الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

رخاوة الخاء أى أنها صوت احتكاكى ، فهو يتناسب مع الشىء الرطب ، الذى يسهل أكله ، وإلى صلابة القاف ؛ فهى صوت انفجارى ، ومن ثم يتناسب مع أكل اليابس ، الذى يصعب قطعه. يقول : «فاختاروا الخاء لرخاوتها للرّطب ، والقاف لصلابتها لليابس ، حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث» (١).

ولذلك فإن الشاعر عند ما عبر عن مرارة العيش عبر عنها بقضم الجلمد ، وهو صخر يابس ، فقال :

والموت خير من حياة مرة

تقضى لياليها كقضم الجلمد

ومن هذا الباب قولهم :

والنّضح والنّضخ : والثانى أقوى من الأول ، فى التعبير عن حركة الماء يقول تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) [الرحمن : ٦٦] «أى فوّارتان بالماء» عن ابن عباس. والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء (٢).

وإذا كان القدماء كالخليل وسيبويه قد أولوا الجهة الثانية عناية خاصة ، وهى جهة النظر إلى التراكيب الصوتية ومناسبتها للمعانى التى وضعت لها ، أقول : إذا كان هؤلاء القدماء قد برعوا فى هذا الجانب فإن ما أدلى به ابن جنى فى هذا المقام يجعل تلك المحاولات الأولى من جانب القدماء مجرد إشارات وومضات مضيئة ، لا تقارن بما قدم ابن جنى فى هذا الباب إلا من حيث سبقها الزمنى وريادتها لهذا الطريق الوعر.

فابن جنى يلمح المناسبة بين تلك الحركات المتوالية فى صيغة (فعلان) التى جعلت تلك الصيغة ـ بذلك التركيب الصوتى وبتلك الهيئة ـ مناسبة أتمّ المناسبة لمعناها الدال على الحركة والاضطراب (٣).

ولا يقف ابن جنى هنا عند الأمثلة التى ذكرها عن الخليل وسيبويه ، بل يزيد على ذلك أمثلة كثيرة ، ونحتاج أن نقف أمامها فى هذا الباب وقفات متأنية ؛ لنرى إلى أى حد تكون المناسبة بين صيغ الألفاظ ومعانيها.

قال ابن جنى بعد ذكر كلام الخليل وسيبويه السابق نقله : «ووجدت أنا من هذا

__________________

(١) السابق ، ص ١٥٨.

(٢) السابق وانظر القرطبى الجامع لأحكام القرآن الكريم ، ط دار الحديث ، ج ١٧ ، ص ١٧٩.

(٣) الخصائص ٢ / ١٥٢.

٢١

الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حدّاه (١) ومنهاج ما مثّلاه. وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتى للتكرير ، نحو الزعزعة ، والقلقلة ، والصلصلة ، والقعقعة ، والصعصعة (٢) والجرجرة والقرقرة ووجدت أيضا (الفعلى) فى المصادر والصفات إنما تأتى للسرعة ، نحو البشكى ، والجمزى والولقى ... فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر ـ أعنى باب القلقلة ـ والمثال الذى توالت حركاته للأفعال التى توالت الحركات فيها» (٣).

يلمح ابن جنى فى هذا النص ما بين البنية الصوتية لهذه المصادر الرباعية المضعفة ومعناها من المناسبة ، إذ إن هذه المصادر بما اشتملت عليه من تضعيف وتكرير تناسب ما تدل عليه معانيها من التكرير المشترك بين ألفاظ تلك البنى مما يضيف إلى معناها المعجمى معنى آخر تضيفه دلالتها الصوتية.

كما يلمح ابن جنى كذلك ما بين (الفعلى) من تكرار الحركات وتلاحقها وتتابعها وما تدل عليه من معنى السرعة والتتابع وتوالى الحركات فى الفعل كما توالت الحركات فى النطق.

يقول ابن جنى : «ومن ذلك ـ وهو أصنع منه ـ أنهم جعلوا (استفعل) فى أكثر الأمر للطلب ، نحو استسقى ، واستطعم ، واستوهب ، واستمنح ، واستقدم عمرا ، واستصرخ جعفرا ، فرتبت فى هذا الباب الحروف على ترتيب الأفعال. وتفسير ذلك أن الأفعال المحدث عنها أنها وقعت عن غير طلب تفجأ حروفها الأصول ، أو ما ضارع بالصيغة (٤) الأصول.

فالأصول نحو قولهم : طعم ووهب ، ودخل وخرج ، وصعد ونزل فهذا إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت ، ولم يكن معها دلالة تدل على طلب لها ولا إعمال فيها وكذلك ما تقدمت الزيادة فيه على سمت الأصل ، نحو أحسن ، وأكرم ، وأعطى وأولى. فهذا من طريقة الصنعة (الصيغة) بوزن الأصل فى نحو دحرج ، وسرهف ، وقوقى ، وزوزى ، وذلك أنهم جعلوا هذا الكلام عبارات عن هذه المعانى ، فكلما

__________________

(١) فى الأصل حداه. وفى الهامش عن بعض النسخ (حذياه).

(٢) الصعصعة : التحريك والقلقلة ، اللسان / صعصع.

(٣) الخصائص ٢ / ١٥٣.

(٤) كذا بالأصل ، وفى بعض النسخ (بالصنعة).

٢٢

ازدادت العبارة شبها بالمعنى كانت أدل عليه ، بالغرض فيه. فلما كانت إذا فاجأت الأفعال فاجأت أصول المثل الدالة عليها أو ما جرى مجرى أصولها ، نحو وهب ومنح ، وأكرم ، وأحسن ، كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسببت لها ، وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول فى مثلها الدالة عليها أحرفا زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدمة لها ، والمؤدية إليها وذلك نحو استفعل ، فجاءت الهمزة والسين والتاء زوائد ، ثم وردت بعدها الأصول : الفاء والعين واللام ، فهذا من اللفظ وفق المعنى المقصود هناك ، وذلك أن الطلب للفعل والتماسه والسعى فيه والتأنى لوقوعه تقدمه ، ثم وقعت الإجابة إليه ، فتبع الفعل السؤال فيه والتسبب لوقوعه ، فكما تبعت أفعال الإجابة أفعال الطلب ، كذلك تبعت حروف الأصل الحروف الزائدة التى وضعت للالتماس والمسألة ، وذلك نحو : استخرج ، واستوهب ، واستمنح ، واستعطى ، واستدنى» (١).

فى هذا النص يقارن ابن جنى بين الصيغ المجردة (الأصول) والصيغ المزيدة فى دلالتها على معانيها. فالصيغ المجردة وهى ما سماها بالأصول هى نحو : طعم ، ووهب ، ودخل ، وخرج ... إلخ.

أما الصيغ المزيدة فيجعلها نوعين :

 ـ مزيد جرى مجرى الأصول : نحو : أحسن ، وأكرم ، فهذا يجرى مجرى الأصول فى مشابهته الرباعى المجيء على (فعلل).

 ـ ومزيد زاد على الأصول ، مثّل له بما زاد على الأصول بأحرف متقدمة على الأصول (كاستفعل).

ثم يلمح ابن جنى المشابهة والمناسبة بين كل من هذه البنى وما تدل عليه من المعانى ؛ فالأفعال المجردة إنما تدل على المفاجأة للسمع بالإخبار عن الحدث دون تمهيد بأحرف تسبقه ، فهى إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت ، ولم يكن معها دلالة تدل على طلب ولا إعمال فيها.

وذلك نحو طعم ووهب وخرج ودخل ، وكذلك ما تقدمت الزيادة على سمت الأصل ، وهو ما جرى مجرى الأصول الرباعية على (فعلل) فجعل ما جاء على وزن (أفعل) كأحسن ، وأكرم جاريا مجرى الأصول الرباعية على (فعلل) فى نحو دحرج

__________________

(١) الخصائص (٢ / ١٥٣ / ١٥٤).

٢٣

وسرهف ... إلخ.

أما ما دل على سعى وتسبب وتعمل تقدمه ، فهذا يحتاج إلى أحرف تتقدم على الأصول لتشعر بما تقدم الفعل من سعى وتسبب وتعمل فلما كانت إذا فاجأت الأفعال فاجأت أصول الصيغ الدالة عليها أو ما جرى مجرى أصولها نحو وهب ، ومنح ، وأكرم ، وأحسن ، كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسببت لها وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول فى صيغها الدالة عليها أحرفا زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدمة لها ، والمؤدية إليها.

ويزيد ابن جنى فى بيان المناسبة بين الأصوات والمعانى فيقول : «ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين فى المثال (١) دليلا على تكرير الفعل ، فقالوا : كسّر ، وقطّع ، فتّح ، وغلّق ، وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعانى فأقوى اللفظ ينبغى أن يقابل به قوة الفعل ، والعين أقوى من الفاء واللام ؛ وذلك لأنها واسطة لهما ، ومحفوفة بهما ، فصارا كأنهما سياج لها ، ومبذولان للعوارض دونها.

ولذلك نجد الإعلال بالحذف فيهما دونهما ... فلما كانت الأفعال دليلة المعانى كرروا أقواها ، وجعلوه دليلا على قوة المعنى المحدث به ، وهو تكرير الفعل ، كما جعلوه دليلا على قوة المعنى المحدث به ، وهو تكرير الفعل ، كما جعلوا تقطيعه فى نحو : صرصر وحقحق دليلا على تقطيعه ...» (٢).

لقد استطاع ابن جنى فى هذا النص السابق أن يكشف لنا عن المناسبة الوثيقة بين صيغة (فعل) بما لها من سمات صوتية ودلالتها على التكرار فى الحدث.

ويكشف ابن جنى كذلك عن العلاقة بين المبنى والمعنى من حيث الزيادة والنقص فى كل منهما فيقول : «وقد أتبعوا اللام فى باب المبالغة العين ، وذلك إذا كررت العين معها فى نحو : دمكمك وصمحمح وعركرك وعصبصب وعشمشم ، والموضع فى ذلك للعين ، وإنما ضامتها اللام هنا تبعا لها ولا حقة بها ، ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة فى نحو اخلولق ، اعشوشب ، واغدودن ، واحمومى ، واذلولى ، واقطوطى ، وكذلك فى

__________________

(١) يقصد بالمثال هنا (الصيغة) كما هو واضح من النص ، وكما توصلت إليه بالاستقراء للمواضع التى عبر فيها عن الصيغة بالمثال فانظر على سبيل المثال ٢ / ١٥٥ / ١٥٧ ، ٣ / ٩٨ ، ١٨٨.

(٢) الخصائص ٢ / ١٥٥.

٢٤

الاسم نحو عثوثل ، وغدودن ، وحفيدد ، وعقنقل ، وعبنبل ، هجنجل ... كما ضاعفوا العين للمبالغة ، نحو عتل ، وصمل ، وقمر وحزق ...» (١).

وقد أطال ابن جنى فى توجيه ذلك ، وهو واضح فى أن زيادة المبنى فيه قد ناسبت زيادة المعنى ، وهو إرادة المبالغة.

وقد احتذى حذو ابن جنى فى هذه القضية كذلك ابن الأثير ، فأطال الوقوف أمام هذه النقطة مفيدا فى ذلك مما أفاض فيه ابن جنى ، وإن كان ما قدمه ابن الأثير لم يخل من جديد كذلك.

ولعل أهم ما تميز به بحث ابن الأثير لهذه النقطة أنه اهتم بوضع القيود والضوابط التى تحكم العلاقة بين المبنى والمعنى من حيث الزيادة والنقص ، وهل يصح القول باطراد قاعدة زيادة المعنى لزيادة المبنى أم أن هناك أحوالا لا يصح القول فيها باطراد تلك القاعدة؟ (٢).

هذا وقد تابع المتأخرون من البلاغيين البحث فى هذا الباب ، وإن كانت إضافاتهم فى هذا الباب لا تعدو كونها مجرد إشارات وتقريرات ومراجعات سريعة ، يعد بعضها تكرارا لما سبق ، ويعد القليل منها من قبيل الإضافات اليسيرة المفيدة على مستوى التقعيد والتنظير.

أما الدراسات المتأخرة بدءا من ابن سنان وانتهاء بالطيبى والقزوينى حذا حذوهما فقد بحثت هذه الظاهرة تحت ما اصطلحوا على تسميته بمبحث الفصاحة ، وقد ضمنوه شروطا لفصاحة الكلمة يختص بعضها بالنظر إلى أصواتها ، فمنها :

١ ـ أن يكون تركبها من الحروف اللذيذة العذبة لأنها أصوات ؛ ولها مخارج تشبه المزامير ، ولكل ثقبة منها صوت يخصها (٣).

٢ ـ أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج ؛ لأن الحروف التى هى أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر ؛ ولا شك فى أن الألوان المتباينة إذا

__________________

(١) السابق.

(٢) انظر المثل السائر ٢ / ٢٤١ إلى ٢٤٥.

(٣) انظر الطيبى (علم البديع وفن الفصاحة وهو الجزء الثانى من كتابه التبيان فى المعانى والبيان بتحقيقى / ط المكتبة التجارية ـ مكة المكرمة ٢ / ٤٩٥ ، وانظر ابن سنان ـ سر الفصاحة ص ٦١ تحقيق على فودة مكتبة الخانجى.

٢٥

جمعت كانت فى المنظر أحسن من الألوان المتقاربة (١).

٣ ـ أن يجتنب فى التركيب عن الزائد على الحركتين المتواليتين ، وعن الحركة الثقيلة على بعض الحروف كالضمة على نحو : جزع سيما إذا ضم معه ضم الزاى ، ولو فتح ؛ أو فتحا ، أو كسر حسن (٢).

«وقد اشترط بعضهم أن يحترز عن أسباب خفيفة متوالية ؛ فإنها مما ينقص من سلاسة الكلمة وجريانها كقولهم : (القتل أنفى للقتل) إذ ليس فيه كلمة تجمع حرفين متحركين معا إلا فى موضع» (٣).

٤ ـ أن تكون متوسطة بين قلة الحروف وكثرتها.

قال الرازى : «اللفظ المركب من ثلاثة أحرف هى المتوسطة لاشتمالها على المبدأ ، والمنتهى ، والوسط ، وسبب حسنه أن الصوت تابع للحركة ، والحركة لا بد لها من هذه الأمور.

والثنائيات قاصرة ، والرباعيات مفرطة ، ولهذا عيب أبو الطيب بقوله :

إن الكرام بلا كرام منهم

مثل القلوب بلا سويداواتها (٤)

والحق أن ما ذكره البلاغيون فى هذا المقام لا يخلو من انتقادات عديدة. وجهها إليهم الدارسون المحدثون (٥).

وتتمثل هذه الانتقادات فى أن النظر إلى اللفظة المفردة والحكم عليها بمعزل عن سياقها لا يؤدى إلى الفهم الصحيح للنصوص فى كثير من الأحيان ، فليست مفردات العبارة اللغوية الواردة فى سياق واحد كيانات منفصلة ، يستقل كل منها بذاته ، وإنما

__________________

(١) ابن سنان ـ سر الفصاحة ص ٦٠.

(٢) ابن الأثير المثل السائر ١ / ١٧٤ ، والطيبى ـ السابق ٢ / ٤٩٧.

(٣) الطيبى ـ السابق ٢ / ص ٤٩٧.

(٤) الرازى / نهاية الإيجاز ص ١٢٥ ط الأدبية.

(٥) انظر على سبيل المثال ، د / محمد النويهى ، الشعر الجاهلى ، منهج فى دراسته وتقويمه ١ / ٤٤ ، د / عبد الله الطيب ، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتهم ، دار الفكر ، بيروت سنة ١٩٧٠ ، ٢ / ٤٦٤ ، د / غازى يموت / علم أساليب البيان ، دار الأصالة ، ط ١ ، ١٤٠٣ ه‍ ، ١٩٨٢ ص ٢٧ ، د / شفيع السيد ، البحث البلاغى عند العرب ، تأصيل وتقيم ص ١٣٥ ـ ١٣٦ ، مكتبة الشباب ، د / عبد الواحد علام ، قضايا ومواقف التراث البلاغى ، ص ٢٠.

٢٦

ترتبط جميعا برباط وثيق ، ومن ثم كان للسائق دوره الفعال فى إعطاء الكلمة المعينة من الدلالات ما ليس لها فى ذاتها بعيدة عن السياق ، حتى لو بدت تلك الكلمة مفتقرة إلى بعض ما اشترطه البلاغيون فى فصاحة الكلمة من حسن الجرس وسهولة المنطق.

ومن ثم فقد ذهب هؤلاء المحدثون إلى أنه لا تفاضل بين الكلمات المفردة خارج السياق ، فالكلمة المفردة خارج سياقها لا توصف بفصاحة ولا بلاغة عذبت أصواتها أم قبحت ، تباعدت مخارجها أم قربت ، ثقلت حروفها أم خفّت ، طالت مبانيها أم قصرت.

وهم يؤيدون كلامهم فى ذلك بما ورد عن عبد القاهر فى هذا المقام من نحو قوله : (فصل فى تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة وكل ما شاكل ذلك ، مما يعبر به عن فضل القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد ، ومن المعلوم ألا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجرى مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى. غير أن يؤتى المعنى من الجهة التى هى أصح لتأديته ، ويختار له اللفظ الذى هو أخص به وأكشف عنه. وإذا كان هذا كذلك فينبغى أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها فى التأليف. هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل فى الدلالة ، حتى تكون هذه أدل على معناها الذى وضعت له من صاحبتها على ما هى موسومة به ، حتى يقال إن (رجلا) أدل على معناه من (فرس) على ما سمى به؟ وحتى يتصور فى الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه وأبين عن صورته من الآخر. وهل يقع فى وهم ـ وإن جهد ـ أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية؟ أو أن تكون حروف هذه أخف وامتزاجها أحسن؟ ومما يكد اللسان أبعد. وهل قالوا : لفظة متمكنة ومقبولة وفى خلافه : قلقة ونابية ومستكرهة ، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها ، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم ، وأن الأولى لم تلق بالثانية فى معناها ، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقد التالية فى مؤداها؟» ويعرض عبد القاهر أمثلة يدلل بها على ذلك (١).

__________________

(١) عبد القاهر الجرجانى «دلائل الإعجاز» تصحيح الشيخ محمد عبده ، والشيخ محمد محمود الشنقيطى ، مكتبة ومطبعة محمد على صبيح وأولاده ص ٤٤ ـ ٤٥.

٢٧

على أن هذا قد يظهر نوعا من التناقض فى كلام عبد القاهر ـ وهو وارد كذلك على ما قررته فى هذا المقام من جهة الاستدلال بكلامه السابق على أن الكلمات لا تتفاضل خارج النظم ـ وهذا التناقض «من حيث إنه يسلم أن الكلمات منها الغريب الوحشى ، ومنها الذى يكد اللسان ، ثم ينفى بعد هذا كله أن تكون الكلمات متفاضلة غير متساوية قبل أن يشملها النظم» (١).

ولذا يعترض د / بدوى طبانة على تهوين عبد القاهر من شأن فصاحة اللفظة المفردة فيقول : «إن الذين عرضوا لفصاحة اللفظة المفردة كانت تلك الصفات التى لم يسع عبد القاهر إلا الاعتراف بها فى معرض التهويل من شأنها ـ أهم ما عرضوا له ، لكن تلك الصفات لا تصل إلى هذه الدرجة من التفاهة كما أراد عبد القاهر أن يصورها. أين (عساليج الشوحط)؟ من (أغصان البان)؟ وأين (الصهصلق)؟ من (الصهيل)؟ وأين (أشرج)؟ من (ضم)؟ وأين (الحيزيون)؟ من (العجوز)؟.

إن فى الألفاظ المفردة اختلافا وبينها تفاوتا بيّنا لسنا فى حاجة إلى كثير أو قليل من التأمل للاعتراف بحسن بعضها وقبح بعض ، وإذا نظرنا إلى التركيب وجدناه يزدان باللفظ العذب المختار ، ويقبح باللفظ العسر الثقيل من غير شك وإن كنا لا نجحد أن اللفظ الجميل يزداد جمالا بحسن موافقته لما جاوره من الألفاظ وهذا التجاور هو الذى يكشف عما فيه من جمال ويبين عن صفات الحسن الكامنة فيه» (٢).

ويجيب الأستاذ / عبد الله الطيب عن هذا الاعتراض السابق فيقول : «وربما يعتذر لعبد القاهر من حيث أنه يسلم أن الكلمات منها الغريب والوحشى ، ومنها الذى يكد اللسان ، ثم ينفى بعد هذا كله أن تكون الكلمات متفاضلة غير متساوية قبل أن يشملها النظم ، ربما يعتذر لعبد القاهر عن ذلك ، بأنه كان يرى الألفاظ فى جملتها غير متفاضلة وأن فضل المستعمل على غير المستعمل ، والخفيف على الثقيل طفيف بحيث يمكن تجاهله وأن النظم إذا أجاده صاحبه قد يسبغ على كلمة وحشية رونقا لا يتهيأ ولا يتأتى إذا وضعنا مكانها كلمة أخرى مألوفة ، وقد يتيح لكلمة ثقيلة تكد اللسان من العذوبة ما لا يتوفر لو استبدلناها بأخرى مما يحسب خفيفا سهلا» (٣).

__________________

(١) عبد الله الطيب ، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتهم ٢ / ٤٦٦.

(٢) أ. د / بدوى طبانة ، البيان العرب ، ص ١٢٧ ـ ١٢٨

(٣) أ/ عبد الله الطيب ، الموضع السابق نفسه.

٢٨

والحق الذى يجاب به عن هذا الأمر هو أن نعلم أن واضع اللغة لم يضع هذه الألفاظ اعتباطا وإلا فما حاجتهم لأن يضعوا لمعنى واحد كالجمل أو الفرس أو السيف مئات الأسماء إلا أن يكون ذلك بحسب تعدد السياقات فيكون لكل معنى لفظه المناسب الذى لا يسد فيه غيره مسده ؛ ومن ثم لا يكون هناك تناقض فى كلام عبد القاهر لأن مؤدى كلامه هو منع الترادف التام فى لغة العرب وهذا هو الحق ؛ ومن ثم لا يتصور ـ كما يقرر عبد القاهر ـ الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون أحدهما أحسن نبأ عنه وأبين عن صورته من الآخر.

فهما وإن اشتركا فى الدلالة على أصل المعنى أو المعنى الجملى ؛ فإن لكل منهما من المعانى التفصيلية الخاصة ما يفرقه عن الآخر ويجعله صالحا لسياقات لا يصلح لها اللفظ الآخر ومن ثم فصعوبة اللفظ أو ثقله ليس أمرا ينافى فصاحته لأنه قد يوافق السياق ويطابق المقام بتلك الصعوبة وذلك الثقل ، وإلا للزم قائل هذا أن يقول بعدم فصاحة الكتاب العزيز لاشتماله على كثير مما وصف أمثاله بأنه ثقيل أو صعب فى نطقه كقوله تعالى : «اثاقلتم ـ أنلزمكموها ـ فسيكفيكهم. وأشباه».

ومع ذلك فهذه الألفاظ فى سياقاتها فى درجة عالية من الفصاحة مع أنها ثقيلة صعبة فى نفسها ، وعليه فلا تلازم بين صعوبة الكلمة فى النطق أو ثقلها أو غير ذلك مما ذكره البلاغيون من صفات اللفظة المفردة وبين فصاحتها فى سياق من السياقات. على أن الذى يهمنا من ذلك هو أن تكون الكلمة عربية أصيلة كما قال السكاكى «وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور واستعمالهم لها أكثر لا مما أحدثها المولدون ولا مما أخطأت فيه العامة» (١).

والدليل على ما ذكره من أنه لا تلازم بين صعوبة الكلمة أو ثقل جرسها أو غرابتها ـ أو غير ذلك ـ وعدم فصاحتها أننا لو تصورنا على سبيل المثال استبدال كلمة «أنلزمكموها» بأخرى ترادفها ، فى قوله تعالى على لسان نوح ـ عليه‌السلام ـ مخاطبا قومه حينما أعرضوا عن دعوته قائلين : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ. قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ

__________________

(١) السكاكى ، مفتاح العلوم ص ٢٢١.

٢٩

لَها كارِهُونَ) [هود :٣٧ ، ٣٨].

فلو استبدلنا هذه الكلمة بقولنا «أنلزمكم بها» أو «أنلزمكم إياها» لما أوحت بما توحى به هذه الكلمة من الثقل وصعوبة التحمل ، والإكراه على حمل شيء ينفر هذا المدعو إليه من حمله ، ويستثقله بل ويأنف منه ، وتشمئز منه نفسه ، كما قال الله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الزمر : ٤٥].

وسيأتى فى هذا البحث أمثلة شبيهة بذلك كقوله تعالى : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] ، وقوله تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢٢].

كذلك فإن ما يمثلون به أبدا على عدم فصاحة الكلمة لتنافرها وثقلها أو غرابتها أو صعوبة النطق بها مما «روى عن عيسى النحوى أنه سقط عن دابته فاجتمع عليه الناس فقال : «ما لكم تكأكأتم على تكأكؤكم على ذى جنة؟ افرنقعوا عنى» (١).

لهو ـ فى رأيى ـ فى غاية الفصاحة والبيان ، ذلك أن تلك الكلمة المتنافرة المستثقلة أو غير المألوفة لهى معبرة تمام التعبير بهيئتها واجتماع حروفها وتزاحمها وطريقة النطق بها عن اجتماع الناس وتزاحمهم عليه مع شيء من الفوضى وعدم الاتساق وفى هيئة غريبة عليه تشبيهها غرابة هذه الكلمة.

كذلك قوله : «افرنقعوا عنى» لا يقل فصاحة عن سابقة لأنه يصور مدى رغبته فى سرعة انصرافهم عنه كسرعة الصوت الذى يخرج من شيئين يضربان» (٢).

هذا وسوف يتأكد ما ذكرناه بما سوف نورد فى هذا البحث من الأمثلة والنماذج التطبيقية التى تكشف عن الدور الفنى الذى تؤديه السمات الصوتية للكلمة فى السياقات المختلفة ، وأن هذا الدور لا يتوقف على سمات بعينها للكلمة كتلك السمات التى حددها هؤلاء البلاغيون ؛ وإنما يتسع المجال اللغوى لدى المبدع ليتخير من الأبنية والتراكيب الصوتية ما يشاء ليحقق المواءمة والمطابقة بين تلك الأبنية والدلالات والإيحاءات الفنية التى يريد أن ينقلها إلى وعى المتلقى ولكننا نعود فنقول إنصافا لهؤلاء البلاغيين : إن

__________________

(١) الطيبى ، التبيان ص ٤٦٧.

(٢) قال ابن منظور : «والفرقعة الصوت بين الشيئين يضربان «لسان العرب مادة فرقع ـ ط دار المعرفة.

٣٠

الباحثين المعاصرين لم يختلفوا مع هؤلاء القدامى فيما وصفوه بالتنافر الصوتى أو المعاظلة الصوتية ، فهم يسلمون لهم بكون ما ذكروه يعد من قبيل التنافر أو المعاظلة ، غير أنهم يرون أن هذا التنافر وتلك المعاظلة قد وظفه المبدع توظيفا فنيا مقصودا فيه هذا التنافر وتلك المعاظلة ، ومن ثم يخرج من دائرة القبح إلى دائرة الحسن ولا يكون منافيا للفصاحة أو البلاغة.

وهنا يحق لنا أن نتساءل إنصافا لهؤلاء القدماء فنقول : ما ذا لو أخفق المبدع فى توظيف ذلك التنافر أو تلك المعاظلة؟ ألا يكون ذلك التنافر أو التعاظل معيبا مستهجنا بمعنى إذا كانت هناك كلمتان تؤديان المعنى المراد : إحداهما ثقيلة على السمع متنافرة ، والأخرى خفيفة عذبة الجرس والرنين ، ولم يكن لاستخدام الثقيلة المتنافرة معنى يوظف فيه ثقلها وتنافرها ، أفلا يكون فى العدول عن اللفظة العذبة الخفيفة إلى الثقيلة المتنافرة بغير قصد ولا غرض بلاغى إخلال بالفصاحة والبلاغة؟

هذا إذا ما أراده هؤلاء القدماء ، لا أنهم أرادوا أن هذه اللفظة تحسن أبدا ، وتلك تقبح أبدا.

وتبقى القضية بعد ذلك فى أنهم أخفقوا ـ من وجهة نظر المحدثين ـ فى اختيار الأمثلة التى تعبر عن استخدام ألفاظ متنافرة لم يوظف فيها هذا التنافر.

* * *

 الدلالة الصوتية فى الدراسات الحديثة

تأتى الدراسات الأسلوبية على رأس الدراسات الحديثة التى اهتمت بالدلالة الصوتية خاصة وأن علم الأسلوب هدفه الحقيقى يتمثل فى البحث عن العلاقات المتبادلة بين الدوال والمدلولات عبر التحليل الدقيق للصلة بين جميع العناصر الدالة وجميع العناصر المدلولة بحثا يتوخى تكاملها النهائى (١).

ومعنى هذا أن البحث الأسلوبى يتسع فى بحث العلاقة بين الدوال والمدلولات لتلك الدلالات التى توحى بها البنية الصوتية للكلمة من حيث كونها أصواتا لا من حيث كونها موادا معجمية لها دلالتها الوضعية المحددة.

__________________

(١) انظر د / صلاح فضل / علم الأسلوب ص ١٢٣.

٣١

ويرى أولمان أن علم الأسلوب يمكن أن ينقسم إلى نفس مستويات علم اللغة. ولو تقبلنا الرأى القائل بحصر مستويات التحليل اللغوى فى ثلاثة هى : الصوتى ، والمعجمى ، والنحوى لأصبح بوسع الصوتى الذى يبحث فى وظيفة المحاكاة الصوتية وغيرها كثير من الظواهر من الوجهة التعبيرية.

وسنجد حينئذ أن علم الأسلوب مثله فى ذلك مثل أخيه الأكبر يتسع لمنظورين متبادلين فكما يقول «جسبرسن» إن أية ظاهرة لغوية يمكن أن يتم تناولها من الخارج أو من الداخل ؛ أى : من ناحية الصيغة أو من ناحية الدلالة ففى الحالة الأولى نتناول الجانب الصوتى للكلمة أو للعبارة ثم نتأمل الدلالة المنبثقة منه ، أما فى الحالة الثانية فإننا ننطلق من المعنى لنتساءل عن التعبيرات الشكلية التى تؤديه فى لغة معينة أو عند مؤلف خاص وهذا ما كان يسميه «داماسو ألونسو» بعلم الأسلوب الداخلى والخارجى.

فالكلمات يمكن أن تخضع للبواعث المحركة لها فتصبح شفافة أو معتمة ويتم هذا على مستويات صوتية وصرفية ودلالية. ولكل منها نتائج أسلوبية بارزة ، فالباعث الصوتى يتمثل ـ عند «أولمان» ـ فى إحدى إمكانيتين : فإما أن تكون البنية الصوتية للكلمة محاكاة لصوت أو ضجيج معين مثل قرقرة وثأثأة ومواء وغيرها وهى المحاكاة المباشرة ، وإما أن تثير الكلمة بصوتها تجربة غير صوتية ، وهى محاكاة غير مباشرة وتدخل هذه المحاكاة الصوتية بما تستثيره وتؤدى إليه فى النسيج الشعرى نفسه. وبالرغم من أن بعض الدارسين ينبهون إلى ضرورة التحديد الدقيق لطبيعة هذه الإيحاءات حتى لا تظل خاضعة للمزاج المتقلب إلا أن هذا المجال يعد من أنشط وأبسط مجالات الدراسة الأسلوبية» (١).

لقد آثرنا نقل هذا النص بطوله لأنه يبين لنا كيف أن دراسة الدلالة الصوتية ما هى إلا قطعة من تلك المنظومة الشاملة للدلالة العامة فى نص ما (٢) ؛ والتى ينبغى أن يبدأ فيها بتحليل الدلالة الصوتية أولا لأنها هى اللبنة الأولى فى منظومة الدلالة ، ولأنها هى التى تخلق المعنى المعجمى للكلمة بعد ذلك ، وتعطى لكل كلمة قيمة خلافية فارقة لها عن غيرها من الكلم.

__________________

(١) انظر د / صلاح فضل ، علم الأسلوب ص ١٣٨ ـ ١٤٠.

(٢) يذهب «ويلك» إلى أن البحث الأسلوبى لا بد أن يستند إلى النحو بكل فروعه : الأصوات ، والتحليل الصوتى والصرف ، والتراكيب ، والمعجم ، بالإضافة إلى الدلالة.

٣٢

واستثمارا لكلام (جسبرسن) السابق فإننا يمكن أن ننطلق فى بحثنا لتلك القيم الصوتية إما من الداخل أو من الخارج فيمكننا أن ننظر إلى دلالات تلك الأصوات فى سياقات بعينها لنتوصل من خلالها إلى إيحاءاتها الخاصة أو سماتها الأسلوبية.

ويمكن فى الوقت نفسه أن ننطلق من اتجاه معاكس بأن نقف أمام قيمة أسلوبية معينة لنبحث عن الوسائل الأسلوبية التى يمكن أن تؤدى إلى تلك القيمة فى عمل ما.

كما يمكننا أن نستثمر كذلك ما انتهى إليه أولمان من تقسيم البواعث الصوتية إلى نوعين من المحاكاة : المباشرة وغير المباشرة لنقف أمام الدلالة الفنية المستفادة من توظيف المبدع لكلا النوعين فى العمل الأدبى حيث يخرج المبدع بتلك الأصوات عن كونها حكاية لصوت معين لا معنى له ـ فى حالة الحكاية المباشرة ـ إلى معان فنية خاصة ، كما يقوم بتوظيف الكلمات التى لا تتسم بطبيعة المحاكاة توظيفا صوتيا ذا دلالة جديدة قد تختلف تماما عن دلالتها المعجمية ، وإنما يستوحيها الشاعر من عالمه الخاص ، ويستوحيها القارئ من السياق الأدبى.

اعتمدت الدراسات الأسلوبية الحديثة فى هذا المجال على ما انتهت إليه الدراسات اللغوية السابقة عليها ، وذلك بطبيعة الحال ـ نتيجة بديهية للصلة أو العلاقة الوثيقة بين علم الأسلوب وعلم اللغة (١).

وإذا كنا بصدد إسهام الدراسات الحديثة فى هذا المجال ، فلا يفوتنا تلك الوقفة المتأنية لرتشاردز فى كتابه مبادئ النقد عند بحثه عن الدلالة الصوتية حيث يقرر ما سبق أن ذكرناه فى بداية البحث من صعوبة الربط بين السمات الصوتية والمدلول الأدبى فهو يقرر أن نشاط الأصوات الجمالى ليس محتوما بعلاقة مخرجية أو علاقة وصفية وربما لا يحمل شبها بمعناها ، وقد يحورها تماما ، أو يهدمها النشاط الجمالى الصوتى معقد حقا ، وهو يشب عن طوق العلاقات المخرجية والوصفية ويدخل فى تكوين مسافات مختلفة ولا ينبع من كيفية معينة أو صفة مفردة ولا يمكن إذن إلا أن يكون شيئا غنيا متأصلا ذا جذور تستعصى على التقرير والتحديد» (٢).

__________________

(١) انظر بحث هذه العلاقة لدى د / صلاح فضل / علم الأسلوب ص ١٢٩ إلى ص ١٤٦.

(٢) يشير «رتشاردز» إلى أهمية العناية ببعض الخصائص الصوتية كدرجة الصوت ، لكنه يؤكد أن هذه الخصائص لا يمكن فصلها عن المعنى : راجع.

٣٣

كما يرى رتشاردز أن تأثير اللفظ من حيث هو صوت لا يمكن فصله عن تأثيراته الأخرى التى تتم فى نفس الوقت ، فجميع هذه التأثيرات ممتزجة بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر .. ويرى أنه لا توجد مقاطع أو حروف متحركة تتصف بطبيعتها بالحزن أو الفرح. إذ تختلف الطريقة التى يؤثر بها الصوت فى نفوسنا تبعا للانفعال الذى يكون موجودا فعلا فى ذلك الوقت ، بل إنها تختلف أيضا تبعا للمدلول ، وتوقع حدوث الصوت نتيجة للعادة ولروتين الإحساس ليس إلا مجرد جزء من حالة التوقع العامة ، فهناك عوامل تتدخل فى العملية. ولا يحدد الصوت ذاته طريقة تأثيره بقدر ما تحددها الظروف التى يدخل فيها هذا الصوت ، هذه التوقعات جميعا مرتبط بعضها بالبعض الآخر ارتباطا وثيقا. والكلمة الناجحة هى التى تستطيع أن تشبع هذه التوقعات جميعا فى نفس الوقت ، إلا أنه يجب علينا ألا نعزو إلى الصوت وحده ميزات تتضمن هذا العدد الكبير من العوامل الأخرى ، ولا يعنى قولنا هذا أن نقلل من أهمية الصوت فى شيء. فالصوت فى معظم الحالات هو مفتاح التأثيرات.

ويرى النقاد المحدثون «أن الصوت والوزن يجب أن يدرسا كعنصرين فى مجمل العمل الفنى ، وليس بمعزل عن المعنى».

والحق ما ذكره ريتشاردز يثير عددا من القضايا المهمة فى بحث تلك العلاقة الدقيقة بين الصوت والدلالة تحتاج منا إلى وقفة متأنية لتأملها.

فهو يقرر أولا أن الدلالة الصوتية تأتى مصاحبة ومتضافرة فى الوقت نفسه مع دلالاته الأخرى المعجمية والصرفية والنحوية ... إلخ.

وهذا ينبغى ألا يمثل إشكالا من جهة عزو تأثير هذا اللفظ إلى إحدى هذه الدلالات دون الأخرى.

فقد يدعى مدع أن الدلالة الصوتية للفظ ما فى سياق ما هى كذا وكذا ، فلا يجوز لأحد تكذيبه لكونه يستشعر أن تلك القيمة إنما هى حصيلة الدلالة الصرفية أو المعجمية لتلك الكلمة مثلا ؛ لأنه يرد على ذلك المكذب بأنه لا تزاحم بين الدوال ، فلا مانع أن يكون للمعنى الواحد دوال متعددة ، فهذا يؤدى إلى تقوية المعنى وتأكيده لأن هذه الدوال إنما تعمل متآزرة متعاضدة.

ولننظر على سبيل المثال هنا إلى الدلالة الفنية لكلمة (توسوس) فى قوله تعالى :

٣٤

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق : ١٦] ، تلك الدلالة التى تتآزر فى تشكيلها الدوال الصوتية والمعجمية والصرفية والنحوية.

ويقوم البلاغى باستثمار تلك الدلالات التى تعطيها تلك الدوال المتعددة لتشكيل الدلالة الفنية لتلك الكلمة.

وينظر البلاغى إلى السياق والمقام الذى سيقت ضمنه تلك الكلمة أولا ، ثم ينظر فى مختلف دلالاتها السابقة ليرى مدى مناسبتها ومطابقتها لمقتضى الحال أو المقام الذى سيقت لأجله.

لقد سيقت تلك الكلمة فى مقام الحديث عن قدرة الله الشاملة على خلق الإنسان وإحاطة علمه به ، واطلاعه سبحانه على خفايا نفسه ، وهواجس ضميره ، وقربه منه سبحانه قربا لا تخفى معه خافية من أحواله على من يعلم السر وأخفى.

ومن هنا تأتى هذه الكلمة القرآنية متآزرة مع ذلك السياق ومناسبة أتم المناسبة لذلك المقام بما لها من دلالات مختلفة صوتية ومعجمية وصرفية ونحوية.

وهنا يستثمر دارس البلاغة الدراسات اللغوية المتعددة ليخرج بدلالة الكلمة فى مختلف دلالاتها اللغوية السابقة ، ليقف على دلالتها الفنية التى هى محصلة تلك الدلالات جميعها.

فمن الناحية المعجمية يقارن البلاغى بين الخيارات المتبادلة مع تلك الكلمة (توسوس) مثل (تتكلم ـ تتحدث ـ تسر ـ تخفى) لينتهى من خلال النظر فى معانى كل كلمة من تلك الكلمات إلى تفوق تلك الكلمة بما لها من مناسبة تامة لسياقها ومقامها لا تقوم به أى كلمة أخرى من البدائل الأخرى ؛ فالوسوسة هى الصوت الخفى غير المميز كصوت الريح أو الحلى مثلا ، ومن هذا القبيل وسوسة الشيطان فهى خفية وغير واضحة ولا مميزة ، بل تتسلل إلى النفس تسللا خفيا لا يكاد يشعر بها المرء ، بحيث لا يفرق بينها وبين نفسه.

ومن هنا تأتى مناسبة كلمة الوسوسة لسياقها لما تدل عليه من الخفاء وعدم التميز والوضوح ، ومع دقتها وخفائها وعدم تميزها ووضوحها تظهر قدرة الله تعالى وسعة علمه فى إحاطته بها وقوفه عليها ، مما يلقى الرهبة ويعظم الخوف فى قلوب العباد من تلك القدرة النافذة ، إلى شغاف القلوب حتى تطلع على خطراتها ووساوسها الخفية التى قد

٣٥

يخفى على الإنسان نفسه معالمها ويصعب عليه تمييزها مع كونها بداخله. وبطبيعة الحال فإن أى كلمة أخرى لا تسد مسد هذه الكلمة فى دلالتها على ذلك المعنى.

ثم ينتقل البلاغى بعد ذلك إلى استثمار الدرس الصوتى لتلك الكلمة ليستخرج الدلالة الصوتية الفنية لتلك الكلمة.

فينظر إلى مجيئها مركبة من هذين الحرفين الرقيقين (الواو والسين) فينظر إلى ما فى الواو من خفاء ورقّة ولين مع قرب مخرجه لكونه شفويا ، فينظر إلى مناسبة لينه ورقته وخفائه لمعنى الوسوسة ، وما فيها من خفاء ولين ورقة ، كما تأتى دلالة قرب المخرج للدلالة على علم الله تعالى بأدق الأصوات وأخفضها صوتا وهو ما يخرج من بين الشفاه فما بالك بما فتح صاحبه فيه فمه وما كان من أقصى الحلق ونحو ذلك مما يرفع فيه الصوت؟! فمن ثم كانت مناسبة الواو للدلالة على تلك المعانى ، ثم لك أن تتأمل دلالة السين ، وما فيها من همس ورخاوة وصفير مع قرب المخرج كذلك فهى تلى الواو مخرجا لكونها مما بين الثنايا وطرف اللسان ، والهمس هو جرى النفس فى الحرف بلا انحباس فيخرج الحرف سهلا لا جهر فيه يناسب الوسوسة الخفية ؛ كما ناسبها كذلك لكونه رخوا ليس بالشديد ؛ كما ناسب صوته الوسوسة الذى يشبه صفير الريح ، ووسوسة الحلى بما فيه من صفير يصاحبه فى النطق.

فإذا ضممنا إلى ذلك أيضا قرب مخرجه وما له من مناسبة سبق بيانها فى حرف الواو ، تبين لنا مدى مناسبة هذين الصوتين للدلالة على المعنى المراد وهو علم الله تعالى بالدقائق من الوساوس والخطرات الخفية التى لا يعلمها إلا هو.

ثم نأتى بعد ذلك إلى ما هو أوضح دلالة وهى الدلالة الصرفية والدلالة النحوية : فأما الدلالة الصرفية فنجد أن اختيار الفعل مضاعف الرباعى جاء مناسبا أتم المناسبة لمعناه ، ومن ثم لسياقه ومقامه.

وذلك أن الفعل (وسوس) هو تضعيف (وس) وهذا التضعيف نشأ عن تكرار هذا المقطع (وس) فإذا التفت إلى ذلك لمحت المناسبة بينه وبين عملية الوسوسة وطبيعتها القائمة على التكرير والإلحاح ، فوسوسة النفس وكذلك وسوسة الشيطان ما هى إلا إغراء النفس بفعل المنهى عنه ، ووسيلة هذا الإغراء لا تكون إلا بالتكرار والإلحاح الدائم على النفس حتى تضعف وتقع فريسة للنوازع والرغبات الدنيئة.

٣٦

وننتقل إلى الدلالة النحوية لنقف أمام دلالة المضارع حيث اختيرت صيغة المضارعة للتعبير عن حدوث الفعل وتجدده وتكرره ليعبر عن عملية الإلحاح التى تمثل عنصرا أساسيا فى عملية الوسوسة ، وليدل على سعة علم الله تعالى بهذه الوسوسة مهما كثرت وتجددت وتكررت ، ولهذا اختير المصدر المؤول من (ما والفعل المضارع) على المصدر الصريح وسوسة لدلالة الفعل على التجدد دون المصدر الصريح (وسوسة).

ومن ثم نتبين مدى مناسبة تلك الكلمة لسياقها ومقامها بما لها من دلالة فنية كانت محصلة تلك الدلالات الصوتية والصرفية والمعجمية والنحوية لتلك الكلمة القرآنية.

وعلى هذا النحو يمضى البلاغى فينظر فى مناسبة الأصوات للمعانى من جهة ما تشتمل عليه من تفخيم أو ترقيق أو همس أو جهر أو انطباق وانفتاح ، أو مد أو لين أو تفشّ واستطالة أو إظهار أو إدغام أو تنوين أو إخفاء ... إلخ.

وينظر فى مناسبة صيغة الكلمة من حيث كونها اسما أو فعلا أو مشتقا من المشتقات ، فينظر إن كانت اسما فى مناسبة الوزن الذى جاءت عليه ، وإن كانت فعلا إلى دلالة كونه ماضيا أو مضارعا أو أمرا ، وإن كانت مشتقا إلى كونها اسم فاعل أو اسم مفعول أو صيغة مبالغة أو اسم مرة أو هيئة أو غير ذلك.

ومع النظر إلى مناسبة ذلك كله للسياق والمقام.

كما ينظر فى التراكيب من حيث ما هى عليه من تقديم وتأخير ، وحذف أو ذكر ، وفصل أو وصل ، وإيجاز أو إطناب ، وخبر أو إنشاء ... إلخ ما ذكروه من مباحث علم المعانى ثم ينظر إلى ما تشتمل عليه تلك التراكيب من صور وأخيلة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز بأنواعها المفصلة فى مباحث علم البيان.

وما تشتمل عليه من وسائل تحسين وتزيين من سجع وجناس ومطابقة والتفات واحتراس وتكميل وتتميم ... إلخ ما ذكره البلاغيون من فنون البديع.

يبحث البلاغى فى الدلالات الفنية لتلك الفنون والصور والأساليب السابق ذكرها ، ويطابق بينها وبين مقتضى الحال وهو المقام الذى سيقت لأجله ليقرر مطابقة تلك الدوال التعبيرية المتعددة أو عدم مطابقتها للغرض الذى سيقت لأجله مع عدم الادعاء بانفراد إحدى هذه الدوال بتلك الدلالة.

وحينما نعود إلى كلام ريتشاردز السابق نجد أنه يفصل بشىء من الحزم فى تلك

٣٧

القضية الشائكة قضية العلاقة بين الصوت والدلالة حيث يرى أنه لا توجد مقاطع أو حروف تتصف بطبيعتها بالحزن أو الفرح. ولكنه لا ينفى أن يكون لهذه الأصوات تأثير دلالى يوحى به السياق تبعا للانفعال المصاحب له. ومن ثم نستطيع أن نجد للدال الصوتى قيما مختلفة باختلاف سياقاتها مع اتحاد ذلك الدال.

ولننظر على سبيل المثال إلى ذلك المقطع الصوتى (أن) الذى يتميز بسمة صوتية لها دلالة خاصة هى سمة النبر الشديد بالنون المشددة ذات الغنة التى تغن فى القراءة القرآنية بمقدار حركتين فى جميع السياقات لننظر إلى دلالة ذلك المقطع التى قد ترد فى سياقات كثيرة متضافرة مع الدلالة المعجمية للكلمة (أن) فى إفادة التوكيد وهذا ما نستشعره فى النطق بها فى مثل قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج : ٦ ، ٧].

حيث تتوالى الكلمة فى هذا السياق بدلالة واحدة هى التوكيد المستفاد من دلالتها المعجمية ، ودلالتها السياقية ، ودلالتها الصوتية التى يوحى بها تكرار النون فيها ، فالتكرار من وسائل التوكيد.

كما توحى بها تلك الغنّة التى تغنّ بمقدار حركتين يحدث من خلال النطق بهما نوع من الضغط والارتكاز الذى يشبه الإصرار على تأكيد المعنى وتثبيته لدى السامع.

وهذا كله يتضافر مع الدلالة السياقية للكلمة فى هذا المقام الذى تؤكد فيه قدرة الله تعالى على الإحياء والبعث.

فإذا انتقلنا من هذا السياق إلى سياق آخر مثل قوله تعالى على لسان لوط : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) [هود : ٨٠] وذلك حينما بلغ به الضيق مداه من شذوذ قومه ورغبتهم الجامحة فى فعل المعصية ، ومراودتهم له عن أضيافه ذوى الوجوه الحسان ، ومن ثم لم يتمالك لوط ، ولم يلبث أن ألم به الحنق والغيظ ، بحيث توحى الدلالة الصوتية لكلمة (أن) فى هذه الآية بصورة لوط ـ عليه‌السلام ـ وهو جاذّ على أسنانه ، يطيل الضغط والارتكاز فى النطق بغنة النون المشددة معبرا عن انفعاله الشديد بالغيظ والحنق من طبيعة هؤلاء القوم الدنيئة ؛ كما تأتى تلك الدلالة مختلطة بدلالة الأسى والحزن والتحسر على عدم تمكنه من الانتصار منهم أو ردهم عن طيشهم وضلالهم.

وهنا تتدخل دلالة السياق لترجيح هذا المعنى الصوتى الذى نستشفه من الآية ، كما

٣٨

يتدخل توقع القارئ حدوث مثل هذا الصوت عادة فى مثل هذا الحال مما يصرف ذهنه إلى الربط بين ذلك الصوت وبين المعنى الذى يدل عليه عادة فى مثل هذا السياق.

ومن ثم فليست هناك دلالة ثابتة للصوت يمكن الدخول بها مسبقا عند تحليل الدلالة الصوتية للفظ فى سياق ما ، وذلك لأننا إذا اصطلحنا على أن الكلمة لا معنى لها خارج السياق سوى المعانى المعجمية الوضعية الغائمة ؛ فإن الصوت أشد تجريدا من الكلمة خارج السياق والسياق وحده هو الذى يكسبه دلالاته الفنية التى تختلف تماما عن دوره الذى يشارك به فى صنع الدلالة المعجمية.

والحق أن الصوت المفرد يمكن أن نتصور له دلالة فى ذاته ، كما تصورنا الدلالة المعجمية أو الإفرادية للكلمة ، بناء على سماته الصوتية من همس وجهر ، وشدة ورخاوة ، وبعد مخرج وقربه .. إلخ ، فيمكننا أن نجعل الصاد والضاد والطاء والظاء والقاف ونحوها رموزا تعبر عن الجهر والشدة والاستعلاء والتفخيم .. إلخ.

وبعكسها الحروف المهموسة. وهكذا يمكننا أن نحدد دلالة رمزية شبه وضعية لكل حرف بحسب سماته الصوتية المختلفة ، ولكننا لا يمكننا أن نفرض تلك الدلالات على النص الأدبى فرضا ؛ وذلك لأن السياق هو وحده الذى يحدد دلالة الصوت وقد يستخدمه بدلالته الرمزية شبه الوضعية وقد يعدل به عن تلك الدلالة إلى دلالة فنية جديدة يضفيها عليه ويعيره إياها ليكتسى بها ما لازم سياقه ، فإذا فارقه فارقته.

وهذا الذى ذهب إليه ريتشاردز هو ما يؤكده النقاد والمحدثون حيث يرون «أن الصوت والوزن يجب أن يدرسا كعنصرين فى مجمل العمل الفنى ، وليس معزل عن المعنى» (١).

ويرى صاحبا نظرية الأدب أن «كل عمل أدبى فنى هو ـ قبل كل شيء ـ سلسلة من الأصوات ينبعث عنها المعنى. ففى العديد من الأعمال الفنية ، بما فيها الشعر طبعا ، تلفت طبقة الصوت الانتباه ، وتؤلف بذلك جزءا لا يتجزأ من التأثير الجمالى.

ويرى الدكتور / عبد المنعم تليمة أن الجانب الأول من كيفية تعامل الشاعر مع أداته ـ اللغة ـ إنما تتبدى فى نشاط لغوى يحقق ـ فى العمل الشعرى ـ أنظمة لغوية ينتج

__________________

(١) «رينيه ويلك» ، «أولين أوشين» نظرية الأدب ص ٢٢١ ، ط المجلس الأعلى للفنون والآداب ، دمشق س ١٩٧٢.

٣٩

التركيب من تفاعلها وتآزرها. هذه الأنظمة اللغوية ـ صوتية ، صرفية ، نحوية ـ هى الجانب التركيبى من السياق الشعرى ؛ درس جماليات النظام الصوتى ، بيان تشكيلات السياق الشعرى ، درس جماليات النظام الصوتى ؛ بيان تشكيلات الحروف وطاقاتها النغمية ، والدور الإيقاعى والجمالى للمقاطع ، ودور التغير الصوتى فى التكوين الموسيقى ، ودور الصوت عامة فى الإيقاع الشعرى متآزرا مع التشكيلات العروضية ومتجاوزا لها» (١).

هذا كله يؤكد التفات هؤلاء النقاد جميعا إلى ما للأصوات من دلالة فنية وجمالية لا يمكن تجاهلها أو إهمالها عند البحث عن جماليات العمل الأدبى ، وعن الوسائل التعبيرية المختلفة المشاركة فى تحقيق تلك الجماليات ، مع التأكيد على ما قرره ريتشاردز من قبل من عدم الفصل بين الدلالة الصوتية للألفاظ وأنواع الدلالات الأخرى الناتجة من النظر إلى الكلمة فى مستوياتها اللغوية المختلفة من معجم وصرف ونحو ومع التفات النقاد المحدثين إلى قيمة الأصوات وتأثيراتها الجمالية ، فإننا نقرر هنا أن دراسة القيمة الجمالية والدلالية للأصوات مع قلة العناية بها على المستوى النظرى لم تحظ بالطبع بعناية كافية كذلك على المستوى التطبيقى.

ولعل ذلك يرجع فى رأيى إلى الأسباب التى سبق أن أشرت إليها فى بداية هذا البحث.

وإذا كنا قد عرضنا فى الصفحات السابقة لقدر لا بأس به من الأبحاث النظرية فنتمم البحث بعرض نماذج من الإجراءات التطبيقية الرائدة فى هذا المجال ، وإن كانت قد تعرضت لهذا الموضوع عرضا ، ولم تفرده بدراسة خاصة مستقلة مفصلة.

كما أن أغلب هذه الدراسات تشترك فى سمة عامة بينها فى الموقوف على هذه الظاهرة وهى أن هؤلاء الدارسين قد وقفوا عند أحاسيسهم وأذواقهم تجاه الدلالة الصوتية للكلمات ، التى وقفوا إزاءها بالتحليل ، ولا يكاد أحد هؤلاء الدارسين يقف ليبحث كيف دلت هذه الكلمة بجرسها وأصواتها على هذا المعنى؟

إنه يقرر المعنى حسب تذوقه وإحساسه دون محاولة التعليل والتبرير أو التفسير كيف دل هذا الصوت على هذا المعنى. أو ما هى أوجه الشبه أو المحاكاة بين الصوت ومعناه؟

__________________

(١) د / عبد المنعم تليمة ـ مداخل إلى علم الجمال الأدبى ـ دار الثقافة بالقاهرة ـ ١٩٧٣.

٤٠