثناء رحلته في مملكة غرناطة (تحفة النظار ص ١٨٥) انظر كذلك) Levi Provencal : Le Voyage d, Ibn Battuta dans le royaume de Grenada) ١٦٣١ (ـ Melanges Wiliam Marcais) Paris ١٦٩١ (P. ٨١٢ انظر كذلك (Garcia G ? mez : El Parang ? n entre Malaga y Sale p. ٤٩١ y Nota. Op. Cit.)

٦٥
٦٦

الرسالة الثالثة

كتاب معيار الاختبار في ذكر المعاهد والديار

المجلس الأول

الحمد لله الذي انفردت صفاته بالاشتمال على أشتات الكمال ، والاستقلال بأعباء الجلال المنزّه عن احتلال الحلال ، المتّصفة الخلال بالاختلال ، المعتمد بالسؤال لصلة النوال ، جاعل الأرض كسكّانها متغايرة الأحوال ، باختلاف العروض والأطوال ، متّصفة بالمحاسن والمقابح عند اعتبار الهيئات والأوضاع والصنائع والأعمال على التفصيل والإجمال. فمن قام خيره بشرّه تحت خطّة الاعتدال ، ومن قصر خيره عن شرّه كان أهلا للاستعاضة والاستبدال ومن أربى خيره على شرّه وجب إليه شدّ الرحال ، والتمس بقصده صلاح الحال. وكثيرا ما اغتبط الناس بأوطانهم فحصلوا في الجبال على دعة البال وفازوا في الرمال بالآمال ، حكمة منه في اعتمار ربع الشمال ، وتفيء أكنافه عن اليمين والشمال إلى أن يدعو أهل الأرض لموقف العرض والسؤال ، ويذهل عن الأهل عظيم الأهوال. والصلاة على سيّدنا ومولانا محمّد المصطفى الذي أنقذ بدعوته الوارفة الظلال من ظلمات الضلال ، وجاء يرفع الأغلال ، وتمييز الحرام من الحلال ، والرضى عمّن له من الصحب والآل موارد الصدق عند كذب الآل.

أما بعد ، ساعدك السعد ، ولان لك الجعد ، فإن الإنسان وإن اتّصف بالإحسان وإبانة اللسان ، لما كان بعضه لبعض فقيرا ، نبيها كان أو حقيرا ، إذ مؤنته التي تصلح بها حاله ، لا يسعها انتحاله ، لزم اجتماعه وائتلافه على

٦٧

سياسة يؤمن معها اختلافه ، واتخاذ مدينة يقرّ بها قراره ، ويتوجّه إليها ركونه وفراره ، إذا رابه أضراره ، ويختزن بها أقواته التي بها حياته ، ويحاول منها معاشه الذي به انتعاشه. فإن كان اتخاذها جزافا واتفاقا ، واجتزاء ببعض المآرب وارتفاقا ، تجاول شرّها وخيرها ، وتعارض نفعها وضيرها ، وفضلها في الغالب غيرها ، وإن كان عن اختيار ، وتحكيم معيار ، وتأسيس حكيم ، وتفويض للعقل وتحكيم ، تنافر إلى حكمها النفر ، وأعمل السفر ، وكانت مساوئها بالنسبة إلى محاسنها تغتفر ، إذ وجود الكمال فاضح للآمال ، ولله درّ القائل :

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها

كفى المرء فضلا أن تعدّ معايبه

وبحسب ذلك حدّث من يعنى بالأخبار ينقلها ، والحكم يصقلها ، والأسمار ينتقيها ، والآثار يخلدها ويبقيها ، والمجالس يأخذ صدورها ، والآفاق يشيم شموسها وبدورها ، والحلل يعرف دورها ويأكل قدورها ، والطرف يهديها ، والخفيّات يبديها ، وقد جرى ذكر البلدان ، وذكر القاصي والدان ، ومزايا الأماكن ، وخصائص المنازل والمساكن ، والمقابح والمحاسن ، والطّيب والآسن.

قال : ضمّني الليل وقد سدل المسح راهبه ، وانتهت قرصة الشمس من يد الأمس ناهبه ، ودلفت جيوشه الحبشيّة وكتائبه ، وفتحت الأزهار بشطّ المجرّة كواكبه ، وجنحت الطيور إلى وكونها ، وانتشرت الطوّافات بعد سكونها ، وعوت الذئاب فوق هضابها ، ولوحت البروق ببيض عضابها وباهت الكفّ الخضيب بخضابها ، وتسللت اللصوص لانتهاز فرصها ، وخرجت الليوث إلى قسمها وحصصها ، في مناخ رحب المنطلق ، وثيق الغلق ، سامي السور كفيل بحفظ الميسور ، يأمن به الذعر خائفه ، وتدفع معرّة السماء سقائفه. يشتمل على مأوى الطريد ، ومحراب المريد ، ومرابط خيل البريد ، ومكاسع الشيطان المريد ، ذي قيّم كثير البشاشة ، لطيف الحشاشة ، قانع بالمشاشة (٣٣٩) ، يروّج ويشي ، ويقف على ريب الأعيان وأعيان

__________________

(٣٣٩) المشاشة : رأس العظم اللين ، يريد أن يقول إن صاحب هذا الخان رجل غير طمّاع يقنع بالقليل.

٦٨

الريب فلا يشي. برّ فأكثر ، ومهّد ووثّر ، وأدفأ ودثّر ، ورقّى بسور استنزاله فأثّر. فلمّا أزحت الكلفة وأقضمت جوادي العلفة ، وأعجبتني من رفقاء الرفق الألفة ، رمقت في بعض السقائف آمنا في زيّ خائف ، وشيخا طاف منه بالأرض طائف ، وسكن حتى اليمامة والطائف ، جنيب عكّاز ومثير شيب أثيث الوفرة ، وقسي ضلوع تؤثّر بالزفرة ، حكم له بياض الشيبة بالهيبة ، وقد دار بذراعه للسبحة الرقطاء حنش ، كما اختلط روم وحبش ، والى يمينه دلو فاهق ، وعن يساره تلميذ مراهق ، وأمامه حمار ناهق ، وهو يقول :

هم أسكنونا في ظلال بيوتهم

ظلال بيوت أدفأت وأكنّت

أبوا أن يملّونا ولو أن أمّنا

تلاقي الذي يلقون منا لملّت

حتى إذا اطمأن حلوله ، وأصحب ذلوله ، وتردّد إلى قيّم الخان زغلوله ، واستكبر لما جاءه بما يهواه رسوله ، استجمع قوّته واحتشد ، ورفع عقيرته وأنشد :

أشكو إلى الله ذهاب الشباب

كم حسرة أورثني واكتئاب

سدّ عن اللذات باب الصبا

فزارت الأشجان من كل باب

وغربة طالت فما تنتهي

موصولة اليوم بيوم الحساب

وشرّ نفس كلّما هملجت

في الغي لم تقبل خطام المتاب

يا رب شفّع في شيبي ولا

تحرمني الزّلفى وحسن المآب

ثم أنّ ، والليل قد جنّ ، فلم يبق في القوم إلا من أشفق وحنّ ، وقال وقد هزّته أريحيّة ، على الدنيا سلام وتحيّة ، فلقد نلنا الأوطار وركبنا الأخطار ، وأبعدنا المطار وافترقنا الأقطار ، وحلبنا الأشطار. فقال فتاه ، وقد افترّت عن الدرّ شفتاه ، مستثيرا لشجونه ، ومطلعا لنجوم همّه من دجونه ، ومدلا عليه بمجونه. وماذا بلغ الشيخ من أمدها أو رفع من عمدها حتى يقضى منه عجب ، أو يجلى منه محتجب؟ فأخذته حميّة الحفاظ لهذه الألفاظ ، وقال أي بنيّ ، مثلي من الأقطاب ، يخاطب بهذا الخطاب!! وأيم الله لقد عقدت الحلق ، ولبست من الدهر الجديد والخلق ، وفككت الغلق ، وأبعدت في الصبوة الطلق ، وخضت المنون ، وصدت الضبّ والنون ، وحذقت

٦٩

الفنون ، وقهرت بعد سليمان الجنون ، وقضيت الديون ، ومرضت لمرض العيون وركبت الهمالج ، وتوسّدت الوذائل (٣٤٠) والدمالج ، وركضت الفاره ، واقتحمت المهالك والمكاره ، وجبت البلاد ، وحضرت الجلاد وأقمت الفصح والميلاد ، فعدت من بلاد الهند والصين بالعقل الرصين ، وحذقت بدار قسطنطين كتاب اللطين (٣٤١) ودست مدارس أصحاب الرّواق ورأيت غار الأرواح وشجر الوقواق ، وشريت حلل اليمن بأبخس ثمن ، وحللت من عدن ، حلول الروح من البدن ، ونظرت إلى قرن الغزالة إذا شدن ، وأزمعت عن العراقين سرى القين ، وشربت من ماء الرافدين باليدين ، وصلّيت بمحراب الدمنى ركعين ، وتركت الأثر للعين ، ووقفت حيث وقف الحكمان (٣٤٢) ، وتقابل التركمان ، وأخذت بالقدس ، عن الحبر الندس ، وركبت الولايا إلى بلاد العلايا بعد أن طفت بالبيت الشريف ، وحصلت بطيبة على الخصب والريف في فصل الخريف ، وقرأت بإخميم علم التصريف ، وأسرعت في الانحطاط إلى الفسطاط والمصر الرحب الاختطاط ، وسكنت مدينة الإسكندرية ثغر الرباط ، وعجلت بالمرور إلى تكرور ، فبعت الظل بالحرور ، ووقفت بإسبانية إلى الهيكل المزور ، وحصلت بأفريقية على الرفد غير المنزور ، وانحدرت إلى المغرب انحدار الشمس إلى المغرب ، وصمّمت تصميم الحسام الماضي المضرب ، ورابطت بالأندلس ثغر الإسلام ، وأعلمت بها تحت ظلال الأعلام. فآها والله على عمر مضى وخلّف مضضا ، وزمن انقضى وشمل قضى الله من تفرقة ما قضى ، ثم أجهش ببكائه ، وأعلن باشتكائه وأنشد :

لبسنا فلم نبل الزمان وأبلانا

يتابع أخرانا على الغيّ أولانا

ونغترّ بالآمال والعمر ينقضي

فما كان بالرجعى إلى الله أولانا

__________________

(٣٤٠) كذا في الأصل

(٣٤١) يقصد اللغة اللاتينية

(٣٤٢) الحكمان هما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ، أثناء النزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.

٧٠

فماذا عسى أن ينظر الدهر ما عسى

فما انقاد للزجر الحثيث ولا لانا

جزينا صنيع الله شرّ جزائه

فلم نرع ما من سابق الفضل أولانا

فيا ربّ عاملنا بما أنت أهله

من العفو واجبر صدعنا أنت مولانا

ثم قال :

لقد مات أخواني الصالحون

فما لي صديق ولا لي عماد

إذا أقبل الصبح ولىّ السرور

وإن أقبل الليل ولىّ الرقاد

فتملكتني له رقّة ، وهزّة للتماسك مسترقة ، فهجمت على مضجعه هجوما أنكره ، وراع شاءه وعكره ، وغطّى بفضل ردنه سكّره ، فقلت له على رسلك أيها الشيخ ، ناب حنّت إلى حوار ، وغريب أنس بجوار ، وحائر اهتدى بمنار ، ومقرور قصد إلى ضوء نار ، وطارق لا يفضح عيبا ، ولا يثلم غيبا ، ولا يهمل شيبا ، ولا يمنع سببا. ومنتاب يكسو الحلّة ، ويحسن الخلّة ، ويفرغ الغلّة ، ويملأ القلّة :

أجارتنا إنا غريبان هاهنا

وكلّ غريب للغريب نسيب

فلمّا وقم الهواجس وكبتها ، وتأمّل المخيلة واستثبتها ، تبسّم لما توسّم ، وسمح بعد ما جمح ، فهاج عقيما فتر ، ووصل ما بتر وأظهر ما خبّأ تحت ثوبه وستر ، وماج منه البحر الزاخر ، وأتى بما لا تستطيعه الأوائل ولا الأواخر.

وقال وقد ركض الفنون وأجالها ، وعدّد الحكم ورجالها ، وفجّر للأحاديث أنهارها وذكر البلدان وأخبارها.

لقد سئمت مآربي

فكأنّ أطيبها خبيث

إلا الحديث فإنه مثل اسمه أبدا حديث

فلما ذهب الخجل والوجل ، وطال المرويّ والمرتجل ، وتوسّط الواقع وتشوّفت للنجوم المواقع ، وتوردت الخدود الفواقع ، قلت أيها الحبر ، واللج الذي لا يناله السّبر ، لا حجبك قبل عمر النهاية القبر ، وأعقب كسر أعداد عمرك المقابلة بالقبول والجبر ، كأنّا بالليل قد أظهر لوشك الرحيل الهلع ، والغرب الجشع لنجومه قد ابتلع ، ومفرّق الأحباب وهو الصبح قد طلع ، فأولني عارفة من معارفك أقتنيها ، واهزز لي أفنان حكمك أجتنيها. فقال

٧١

أمل ميسّر ، ومجمل يحتاج أن يفسر ، فأوضح الملغز ، وأبن لي الطلا من البرغز ، وسل عمّا بدا لك فهو أجدى لك ، فأقسم لا تسألني عن غامض ، وحلو وحامض ، إلا أوسعته علما وبيانا ، وأريتك الحق عيانا. قلت صف لي البلاد وصفا لا يظلم مثقالا ، ولا يعمل في الصدق وخدا ولا إرقالا (٣٤٣) ، وإذا قلتم فاعدلوا ومن أصدق من الله مقالا. فقال سل ولا تسل ولو راعك الأسل. قلت أنقض لي البلاد الأندلسية من أطرافها ، وميّز بميزان الحق بين اعتدالها وانحرافها ، ثم اتلها بالبلاد المرينية نسقا ، واجل بنور بيانك غسقا وهات ما تقول في جبل الفتح (٣٤٤).

قال فاتحة الكتاب من مصحف ذلك الإقليم ، ولطيفه السميع العليم ، وقصص المهارق ، وأفق البارق ، ومتحف هذا الوطن المباين للأرض المفارق. مأهل العقيق وبارق ، ومحطّ طارقها بالفتح طارق ، إرم البلاد التي لم يخلق مثله فيها ، وذا المناقب التي لا تحصرها الألسنة ولا توفيها حجزه البحر حتى لم يبق إلا خصر ، فلا يناله من غير تلك الفرصة ضيق ولا حصر. وأطلّ بأعلاه قصر ، وأظله فتح من الله ونصر ، ساوق سوره البحر فأعياه ، قد تهلل بالكلس محيّاه ، واستقبل الثغر الغريب فحيّاه ، وأطرد صنع الله فيه من عدو يكفيه ، ولطف يخفيه ، وداء عضال يشفيه ، فهو خلوة العبّاد ومقام العاكف والباد ، ومسلحة من وراءه من العباد ، وشقّة القلوب المسلمة والأكباد. هواؤه صحيح ، وثراه بالخزين شحيح ، وتجر الرباط فيه ربيح ،

__________________

(٣٤٣) الوخد والإرقال السير السريع

(٣٤٤) جبل الفتح هو جبل طارق بن زياد وهو يسمّى اليوم.Gibraltar وهذا الجبل كان يطلق عليه قبل الفتح الإسلامي أسماء عديدة أهمّها الاسم الفينيقي Calpe ومعناه تجويف ، إذ كان هذا الاسم يطلق أصلا على مغارة كبيرة في هذا الجبل عرفت فيما بعد باسم مغارة القدّيس ميخائيل.San Miguel وبعد الفتح الإسلامي عرف هذا الجبل باسم الصخرة وجبل الفتح كما عرف أيضا بجبل طارق وهو الاسم المعروف به حتى اليوم. ومضيق جبل طارق أو بحر الزقاق ، ذراع ضيّق من الماء يبلغ عرضه في أضيق جهاته حوالي ١٥ ك. م وهي مسافة لا وزن لها من ناحية الانتشار العسكري بين الشاطئين الإفريقي والإسباني. ومن هنا نشأ صراع تقليدي مستمر بين الشاطئ الأوروبي والشاطئ الإفريقي حول السيطرة على هذا المضيق ، منذ أقدم العصور حتى وقتنا الحاضر انظر (Jose Carlos de Luna : Historia de Gibraltar) راجع كذلك ما كتبه زيبولدSeybold من هذا الموضوع في (Ene.IsI.II P.٩٧١.٠٨١)

٧٢

وحماه للمال والحريم غير مبيح ، ووصفه الحسن لا يشان بتقبيح ، إلا أنه والله يقيه ممّا يتّقيه ، بعيد الأقطار ، ممار بالقطار (٣٤٥) كثير الرياح والأمطار ، مكتنف بالرمل المخلف ، والجوار المتلف ، قليل المرافق معدوم المشاكل والمرافق ، هزل الكراع لعدم الازدراع ، حاسر الذراع للقراع ، مرتزق من ظل الشراع ، كورة دبر (٣٤٦) ومعتكف أزل وصبر ، وساكنه حي في قبر.

هو الباب إن كان التزاور واللقيا

وغوث وغيث للصريخ وللسقيا

فإن تطرق الأيام فيه بحادث

وأعزز به قلنا السلام على الدنيا

قلت فأسطبّونة (٣٤٧) قال ذهب رسمها ، وبقي اسمها ، وكانت مظنّة النعم الغزيرة ، قبل حادث الجزيرة.

قلت فمربلّة (٣٤٨) ، قال بلد التأذين على السردين ، ومحلّ الدعاء والتامين ، لمطعم الحوت (٣٤٩) السمين. وحدقاتها مغرس العنب العديم القرين ، إلى قبّة أرين. قلت إن مرساها غير أمين ، وعقارها غير ثمين ، ومعقلها تركبه الأرض عن شمال ويمين.

قلت فسهيل (٣٥٠) ، قال حصن حصين ، يضيق عن مثله هند وصين ،

__________________

(٣٤٥) القطار والقطور ، السحاب الكثير القطر أي المطر

(٣٤٦) في نسخة أخرى حبر ، والدبر جماعة النحل والزنابير

(٣٤٧) اسطبونه Estepona بلدة على ساحل البحر الأبيض المتوسط غرب مدينة مالقة.

(٣٤٨) مربلة ، Marabella ، تقع على ساحل البحر المتوسط أيضا على مسافة ٦٠ ك. م غربي مالقه.

(٣٤٩) الحوت اصطلاح مغربي يعني السمك بوجه عام ، ولا يزال مستعملا إلى اليوم.

(٣٥٠) سهيل ، ميناء على البحر المتوسط يسمّى اليوم Fuengirola ويقع على مسافة ٢٨ ك. م شرقي مربله. وهناك جبل عال يزعم أهل تلك الناحية أن النجم سهيل كان يرى من أعلاه ولذلك سمّاه العرب بهذا الاسم. وقد زار الرحّالة الطنجي المعروف بابن بطوطه هذه المنطقة في القرن الثامن الهجري أي في أيام ابن الخطيب ، وأعطانا وصفا يبيّن خطورة هذا الموقع ، يقول : ومربله بليدة حسنة خصبة ، ووجدت بها جماعة من الفرسان متوجّهين إلى مالقه ، فأردت التوجّه في صحبتهم ، ثم إن الله تعالى عصمني بفضله ، فتوجّهوا قبلي فأسروا في الطريق كما سنذكره وخرجت في أثرهم ، فأمّا جاوزت حوز مربله ودخلت في حوز سهيل ، مررت بفرس ميت في بعض الخنادق ، ثم مررت بقفّة حوت (اصطلاح مغربي يعني سمك بوجه عام) مطروحة بالأرض ، فرابني ذلك ، كان أمامي برج الناظور فقلت في نفسي ، لو ظهر هنا عدو لأنذر به صاحب البرج ، ثم تقدمت إلى دار هنالك فوجدت عليه فرسا ـ

٧٣

ويقضي بفضله كل ذي عقل رصين ، سبب عزّه متين ، ومادة قوته شعير وتين قد علم أهله مشربهم ، وأمنوا مهربهم ، وأسهلت بين يديه قراه ، مائلة بحيث تراه ، وجاد بالسمك واديه ، وبالحب ثراه ، وعرف شأنه بأرض النوب ، ومنه يظهر سهيل من كواكب الجنوب ، إلا أن سواحله بلّ (٣٥١) الغارة البحرية ، ومهبط السرية غير السرية ، الخليقة بالحذر الحريّة ، ومسرح السائمة الأميرية ، وخدّامها كما علمت أولئك هم شرّ البرية.

قلت فمدينة مالقة (٣٥٢) ، فقال : وما أقول في الدرّة الوسيطة ، وفردوس

__________________

مقتولا. فبينما أنا هنالك إذ سمعت الصياح من خلفي. وكنت قد تقدمت أصحابي فعدت إليهم ، فوجدت معهم قائد حصن سهيل فأعلمني أن أربعة أجفان للعدو ظهرت هنالك ، ونزل بعض عمارتها إلى البر ، ولم يكن الناظور بالبرج فمرّ بهم الفرسان الخارجون من مربله وكانوا اثني عشر ، فقتل النصارى أحدهم وفرّ واحد وأسر العشرة وقتل معهم رجل حوات وهو الذي وجدت قفته مطروحة بالأرض. وأشار على ذلك القائد بالمبيت معه في موضعه ليوصلني منه إلى مالقه ، فبتّ عنده بحصن الرابط المنسوبة إلى سهيل والأجفان المذكورة مرساة عليه ، وركب معي بالغد فوصلنا إلى مدينة مالقه. راجع (رحلة ابن بطوطه المسمّاة تحفة النظار في غرائب الأمصار ، ج ٢ ، ص ١٨٥)

(٣٥١) في نسخ أخرى تقرأ فل أو جل

(٣٥٢) مالقةMalaca مدينة ساحلية معروفة بجنوب شرق الأندلس أسسها الفينيقيون عام ١٢٠٠ ق. م وأعطوها اسم Malaca ومعناه المملح وذلك نسبة إلى مستودعات الأسماك المملحة التي كانت تعمل وتحفظ فيها. واشتهرت مالقه إلى جانب ذلك بزراعة الفواكه الممتازة لا سيما التين والرمان كما اشتهرت بصناعة الفخارCeramic أما من الناحية السياسية فكانت عاصمة الحموديين الأدراسة أيام ملوك الطوائف كما كانت تعتبر العاصمة الثانية بعد مدينة غرناطة أيام ملوك بني الأحمر. وقد كتب عنها كثير من الكتاب المسلمين وعلى رأسهم لسان الدين بن الخطيب كما سبق أن بينا نقتصر الآن على ما ذكره عنها ابن بطوطة باعتباره معاصرا لابن الخطيب يقول : (فوصلنا مدينة مالقه إحدى قواعد الأندلس وبلادها الحسان ، جامعة بين مرافق البر والبحر كثيرة الخيرات والفواكه. رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير ، ورمانها المرسى الياقوتي لا نظير له في الدنيا. وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب ... وبمالقه يصنع الفخار المذهب العجيب ، ويجب منها إلى أقاصي البلاد. ومسجدها كبير الساحة ، شهير البركة ، وصحنه لا نظير له في الحسن ، فيه أشجار النارنج البعيدة ، ولما دخلت مالقه ، وجدت قاضيها أبا عبد الله ... الطنجالي قاعدا لجامع الأعظم ومعه الفقهاء ووجوده الناس يجمعون مالا برسم الأسارى الذي تقدم ذكرهم ، فقلت والحمد لله الذي عافاني ولم يجعلني منهم وأخبرته بما اتفق لي بعدهم فعجب من ذلك وبعث إلى بالضيافة رحمه‌الله). انظر (رحلة ابن بطوطه ج ٢ ، ص ١٨٦ ـ ١٨٧) راجع كذلك ما كتبه ابن سعيد المغربي في وصف مالقة (المقري : نفح الطيب ـ

٧٤

هذه البسيطة ، أشهد لو كانت سورة لقرنت بها حذقة (٣٥٣) الإطعام ، أو يوما لكانت عيدا في الأيّام تبعث لها بالسلام مدينة السلام ، وتلقى لها يد الاستسلام ، محاسن بلاد الإسلام. أي دار ، وقطب مدار ، وهالة إبدار ، وكنز تحت جدار ، قصبتها مضاعفة الأسوار ، مصاحبة السنين محالفة للأدوار ، قد برزت في أكمل الأوضاع وأجمل الأطوار ، كرسيّ ملك عتيق ومدرج مسك فتيق ، وإيوان أكاسره ، ومرقب عقاب كاسره ، ومجلى فاتنة خاسره ، وصفقة غير خاسره ، فحماها منيع حريز ، وديوانها ذهب إبريز ، ومذهب فخارها له على الأماكن تبريز ، إلى مدينة تبريز ، وحلل ديباجها البدائع ذات تطريز. اضطبنت دار الأسطول ، وساوقت البحر بالطول ، وأسندت إلى جبل الرحمة ظهرها ، واستقبلت ملعبها ونهرها ، ونشقت وردها الأرج وزهرها ، وعرفت قدرها ، فأعلت مهرها ، وفتحت جفنها على الجفن غير الغضيض ، والعالم الثاني ما بين الأوج إلى الحضيض. دار العجائب المصنوعة ، والفواكه غير المقطوعة ولا الممنوعة ، حيث الأواني تلقي لها يد الغلب ، صنائع حلب ، والحلل التي تلحّ صنعاء فيها بالطلب ، وتدعو إلى الجلب ، إلى الدست الرهيف ذي الورق الهيف. وكفى برمّانها حقاق ياقوت ، وأمير قوت ، وزائرا غير ممقوت. إلى المؤاساة ، وتعدد الأساة ، وإطعام الجائع والمساهمة في الفجائع ، وأي خلق أسرى من استخلاص الأسرى ، تبرز منهم المخدّرة حسري ، سامحة بسواريها ولو كانا سواري كسرى ، إلى المقبرة التي تسرح بها العين ، ويستهان في ترويض روضاتها العين. إلى غللها (٣٥٤) المحكمة البنيان ، الماثلة كنجوم السماء للعيان ، وافتراض سكناها أو أن العصير على الأعيان ، ووفور أولي المعارف والأديان.

وأحسن الشعر مما أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

__________________

ج ١ ، ص ١٨٦) والحميري في الروض المعطار ص ١٧٧ ـ ١٧٩ ، وياقوت في معجم البلدان ص ٣٦٧) انظر كذلك (Guillen Robles : Malaga musulmana) وما كتبه ليفي برفنسال عن هذه المدينة في (Enc.ISl.p.٩٩١ ـ ٠٠٢)

(٣٥٣) الحذقة هي الاحتفال بإتمام الصبي قراءة القرآن

(٣٥٤) لعل الغلل هنا المباني الريفية التي يلجأ إليها الأهالي لجمع العنب

٧٥

وعلى ذلك فطينها يشقى به قطينها ، وأزبالها تحيّى بها سبالها ، وسروبها يستملّ منها مشروبها. فسحنها (٣٥٥) متغيّرة ، وكواكب أذهانها النيّرة متحيّرة ، وأقطارها جدّ شاسعة ، وأزقّتها حرجة غير واسعة ، وآبارها تفسدها أزفارها وطعامها لا يقبل الاختزان ، ولا يحفظ الوزان ، وفقيرها لا يفارق الأحزان ، غير القسط أصواتها ، وأرحيتها تطرقها النوائب ، وتصيب أهدافها السهام الصوائب ، وتعد لها الجنائب (٣٥٦) ، وتستخدم فيها الصّبا والجنائب (٣٥٧) وديارها الآهلة قد صمّ بالنزائل صداها ، وأضحت بلاقع بما كسبت يداها ، وعين أعيانها أثر ، ورسم مجادتها قد دثر ، والدهر لا يقول لعا لمن عثر ، ولا ينظم شملا اذا انتثر. وكيف لا يتعلّق الذام ببلد يكثر به الجذام ، محلّة بلواه آهله ، والنفوس بمعرّة عدواه جاهله.

ثم تبسّم عند انشراح صدر ، وذكر قصّة الزبرقان بن بدر : (٣٥٨)

تقول هذا مجاج النحل تمدحه

وإن ذممت فقل قيء الزنابير

مدح وذم وعين الشيء واحدة

إن البيان يري الظلماء في النور

فبليّش (٣٥٩) قال حادها المطر الصّيّب ، فنعم البلد الطيّب ، حلى ونحر وبرّ ولوز وتين ، وسبب من الأمن متين ، وبلد أمين ، وعقار ثمين ، وفواكه عن شمال ويمين ، وفلاحة مدعى انجابها لا يمين ، إلا أن التشاجر بها أنمى

__________________

(٣٥٥) في نسخ أخرى كتبت : فساحاتها ، فسخمها

(٣٥٦) الجنائب هنا بمعنى الدواب

(٣٥٧) الصبا والجنائب بمعنى رياح الشمال والجنوب

(٣٥٨) هذا الشعر كتبه سيمونيت على شكل نثر راجع (Simonet : Op.cit.p.٧)

(٣٥٩) بليش ، تحريف لكلمة اللاتينيةVallis بمعنى وادي ، وتسمّى الآن Velez وتقع في غرب مالقه بنحو ٣٤ ك. م وقد وصفها ابن بطوطه بقوله : وهي مدينة حسنة ، بها مسجد عجيب ، وفيها الأعناب والفواكه والتين مثل مالقه (رحلة ابن بطوطة ، ج ٢ ، ص ١٨٧). ونظرا لأن اسم بليش قد أطلق على أماكن أندلسية أخرى ، فقد سمّيت هذه البلدة باسم Velez Malaga لجوارها مدينة مالقه. وسنرى في الصفحات القليلة القادمة أن ابن الخطيب يعيد ذكر بليش مرة أخرى ، وهو في الواقع يقصد بلدة أخرى بهذا الاسم تعرف اليوم باسم Velez Rubio وتقع بجوار مدينة لورقه. راجع (F. Simonet : Deacripcion del reino de Granada p. p. ٣٩, ١١١)

٧٦

من الشجر ، والقلوب أقسى من الحجر ، ونفوس أهلها بيّنة الحسد والضجر وشأنها غيبة ونميمة ، وخبيث مائها على ما سوّغ الله من آلائها تميمة.

قلت فقمارش (٣٦٠) ، قال مودع الوفر ، ومحطّ السفر ، ومزاحم الفرقد والغفر ، حيث الماء المعين ، والقوت المعين ، لا يخامر قلب الثائر به خطرة وجله ، إلا من أجله ، طالما فزعت إليه نفوس الملوك الأخائر بالذخائر ، وشقّت عليه أكياس المرائر في الضرائر وبه الأعناب التي راق بها الجناب ، والزياتين واللوز والتين ، والحرث الذي له التمكين ، والمكان المكين ، إلا أنه عدم سهله ، وعظم جهله ، فلا يصلح فيه إلا أهله.

قلت فالمنكّب (٣٦١) ، قال مرفأ السفن ومحطّها ، ومنزل عباد المسيح ومختطّها. بلدة معقلها منيع ، وبردها صنيع ، ومحاسنها غير ذات تقنيع. القصر المفتّح الطيقان ، المحكم الاتقان ، والمسجد المشرف المكان ، والأثر المنبئ عن كان وكان ، كأنه مبرد واقف ، أو عمود في يد مثاقف ، قد أخذ من الدهر الأمان ، تشبّه بصرح هامان ، وأرهفت جوانبه بالصخر المنحوت ، وكاد أن يصل ما بين الحوت والحوت (٣٦٢) غصّت بقصب السكر أرضها ، واستوعب فيها طولها وعرضها زبيبها فائق ، وجنابها رائق.

وقد متّ إليها جبل الشوار (٣٦٣) بنسب الجوار ، منشأ الأسطول ، فوعدها

__________________

(٣٦٠) قمارش : وتسمى الآن Comares وتقع بالقرب من مدينة غرناطة وكانت تعد من الحصون القوية الهامة في مملكة غرناطه

(٣٦١) المنكب : يبدو انه اسم عربي بمعنى الحصن المرتفع ويسمّى اليوم Almunecar أما الاسم القديم لهذا المكان فهوSexi وهو مرفأ ساحلي مرتفع في جنوب شرق الأندلس بمقاطعة غرناطة. وبهذا المرسى نزل الأمير عبد الرحمن بن معاوية عند دخوله الأندلس في ربيع الأول سنة ١٣٨ ه‍ (سبتمبر ٧٥٥ م) وقد لقّب عبد الرحمن بعد ذلك بالداخل. راجع ما كتبه الإدريسي عن هذه البلدة وآثارها في كتابه (نزهة المشتاق ص ١٩٩ ، تشر دوزي ، دي خويه ١٨٦٦) راجع كذلك (الروض المعطار ص ١٨٦)

(٣٦٢) الحوت الأول بمعنى السمك والحوت الثانية بمعنى نجم والمعنى هنا مجازي يريد أن يصور عظم ارتفاع هذا القصر.

(٣٦٣) لعله يريد بجبل الشوار ، جبل شلير وهو تحريف للاسم اللاتيني القديم Solorius أوMons Solarius أي جبل الشمس وذلك لشدة لمعانه نتيجة لانعكاس أشعة الشمس على قممه المغطّاة بالثلوج الناصعة صيفا وشتاء. ويعرف هذا الجبل اليوم باسم سييرا نيفاداSierra Nevada أي الجبال المثلجة. انظر (الروض المعطار ص ١١٢) انظر كذلك (Simonet ,OP.cit.p ٧٤)

٧٧

غير ممطول ، وأمده لا يحتاج إلى الطول. إلا أن أسمها مظنة طيرة تستنف (٣٦٤) ، فالتنكيب عنها يؤتنف ، وطريقها يمنع شرّ سلوكها ، من تردّد ملوكها وهواؤها فاسد ، ووباؤها مستأسد ، وجارها حاسد. فإذا التهبت السماء ، وتغيّرت بالسمائم المسمّيات والأسماء ، فأهلها من أجداث بيوتهم يخرجون ، وإلى جبالها يعرجون ، والودك (٣٦٥) إليها مجلوب ، والقمح بين أهلها مقلوب ، والصبر إن لم يبعثه البحر مغلوب ، والحرباء بعرائها مصلوب ، والحرّ بدم الغريب مطلوب.

قلت فشلوبانية (٣٦٦) ، قال أختها الصغرى ، ولدتها التي يشغل بها المسافر ويغرى ، حصانة معقل ، ومرقب

متوقّل ، وغاية طائر ، وممتنع ثائر ، ومتنزّه زائر. تركب بدنها الجداول المرفوعة ، وتخترق جهاتها المذانب المفردة والمشفوعة. ففي المصيف تلعب بالمعقل الحصيف ، وفي الخريف ، تسفر عن الخصب والريف. وحوت هذه السواحل أغزر من رمله ، تغدو القوافل إلى البلاد تحمله. إلى الخضر الباكرة ، والنعم الحامدة للرّبّ الشاكرة.

وكفى بمترايل (٣٦٧) من بسيطها محلّة مشهورة ، وعقيلة مبهورة ، ووداعة في السهل غير مبهورة. جامعها حافل ، وفي حلّة الحسن رافل ، إلا أن أرضها مستخلص السلطان بين الأوطان ، ورعيتها عديمة الأعيان ، مروعة على الأحيان. وتختصّ شلوبانية بمزية البنيان ، لكنها غاب الحميّات ، غير أمينة على الاقتيات ، ولا وسيمة الفتيان والفتيات.

__________________

(٣٦٤) لعلها تشتنف : وشنف إليه شنفا نظر إليه كالكاره له والمعترض عليه

(٣٦٥) الودك : الدسم من اللحم والشحم

(٣٦٦) شلوبانيه أو سلوبينيه وهو تحريف للاسم القديم Salambina وتسمى الآن Salobrena وتقع على ساحل البحر المتوسط على مسافة قدرها ١٦ ك م شرقي المنكب. وإلى هذه المدينة ينسب العالم النحوي المعروف أبو علي الشلوبين. وأخباره موجودة في مراجع عديدة ذكرها ليفي بروفنسال في كتاب الروض المعطار ص ١٣٦ حاشية ٣

(٣٦٧) مترايل وهي الآن Motril وتبعد عن مدينة غرناطة بنحو ٧٤ ك م من ناحية الساحل شرقا. وهي لغاية الآن تعتبر من أهم بلاد غرناطة ، ومركز هام للمواصلات وزراعة قصب السكر. وقد أشار ابن الخطيب في المتن إلى أن أراضيها كانت من مستخلصات السلطان أي من ممتلكاته الخاصة.

٧٨

قلت فبرجة (٣٦٨) قال تصحيف وتحريف ، وتغيير في تعريف. ما هي إلا بهجة ناظر ، وشرك خاطر ، ونسيجه عارض ماطر ، ودارين (٣٦٩) نفس عاطر. عقارها ثمين ، وحرمها أمين ، وحسنها باد وكمين. عقود أعنابها قد قرطت آذان الميس (٣٧٠) والحور (٣٧١) ، وعقائل أدواحها مبتسمة عن ثغور النّور ، وبسيطها متواضع عن النجد ، مرتفع عن الغور. وعينها سلسالة ، وسنابك المذانب منها مسالة ، تحمل إلى كل جهة رسالة. ودورها في العراء مبثوثة ، وركائب النواسم بينها محثوثة. لا تشكو بضيق الجوار ، واستكشاف العوار ، وتزاحم الزوّار. مياه وظلال ، وسحر حلال ، وخلق دمث كثراها ، ومحاسن متعدّدة كقراها ، ولطافة كنواسمها عند مسراها ، وأعيان ووجوه نجل العيون بيض الوجوه. غلّتهم الحرير ، ومجادتهم غنية عن التقرير ، إلا أن متبوأها بسيط مطروق ، وقاعدتها فروق ، ووتدها مفروق ، ومعقلها خرب ، كأنه أحدب جرب ، إن لم ينقل إليه الماء ، برح به الظماء ، ولله درّ صاحبنا إذ يقول :

يا بسيطا بمعاني برجة

أصبح الحسن به مشتهرا

لا تحرك بفخار مقولا

فلقد ألقمت منها حجرا

والبرّ بها نزر الوجود ، واللحم تلوه وهما طيّبتا الوجود ، والحرف بها ذاوية العود ، والمسلك إليها بعيد الصعود.

قلت فدلاية (٣٧٢) ، قال خير رعاية وولاية ، حرير ترفع عن الثمن ،

__________________

(٣٦٨) برجه وكانت تسمى قديماVirgi وتسمى اليوم Berja وتقع في إقليم المرية بشرق الأندلس

(٣٦٩) دارين : فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند فينسب إليها. والنسبة إليها داري. قال الفرزدق :

كأن تريكة من ماء مزن

وداري الذكي من المدام

انظر (مراصد الاطلاع ج ٢ ، ص ٥٠٩).

(٣٧٠) الميس بفتح الميم شجر عظيم يتّخذ منه الرحال. وهو يقرب إلى الجوز الرومي إلا أن ورقه أرق وأصفر له حب أسود أكبر من الفلفل. والميسة ضرب من الكروم ينهض على ساق.

(٣٧١) الحور بتسكين الواو نوع من الشجر أيضا

(٣٧٢) دلاية وتسمى الآن Dalias ، وهي قرية في ولاية المريه ، وتقع في جنوب شرق برجه بنحو تسعة كيلو مترات. ـ راجع (الروض المعطار (الترجمة الفرنسية) ص ٥٦) انظر كذلك : (M. Asin Palacios : Contribucion a la toponimia arabe de Espana p ٤٠١)

٧٩

وملح يستفاد على الزمن ، ومسرح معروف ، وأرض ينبت بها جبن وخروف ، إلا أنها لسرايا العدو البحري مجرّ العوالي ، ومحل الفتكات على التوالي. فطريقها هوى ومشاهد ، والعارف في مثلها زاهد.

قلت فمدينة المريّة (٣٧٣) قال المرية ، هنية مرية ، بحريّة بريّة ، أصلية سرية ، معقل الشموخ والإباية ، ومعدن المال وعنصر الجباية ، وحبوة (٣٧٤) الأسطول غير المعلّل بالنصر ولا الممطول ، ومحطّ التجار ، وكرم النجار ، ورعى الجار. ما شئت من أخلاق معسولة ، وسيوف من الجفون السود مسلولة ، وتكك محلولة ، وحضارة تعبق طيبا ، ووجوه لا تعرف تقطيبا ، ولم تزل مع الظرف دار نسّاك ، وخلوة اعتكاف وإمساك. أرغم أهلها أنف الصليب لما عجم منها بالعود الصليب ، وأنف لامها وألفها حكم التغليب ، فأنقلب منها آيسا (٣٧٥) عند التقليب :

__________________

(٣٧٣) راجع ما قلناه في صفحة (٣٠) حاشية (١)

(٣٧٤) الحبوة بضم الحاء أو فتحها ، ما يحتبى به الرجل من عمامة أو ثوب أو سيف ليستند عليه إذ لم يكن للعرب في البوادي جدران تستند إليها في مجالسها والمراد هنا القاعدة التي يرسو فيها الأسطول.

(٣٧٥) يشير ابن الخطيب بهذه العبارة إلى المؤامرة الكبرى التي تمت سرا بين مملكتي قشتالة وأراجون على غزو مملكة غرناطة المسلمة في وقت واحد في عام ١٣٠٩ م (٧٠٩ ه‍). على أن تقوم الجيوش القشتالية بمهاجمة مدينة الجزيرة الخضراءAlgeciras من الجنوب ، بينما تهاجم الأساطيل الأراجونية ثغر المرية من الشرق ، ثم يتقابل الطرفان في العاصمة مدينة غرناطة.

غير أن هذا المشروع انتهى بالفشل إذ استطاعت كل من المدينتين الصمود أمام هذا الاعتداء المفاجيء ، ونخصّ بالذكر مدينة المرية التي تعرضت لأشد هجوم عرفته في تاريخها. ولهذا اهتمّ المؤرخون القدامى والمحدثون بهذا الهجوم على المرية وكتبوا عنه في شيء من التفصيل.

راجع (ابن القاضي : درّة الحجال في غرة أسماء الرجال ، ج ١ ، ص ٧١ وما بعدها (نشر علوش Alouche ، رباط ١٩٣٤) ولأهمية هذا النص الذي أورده ابن القاضي فقد قام بترجمته عدد من المستشرقين إلى لغات مختلفة ، فهناك ترجمة فرنسية لعلوش I.S.Allouche في (Hesperis ,٣٣٩١ ,XVI ,p.p.٢٢١ ـ ٨٣١) وترجمة أخرى إسبانية لسانشث البرنث في Sanchez Zurita : Los anales) راجع كذلكAlbornoz : La Espana Mushlmana p, ٨٦٣ ـ ٢٩٣ de la Corona de Aragon, l, P. P. ٥٣٤ ـ ٧٣٤, Zaragoza ٨٨٦١ (Gimenez Soler : El sitio de Almeria) ٩٠٣١ (P. ١٠٣ ـ ٢٠٣, Levi Provencal : Un Zagal hispanique sur l\'expedition aragonaise de ٩٠٣١ Contre Almeria.) Al Andalus, Vol. VI, fasc. ٢, ١٤٩١)

٨٠