الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

وتساند إلى سليقيته ونجره (١).

وسألت يوما أبا عبد الله محمد بن العسّاف العقيلىّ الجوثى ، التميمىّ ـ تميم جوثة (٢) ـ فقلت له : كيف تقول : ضربت أخوك؟ فقال أقول : ضربت أخاك.

فأدرته على الرفع ، فأبى ، وقال : لا أقول : أخوك أبدا. قلت : فكيف تقول ضربنى أخوك ، فرفع. فقلت : ألست زعمت أنك لا تقول : أخوك أبدا؟ فقال : أيش هذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا إلا أدلّ شيء على تأملهم مواقع الكلام ، وإعطائهم إيّاه فى كل موضع حقّه ، وحصّته من الإعراب ، عن ميزة ، وعلى بصيرة ، وأنه ليس استرسالا ولا ترجيما. ولو كان كما توهمه هذا السائل لكثر اختلافه ، وانتشرت جهاته ، ولم تنقد مقاييسه. وهذا موضع نفرد له بابا بإذن الله تعالى فيما بعد. وإنما أزيد فى إيضاح هذه الفصول من هذا الكتاب لأنه موضع الغرض : فيه تقرير الأصول ، وإحكام معاقدها ، والتنبيه على شرف هذه اللغة وسداد مصادرها ومواردها ، وبه وبأمثاله تخرج أضغانها ، وتبعج أحضانها ، ولا سيّما هذا السمت الذى نحن عليه ، ومرزون (٣) إليه ؛ فاعرفه ؛ فإنّ أحدا لم يتكلّف الكلام على علة إهمال ما أهمل ، واستعمال ما استعمل. وجماع أمر القول فيه ، والاستعانة على إصابة غروره (٤) ومطاويه ، لزومك محجّة القول بالاستثقال والاستخفاف ، ولكن كيف ، وعلام ، ومن أين ، فإنه باب يحتاج منك إلى تأنّ ، وفضل بيان وتأتّ. وقد دققت لك بابه ، بل خرقت بك حجابه. ولا تستطل كلامى فى هذا الفصل ، أو ترينّ أن المقنع فيه كان دون هذا القدر ؛ فإنك إذا راجعته وأنعمت تأمّله علمت أنه منبهة للحسّ ، مشجعة للنفس.

وأما السؤال عن علة عدل عامر ، وجاشم ، وثاعل ، وتلك الأسماء المحفوظة ، إلى فعل : عمر ، وجشم ، وثعل ، وزحل ، وغدر ، دون أن يكون هذا العدل فى مالك ، وحاتم ، وخالد ، ونحو ذلك ؛ فقد تقدّم الجواب عنه فيما فرط : أنهم لم يخصّوا ما هذه سبيله بالحكم دون غيره ، إلا لاعتراضهم طرفا مما أطفّ لهم من

__________________

(١) النجر : الأصل والطبيعة.

(٢) جوثة : حىّ أو موضع ، وتميم جوثة منسوبون إليهم. اللسان (جوث).

(٣) مرزون : مستندون ، من أرزيت إلى الله : استندت.

(٤) كلّ ثوب متثنّ فى ثوب أو جلد : غرّ ، وجمعه غرور. اللسان (غرر).

١٢١

جملة لغتهم كما عنّ ، وعلى ما اتّجه ، لا لأمر خصّ هذا دون غيره مما هذه سبيله ؛ وعلى هذه الطريقة ينبغى أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله ؛ ولكن لا ينبغى أن تخلد إليها ، إلا بعد السبر والتأمّل ، والإنعام والتصفّح ؛ فإن وجدت عذرا مقطوعا به صرت إليه ، واعتمدته ، وإن تعذر ذلك ، جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال ؛ فإنك لا تعدم هناك مذهبا تسلكه ، ومأما تتورّده. فقد أريتك فى ذلك أشياء : أحدها استثقالهم الحركة التى هى أقل من الحرف ، حتى أفضوا فى ذلك إلى أن أضعفوها ، واختلسوها ، ثم تجاوزوا ذلك إلى أن انتهكوا حرمتها ، فحذفوها ، ثم ميّلوا (١) بين الحركات فأنحوا على الضمة والكسرة لثقلهما ، وأجمّوا (٢) الفتحة فى غالب الأمر لخفتها ، فهل هذا إلا لقوّة نظرهم ولطف استشفافهم وتصفّحهم.

أنشدنا مرة أبو عبد الله الشجرىّ شعرا لنفسه ، فيه بنو عوف ، فقال له بعض الحاضرين : أتقول : بنو عوف ، أم بنى عوف؟ شكا من السائل فى بنى وبنو ؛ فلم يفهم الشجرىّ ما أراده ، وكان فى ثنايا السائل فضل فرق (٣) ، فأشبع الصويت الذى يتبع الفاء فى الوقف ؛ فقال الشجرى ، مستنكرا لذلك : لا أقوى فى الكلام على هذا النفخ.

وسألت غلاما من آل المهيّا فصيحا عن لفظة من كلامه لا يحضرنى الآن ذكرها ، فقلت : أكذا ، أم كذا؟ فقال : «كذا بالنصب ؛ لأنه أخف» ، فجنح إلى الحفة ، وعجبت من هذا مع ذكره النصب بهذا اللفظ. وأظنه استعمل هذه اللفظة لأنها مذكورة عندهم فى الإنشاد الذى يقال له النصب ، مما يتغنّى به الركبان.

وسنذكر فيما بعد بابا نفصل فيه بين ما يجوز السؤال عنه مما لا يجوز ذلك فيه بإذن الله.

ومما يدلك على لطف القوم ورقّتهم مع تبذّلهم ، وبذاذة ظواهرهم ؛ مدحهم بالسباطة والرشاقة ، وذمّهم بضدّها من الغلظة والغباوة ، ألا ترى إلى قولها :

__________________

(١) ميّل : تردد.

(٢) أكثروا استعمالها. من قولهم : أجمّ البئر ، تركها يجتمع ماؤها.

(٣) الفرق ـ بالتحريك ـ : تباعد بين الثّنيتين. اللسان (فرق).

١٢٢

فتى قد قد السيف لا متآزف

ولا رهل لبّاته وبآدله (١)

وقول جميل فى خبر له :

وقد رابنى من جعفر أن جعفرا

يبثّ هوى ليلى ويشكو هوى جمل

فلو كنت عذرىّ الصبابة لم تكن

بطينا وأنساك الهوى كثرة الأكل (٢)

وقول عمر :

قليلا على ظهر المطيّة ظلّه

سوى ما نفى عنه الرداء المحبّر (٣)

وإلى الأبيات المحفوظة فى ذلك وهى قوله :

ولقد سريت على الظلام بمغشم

جلد من الفتيان غير مثقّل (٤)

وأظن هذا الموضع لو جمع لجاء مجلدا عظيما.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للعجير السلولى فى لسان العرب (أزف) ، (بأدل) ، (رهل) ، (ضأل) ، وتاج العروس (أزف) ، (رهل) ، ولأم يزيد بن الطئرية فى مقاييس اللغة ١ / ٩٥ ، ٢ / ٤٥٢ ، ولزينب أخت يزيد بن الطئرية فى تاج العروس (ضؤل) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (بدل) ، وتهذيب اللغة ١٣ / ٢٦٦ ، ١٤ / ١٣٢ ، وجمهرة اللغة ص ٣٠١ ، والمخصص ١ / ١٦٠ ، ٢ / ٤٩ ، ومجمل اللغة ١ / ٢٤٦ ، وديوان الأدب ٢ / ٢٤٨ ، وكتاب العين ٨ / ٢٤٥ ، ٧ / ٤٩١. ويروى : وأباجله بدلا من : وبآدله. المتآزف : الضعيف الجبان ، والبأدلة : اللحم بين الإبط والثندوة كلها ، والجمع البآدل ، وقيل : اللحمة بين العنق والترقوة. اللسان (بأدل).

(٢) أورد القالى فى الذيل ٢٠٧ البيتين ببعض تغيير من غير عزو. وانظر السمط ٩٦ ، وأورد فى الكامل ٩١ ـ ٦ : «وأنشدت الأعرابىّ :

وقد رابنى من زهدم أن زهدما

يشدّ على خبزى ويبكى على جمل

فلو كنت عذرىّ العلاقة لم تكن

سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل (نجار).

(٣) من قصيدته التى مطلعها :

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غذ أم رائح فمهجر

وقوله : «قليلا» كذا فى ج ، والأغانى ١ / ٨٢ طبعة الدار ، وفى سائر الأصول : «قليل» ، وهو وصف لـ «رجلا» فى البيت قبله ، وهو :

رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت

فيضحى ، وأما بالعشىّ فيخصر (نجار).

(٤) البيت من الكامل ، وهو لأبى كبير الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص ١٠٧٢ ، ولسان العرب (علا) وبلا نسبة فى مقاييس اللغة ٦ / ٣١. ويروى : مهبّل بدلا من مثقّل.

١٢٣

وحدّثنى أبو الحسن على بن عمرو عقيب منصرفه من مصر هاربا متعسّفا ، قال : أذمّ (١) لنا غلام ـ أحسبه قال من طىّء ـ من بادية الشأم ، وكان نجيبا متيقّظا ، يكنى أبا الحسين ويخاطب بالأمير ؛ فبعدنا عن الماء فى بعض الوقت ، فأضرّ ذلك بنا ، قال فقال لنا ذلك الغلام : على رسلكم فإنى أشمّ رائحة الماء. فأوقفنا بحيث كنّا ، وأجرى فرسه ، فتشرف هاهنا مستشفّا ، ثم عدل عن ذلك الموضع إلى آخر مستروحا للماء ، ففعل ذلك دفعات ، ثم غاب عنا شيئا وعاد إلينا ، فقال : النجاة والغنيمة ، سيروا على اسم الله تعالى ؛ فسرنا معه قدرا من الأرض صالحا ، فأشرف بنا على بئر ، فاستقينا وأروينا. ويكفى من ذلك ما حكاه من قول بعضهم لصاحبه : ألاتا ، فيقول الآخر مجيبا له : بلى فا ، وقول الآخر :

* قلنا لها قفى لنا قالت قاف (٢) *

ثم تجاوزوا ذلك إلى أن قالوا : «ربّ إشارة أبلغ من عبارة» نعم وقد يحذفون بعض الكلم استخفافا ، حذفا يخلّ بالبقية ، ويعرّض لها الشبه ؛ ألا ترى إلى قول علقمة :

كأن إبريقهم ظبى على شرف

مفدّم بسبا الكتّان ملثوم (٣)

أراد : بسبائب. وقول لبيد :

* درس المنا بمتالع فأبان (٤) *

__________________

(١) أخذ له الذمة والعهد بالأمان.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) الفدام : ما يوضع على فم الإبريق ، وإبريق مفدّم : عليه فدام ، اللسان (فدم). اللثام : ما كان على الفم من النقاب. والسّبّ والسبيبة : الشّقة ، وخص بعضهم بها الشقة البيضاء ، والجمع سبائب : والبيت فى اللسان (سبب) وفيه «أراد سبائب فحذف».

(٤) صدر البيت من الكامل ، وهو للبيد بن ربيعة فى ديوانه ص ١٣٨ ، والدرر ٦ / ٢٠٨ ، وسمط اللآلى ص ١٣ ، وشرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٩٧ ، ولسان العرب (تلع) (ابن) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٤٦ ، وتاج العروس (تلع) ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ٤٤ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٦٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٦ ، وكتاب العين ١ / ١٧٣. وعجز البيت :

* فتقادمت بالحبس فالسّوبان*

١٢٤

أراد المنازل. وقول الآخر :

حين ألقت بقباء بركها

واستحرّ القتل فى عبد الأشل (١)

يريد عبد الأشهل من الأنصار ، وقول أبى دواد :

يذرين جندل حائر لجنوبها

فكأنما تذكى سنابكها الحبا (٢)

أى تصيب بالحصى فى جريها جنوبها ، وأراد الحباحب ، وقال الأخطل :

أمست مناها بأرض ما يبلغها

بصاحب الهمّ إلا الجسرة الأجد (٣)

قالوا : يريد منازلها ، ويجوز أن يكون مناها قصدها.

ودع هذا كلّه ، ألم تسمع إلى ما جاءوا به من الأسماء المستفهم بها ، والأسماء المشروط بها ، كيف أغنى الحرف الواحد عن الكلام الكثير ، المتناهى فى الأبعاد والطول ؛ فمن ذلك قولك : كم مالك ، ألا ترى أنه قد أغناك ذلك عن قولك : أعشرة مالك ، أم عشرون ، أم ثلاثون ، أم مائة ، أم ألف ، فلو ذهبت تستوعب الأعداد لم تبلغ ذلك أبدا ؛ لأنه غير متناه ؛ فلما قلت : «كم» أغنتك هذه اللفظة الواحدة عن تلك الإطالة غير المحاط بآخرها ، ولا المستدركة. وكذلك أين بيتك ؛ قد أغنتك «أين» عن ذكر الأماكن كلها. وكذلك من عندك ؛ قد أغناك هذا عن ذكر الناس كلهم. وكذلك متى تقوم ؛ قد غنيت بذلك عن ذكر الأزمنة على بعدها.

وعلى هذا بقية الأسماء من نحو : كيف ، وأىّ ، وأيان ، وأنّى. وكذلك الشرط فى قولك : من يقم أقم معه ؛ فقد كفاك ذلك من ذكر جميع الناس ، ولو لا هو

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو لعبد الله بن الزبعرى فى ديوانه ص ٤٢ ، ولسان العرب (برك) ، وتاج العروس (برك) ، (قبا) ، (شهل) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (شهل) ، وأساس البلاغة (حرر). والبرك : وسط الصدر ، وابترك القوم فى القتال جثوا على الركب واقتتلوا ابتراكا.

(٢) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (حبحب) وفيه «إنما أراد الحباحب ، أى نار الحباحب ، يقول : تصيب بالحصى فى جريها جنوبها. يقال للخيل إذا أورت النار بحوافرها : هى نار الحباحب ، والحباحب : طائر يطير فيما بين المغرب والعشاء ، كأنه شرارة. وفى تاج العروس (حبب) ويروى : جائر بدلا من حائر.

(٣) البيت من البسيط. وهو للأخطل فى ديوانه ص ٤٧ ، ولسان العرب (نزل) ، (منى) ، وكتاب الجيم ٣ / ٢٣٧ ، وتاج العروس (منا).

١٢٥

لاحتجت أن تقول : إن يقم زيد أو عمرو أو جعفر أو قاسم ونحو ذلك ، ثم تقف حسيرا مبهورا ، ولمّا تجد إلى غرضك سبيلا. وكذلك بقية أسماء العموم فى غير الإيجاب : نحو أحد ، وديّار ، وكتيع ، وأرم ، وبقية الباب. فإذا قلت : هل عندك أحد أغناك ذلك عن أن تقول : هل عندك زيد ، أو عمرو ، أو جعفر ، أو سعيد ، أو صالح ، فتطيل ، ثم تقصر إقصار المعترف الكليل ، وهذا وغيره أظهر أمرا ، وأبدى صفحة وعنوانا. فجميع ما مضى وما نحن بسبيله ، مما أحضرناه ، أو نبهنا عليه فتركناه ، شاهد بإيثار القوم قوّة إيجازهم ؛ وحذف فضول كلامهم. هذا مع أنهم فى بعض الأحوال قد يمكّنون ويحتاطون ، وينحطّون فى الشّق (١) الذى يؤمّون ، وذلك فى التوكيد نحو جاء القوم أجمعون ، أكتعون ، أبصعون ، أبتعون ؛ وقد قال جرير :

تزوّد مثل زاد أبيك فينا

فنعم الزاد زاد أبيك زادا (٢)

فزاد الزاد فى آخر البيت توكيدا لا غير.

وقيل لأبى عمرو : أكانت العرب تطيل؟ فقال : نعم لتبلغ. قيل : أفكانت توجز؟ قال : نعم ليحفظ عنها.

واعلم أن العرب ـ مع ما ذكرنا ـ إلى الإيجاز أميل ، وعن الإكثار أبعد. ألا ترى أنها فى حال إطالتها وتكريرها مؤذنة باستكراه تلك الحال وملالها ، ودالّة على أنها إنما تجشّمتها لما عناها هناك وأهمّها ؛ فجعلوا تحمّل ما فى ذلك على العلم بقوّة الكلفة فيه ، دليلا على إحكام الأمر فيما هم عليه.

ووجه ما ذكرناه من ملالتها الإطالة ـ مع مجيئها بها للضرورة الداعية إليها ـ أنهم لما أكّدوا فقالوا : أجمعون ، أكتعون ، أبصعون ، أبتعون ؛ لم يعيدوا أجمعون

__________________

(١) يقال : انحطت الناقة فى سيرها : أسرعت ، يقال ذلك للنجيبة السريعة «وينحطون فى الشق الذى يؤمون» أى يجتهدون فيه.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لجرير فى خزانة الأدب ٩ / ٣٩٤ ـ ٣٩٩ ، والدرر ٥ / ٢١٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٠٩ ، وشرح شواهد المغنى ص ٥٧ ، وشرح المفصل ٧ / ٢١٣٢ ، ولسان العرب (زود) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠ ، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى ١ / ٢٦٧ ، وشرح شواهد المغنى ص ٨٦٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٥٦ ، ومغنى اللبيب ص ٤٦٢ ، والمقتضب ٢ / ١٥٠.

١٢٦

البتة ، فيكرروها فيقولوا : أجمعون ، أجمعون ، أجمعون ، أجمعون ، فعدلوا عن إعادة جميع الحروف إلى البعض ، تحاميا ـ مع الإطالة ـ لتكرير الحروف كلها.

فإن قيل : فلم اقتصروا على إعادة العين وحدها ، دون سائر حروف الكلمة؟

قيل : لأنها أقوى فى السجعة من الحرفين اللذين قبلها ، وذلك أنها لام ، فهى قافية ، لأنها آخر حروف الأصل ، فجىء بها لأنها مقطع الأصول ، والعمل فى المبالغة والتّكرير إنما هو على المقطع ، لا على المبدأ ، ولا المحشى.

ألا ترى أن العناية فى الشعر إنما هى بالقوافى لأنها المقاطع ، وفى السجع كمثل ذلك. نعم ، وآخر السجعة والقافية أشرف عندهم من أوّلها ، والعناية بها أمسّ ، والحشد عليها أوفى وأهمّ. وكذلك كلما تطرّف الحرف فى القافية ازدادوا عناية به ، ومحافظة على حكمه.

ألا تعلم كيف استجازوا الجمع بين الياء والواو ردفين ، نحو : سعيد ، وعمود.

وكيف استكرهوا اجتماعهما وصلين ، نحو قوله : «الغراب الأسود و» مع قوله أو «مغتدى» وقوله فى «غدى» وبقية قوافيها ، وعلة جواز اختلاف الردف وقبح اختلاف الوصل هو حديث التقدم والتأخر لا غير. وقد أحكمنا هذا الموضع فى كتابنا المعرب ـ وهو تفسير قوافى أبى الحسن ـ بما أغنى عن إعادته هنا. فلذلك جاءوا لمّا كرهوا إعادة جميع حروف أجمعين بقافيتها ، وهى العين ؛ لأنها أشهر حروفها ؛ إذ كانت مقطعا لها. فأما الواو والنون فزائدتان لا يعتدّان لحذفهما فى أجمع وجمع ، وأيضا فلأن الواو قد تترك فيه إلى الياء ، نحو أجمعون وأجمعين.

وأيضا لثبات النون تارة وحذفها أخرى ، فى غير هذا الموضع ، فلذلك لم يعتدّا مقطعا.

فإن قلت : إن هذه النون إنما تحذف مع الإضافة ، وهذه الأسماء التوابع ، نحو «أجمعين وبابه» مما لم تسمع إضافته فالنون فيها ثابتة على كل حال ، فهلا اقتصر عليها ، وقفّيت الكلم كلّها بها.

قيل : إنها وإن لم يضف هذا الضرب من الأسماء ، فإن إضافة هذا القبيل من الكلم فى غير هذا الموضع مطّردة منقادة ؛ نحو : مسلموك ، وضاربو زيد ، وشاتمو جعفر ، فلما كان الأكثر فيما جمع بالواو والنون إنما هو جواز إضافته حمل الأقل

١٢٧

فى ذلك عليه ، وألحق فى الحكم به.

فأما قولهم : أخذ المال بأجمعه ؛ فليس أجمع هذا هو أجمع من قولهم : جاء الجيش أجمع ، وأكلت الرغيف أجمع ؛ من قبل أن أجمع هذا الذى يؤكّد به ، لا يتنكر هو ولا ما يتبعه أبدا ؛ نحو أكتع ، وجميع هذا الباب ؛ وإذا لم يجز تنكيره كان من الإضافة أبعد ؛ إذ لا سبيل إلى إضافة اسم إلا بعد تنكيره وتصوّره كذلك.

ولهذا لم يأت عنهم شيء من إضافة أسماء الإشارة ، ولا الأسماء المضمرة ؛ إذ ليس فيها ما ينكّر. ويؤكد ذلك عندك أنهم قد قالوا فى هذا المعنى : جاء القوم بأجمعهم (بضم الميم) فكما أن هذه غير تلك لا محالة ، فكذلك المفتوحة الميم هى غير تلك. وهذا واضح.

وينبغى أن تكون «أجمع» هذه المضمومة العين جمعا مكسّرا ، لا واحدا مفردا ؛ من حيث كان هذا المثال مما يخصّ التكسير دون الإفراد ، وإذا كان كذلك فيجب أن يعرف خبر واحده ما هو. فأقرب ذلك إليه أن يكون جمع «جمع» من قول الله سبحانه : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمرة : ٤٥]. ويجوز عندى أيضا أن يكون جمع أجمع على حذف الزيادة ؛ وعليه حمل أبو عبيدة قول الله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) [يوسف ٢٢ ، القصص : ١٤] أنه جمع أشدّ ، على حذف الزيادة. قال : وربما استكرهوا على حذف هذه الزيادة فى الواحد ، وأنشد بيت عنترة :

* عهدى به شدّ النهار ... (١) *

أى أشدّ النهار ، يعنى أعلاه وأمتعه ، وذهب سيبويه فى أشدّ هذه إلى أنها جمع شدّة ؛ كنعمة وأنعم. وذهب أبو عثمان فيما رويناه عن أحمد (٢) بن يحيى عنه إلى

__________________

(١) جزء من البيت وهو من الكامل ، وهو لعنترة فى ديوانه ص ٢١٣ ، ولسان العرب (شدد) ، وتاج العروس (شدد). وتتمته :

 .................................... كأنما

خضب اللّبان ورأسه بالعظلم

والعظلم : صبغ أحمر.

(٢) أبو عثمان المازنى ، كانت وفاته سنة ٢٤٩ ه‍. وأحمد بن يحيى ثعلب وكانت وفاته سنة ٢٩١ ه‍. ويقضى هذا النص أن ثعلبا أخذ عن المازنى. وجاء فى سر الصناعة فى حرف الباء (ص ١٢٨): «أخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى ، قال : قال أبو عثمان ـ يعنى المازنى ـ ...» وأحمد بن يحيى الذى يروى عنه محمد بن الحسن هو ثعلب بلا ريب.

١٢٨

أنه جمع لا واحد له.

ثم لنعد فنقول : إنهم إذا كانوا فى حال إكثارهم وتوكيدهم مستوحشين منه ، مصانعين عنه علم أنهم إلى الإيجاز أميل ، وبه أعنى ، وفيه أرغب ؛ ألا ترى إلى ما فى القرآن وفصيح الكلام : من كثرة الحذوف ، كحذف المضاف ، وحذف الموصوف ، والاكتفاء بالقليل من الكثير ، كالواحد من الجماعة ، وكالتلويح من التصريح. فهذا ونحوه ـ مما يطول إيراده وشرحه ـ مما يزيل الشّك عنك فى رغبتهم فيما خفّ وأوجز ، عما طال وأمل ، وأنهم متى اضطرّوا إلى الإطالة لداعى حاجة ، أبانوا عن ثقلها عليهم ، واعتدّوا بما كلّفوه من ذلك أنفسهم ، وجعلوه كالمنبهة على فرط عنايتهم ، وتمكّن الموضع عندهم ، وأنه ليس كغيره مما ليست له حرمته ، ولا النفس معنيّة به.

نعم ، ولو لم يكن فى الإطالة فى بعض الأحوال إلا الخروج إليها عما قد ألف وملّ من الإيجاز لكان مقنعا.

ألا ترى إلى كثرة غلبة الياء على الواو فى عامّ الحال ، ثمّ مع هذا فقد ملّوا ذلك إلى أن قلبوا الياء واوا قلبا ساذجا ، أو كالساذج لا لشيء أكثر من الانتقال من حال إلى حال ؛ فإنّ المحبوب إذا كثر ملّ ؛ وقد قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا هريرة زر غبّا تزدد حبّا» (١) والطريق فى هذا بحمد الله واضحة مهيع. وذلك الموضع الذى قلبت فيه الياء واوا على ما ذكرنا لام فعلى إذا كانت اسما من نحو : الفتوى ، والرعوى ، والثنوى ، والبقوى ، والتقوى ، والشروى (٢) ، والعوّى «لهذا النجم».

وعلى ذلك أو قريب منه قالوا : عوى الكلب عوّة. وقالوا : الفتوّة ، وهى من الياء ، وكذلك النّدوّة. وقالوا : هذا أمر ممضوّ عليه ، وهى المضواء ؛ وإنما هى من مضيت لا غير.

__________________

(١) «صحيح» : أخرجه البزار والطبرانى فى الأوسط والبيهقى ، عن أبى هريرة ، والبزار والبيهقى أيضا عن أبى ذر ، وقد جاء من غير وجه ، انظر صحيح الجامع (ح ٣٥٦٨).

(٢) الرعوى : بمعنى المراعاة والحفظ. والثنوى : اسم من الاستثناء. والبقوى : اسم بمعنى الإبقاء. والشروى : المثل. وقد جعل المؤلف الإبدال فى هذا الباب ساذجا أو كالساذج ، وإن كان للفرق بين الاسم والصفة لما كان غير مبنى على الاستثقال والاستخفاف الذى هو الأصل فى حديث الإعلال. (نجار).

١٢٩

وقد جاء عنهم : رجل مهوب ، وبرّ مكول ، ورجل مسور به. فقياس هذا كله على قول الخليل أن يكون مما قلبت فيه الياء واوا ؛ لأنه يعتقد أن المحذوف من هذا ونحوه إنما هو واو مفعول لا عينه ، وأنسّه بذلك قولهم : قد هوب ، وسور به ، وكول.

واعلم أنا ـ مع ما شرحناه وعنينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل الفقه ، وإلحاقها بعلل الكلام ـ لا ندّعى أنها تبلغ قدر علل المتكلمين ، ولا عليها براهين المهندسين ؛ غير أنا نقول : إن علل النحويين على ضربين : أحدهما واجب لا بدّ منه ؛ لأنّ النفس لا تطيق فى معناه غيره. والآخر ما يمكن تحمله ؛ إلا أنه على تجشم واستكراه له.

الأوّل ـ وهو ما لا بدّ للطبع منه ـ : قلب الألف واوا للضمة قبلها ، وياء للكسرة قبلها. أمّا الواو فنحو قولك فى سائر : سويئر ، وفى ضارب : ضويرب. وأمّا الياء فنحو قولك فى نحو تحقير قرطاس وتكسيره : قريطيس ، وقراطيس. فهذا ونحوه مما لا بدّ منه ؛ من قبل أنه ليس فى القوّة ، ولا احتمال الطبيعة وقوع الألف المدة الساكنة بعد الكسرة ولا الضمة. فقلب الألف على هذا الحدّ علته الكسرة والضمة قبلها. فهذه علّة برهانية ولا لبس فيها ، ولا توقّف للنفس عنها. وليس كذلك قلب واو عصفور ونحوه ياء إذا انكسر ما قبلها ؛ نحو : عصيفير وعصافير ؛ ألا ترى أنه قد يمكنك تحمّل المشقّة فى تصحيح هذه الواو بعد الكسرة ؛ وذلك بأن تقول : عصيفور وعصافور. وكذلك نحو : موسر ، وموقن ، وميزان ، وميعاد ؛ لو أكرهت نفسك على تصحيح أصلها لأطاعتك عليه ، وأمكنتك منه ؛ وذلك قولك : موزان ، وموعاد ، وميسر ، وميقن. وكذلك ريح وقيل ؛ قد كنت قادرا أن تقول : قول ، وروح ؛ لكن مجىء الألف بعد الضمة أو الكسرة أو السكون محال ، ومثله لا يكون. ومن المستحيل جمعك بين الألفين المدّتين ؛ نحو ما صار إليه قلب لام كساء ونحوه قبل إبدال الألف همزة ، وهو خطّا كساا ، أو قضاا ، فهذا تتوهمه تقديرا ولا تلفظ به البتة. قال أبو إسحاق يوما لخصم نازعه فى جواز اجتماع الألفين المدّتين ـ ومدّ الرجل الألف فى نحو هذا ، وأطال ـ فقال له أبو إسحاق : لو مددتها إلى العصر ما كانت إلا ألفا واحدة.

١٣٠

وعلّة امتناع ذلك عندى أنه قد ثبت أن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا ؛ فلو التقت ألفان مدّتان لانتقضت القضية فى ذلك ؛ ألا ترى أن الألف الأولى قبل الثانية ساكنة ، وإذا كان ما قبل الثانية ساكنا كان ذلك نقضا فى الشرط لا محالة.

فأمّا قول أبى العباس فى إنشاد سيبويه :

* دار لسعدى إذه من هواكا (١) *

إنه خرج من باب الخطأ إلى باب الإحالة ؛ لأن الحرف الواحد لا يكون ساكنا متحرّكا فى حال (٢) ، فخطأ عندنا. وذلك أن الذى قال : «إذه من هواك» هو الذى يقول فى الوصل : هى قامت ، فيسكّن الياء ، وهى لغة معروفة ، فإذا حذفها فى الوصل اضطرارا واحتاج إلى الوقف ردّها حينئذ فقال : هى ، فصار الحرف المبدوء به غير الموقوف عليه ، فلم يجب من هذا أن يكون ساكنا متحرّكا فى حال ، وإنما كان قوله «إذه» على لغة من أسكن الياء لا على لغة من حرّكها ، من قبل أن الحذف ضرب من الإعلال ، والإعلال إلى السواكن لضعفها أسبق منه إلى المتحرّكات لقوتها. وعلى هذا قبح قوله :

لم يك الحقّ سوى أن هاجه

رسم دار قد تعفّى بالسرر (٣)

لأنه موضع يتحرّك فيه الحرف فى نحو قولك : لم يكن الحق.

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى الإنصاف ص ٦٨٠ ، وخزانة الأدب ٢ / ٦ ، ٨ / ١٣٨ ، ٩ / ٤٨٣ ، ٥ / ٦٤ ، والدرر ١ / ١٨٨ ، ورصف المبانى ص ١٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٣٤٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٨٣ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٩٠ ، وشرح المفصل ٣ / ٩٧ ، والكتاب ١ / ٢٧ ، ولسان العرب (هيا) وهمع الهوامع ١ / ٦١ ، وتاج العروس (هوا) ، (ها).

(٢) يريد أن بقاء الضمير المنفصل على حرف واحد يعرضه للسكون عند الوقف عليه والتحريك عند البدء به ، وهو عرضة للبدء مع الوقف دائما ؛ فمن هنا جاءت الاستحالة التى زعمها المبرد. ويردّ ابن جنى على المبرد بأن الوقف يقضى بردّ المحذوف ؛ فيكون الوقف عليه وتسكينه ، فأمّا الحرف الباقى فلا يعرض له السكون. (نجار).

(٣) البيت من الرمل ، وهو لحسين (أو الحسن كما فى لسان العرب) ابن عرفطة فى خزانة الأدب ٩ / ٣٠٤ ، ٣٠٥ ، والدرر ٢ / ٩٤ ، ولسان العرب (كون) ، ونوادر أبى زيد ص ٧٧ ، وبلا نسبة فى تخليص الشواهد ص ٢٦٨ ، والدرر ٦ / ٢١٧ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٤٠ ، ٥٤٠ ، والمنصف ٢ / ٢٢٨ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٢ ، ١٥٦. ويروى : تعفت بدلا من : تعفّى.

١٣١

وعلّة جواز هذا البيت ونحوه ، مما حذف فيه ما يقوى بالحركة ، هى أن هذه الحركة إنما هى لالتقاء الساكنين ، وأحداث التقائهما ملغاة غير معتدّة ، فكأنّ النون ساكنة ، وإن كانت لو أقرّت لحرّكت ، فإن لم تقل بهذا لزمك أن تمتنع من إجماع العرب الحجازيين على قولهم : اردد الباب ، وأصبب الماء ، واسلل السيف. وأن تحتج فى دفع ذلك بأن تقول : لا أجمع بين مثلين متحرّكين. وهذا واضح.

ومن طريف حديث اجتماع السواكن شيء وإن كان فى لغة العجم ، فإن طريق الحسّ موضع تتلاقى عليه طباع البشر ، ويتحاكم إليه الأسود والأحمر ، وذلك قولهم : «آرد» للدقيق و «ماست» للّبن ؛ فيجمعون بين ثلاثة سواكن. إلا أننى لم أر ذلك إلا فيما كان ساكنه الأول ألفا ، وذلك أن الألف لما قاربت بضعفها وخفائها الحركة صارت «ماست» كأنها مست.

فإن قلت : فأجز على هذا الجمع بين الألفين المدّتين ، وأعتقد أن الأولى منهما كالفتحة قبل الثانية.

قيل : هذا فاسد ؛ وذلك أن الألف قبل السين فى «ماست» إذا أنت استوفيتها أدّتك إلى شيء آخر غيرها مخالف لها ، وتلك حال الحركة قبل الحرف : أن يكون بينهما فرق ما ، ولو تجشّمت نحو ذلك فى جمعك فى اللفظ بين ألفين مدّتين ، نحو كساا ، وحمراا ، لكان مضافا إلى اجتماع ساكنين أنك خرجت من الألف إلى ألف مثلها ، وعلى سمتها ، والحركة لا بدّ لها أن تكون مخالفة للحرف بعدها ؛ هذا مع انتقاض القضية فى سكون ما قبل الألف الثانية.

ورأيت مع هذا أبا على ـ رحمه‌الله ـ كغير المستوحش من الابتداء بالساكن فى كلام العجم. ولعمرى إنه لم يصرّح بإجازته ، لكنه لم يتشدّد فيه تشدّده فى إفساد إجازة ابتداء العرب بالساكن. قال : وذلك أن العرب قد امتنعت من الابتداء بما يقارب حال الساكن ، وإن كان فى الحقيقة متحركا ، يعنى همزة بين بين. قال : فإذا كان بعض المتحرك لمضارعته الساكن لا يمكن الابتداء به ، فما الظن بالساكن نفسه! قال : وإنما خفى حال هذا فى اللغة العجمية لما فيها من الزمزمة (١) ؛ يريد أنها لمّا

__________________

(١) الزمزمة : تراطن المجوس عند أكلهم وهم صموت ، لا يستعملون اللسان ولا الشفة فى كلامهم ، لكنه صوت تديره فى خياشيمها وحلوقها فيفهم بعضهم عن بعض. وانظر اللسان (زمم).

١٣٢

كثر ذلك فيها ضعفت حركاتها وخفيت. وأما أنا فأسمعهم كثيرا إذا أرادوا المفتاح قالوا : «كليد» ؛ فإن لم تبلغ الكاف أن تكون ساكنة ، فإنّ حركتها جدّ مضعفة ، حتى إنها ليخفى حالها علىّ ، فلا أدرى أفتحة هى أم كسرة ، وقد تأملت ذلك طويلا فلم أحل منه بطائل.

وحدّثنى أبو علىّ رحمه‌الله قال : دخلت «هيتا» (١) وأنا أريد الانحدار منها إلى بغداد ، فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل ؛ فعجبت منها وأقمنا هناك أياما ، إلى أن صلح الطريق للمسير ، فإذا أننى قد تكلمت مع القوم بها ، وأظنه قال لى : إننى لما بعدت عنهم أنسيتها.

ومما نحن بسبيله مذهب يونس فى إلحاقه النون الخفيفة للتوكيد فى التثنية ، وجماعة النساء ، وجمعه بين ساكنين فى الوصل ، نحو قوله : اضربان زيدا ، واضربنان عمرا ، وليس ذلك ـ وإن كان فى الإدراج ـ بالممتنع فى الحسّ ، وإن كان غيره أسوغ فيه منه ، من قبل أن الألف إذا أشبع مدّها صار ذلك كالحركة فيها ، ألا ترى إلى اطّراد نحو : شابّة ، ودابّة ، وادهامّت ، والضالّين.

فإن قلت : فإن الحرف لما كان مدغما خفى ، فنبا اللسان عنه وعن الآخر بعده نبوة واحدة ، فجريا لذلك مجرى الحرف الواحد ، وليست كذلك نون اضربان زيدا ، وأكرمنان جعفرا ، قيل : فالنون الساكنة أيضا حرف خفىّ فجرت لذلك نحوا من الحرف المدغم ؛ وقد قرأ نافع «محياى ومماتى» [الأنعام : ١٦٢] بسكون الياء من «محياى» ، وذلك لما نحن عليه من حديث الخفاء ، والياء المتحركة إذا وقعت بعد الألف احتيج لها إلى فضل اعتماد وإبانة ، وذلك قول الله تعالى (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] ولذلك يحضّ المبتدئون ، والمتلقّنون على إبانة هذه الياء لوقوعها بعد الألف ، فإذا كانت من الخفاء على ما ذكرنا وهى متحركة ازدادت خفاء بالسكون نحو محياى ، فأشبهت حينئذ الحرف المدغم. ونحو من ذلك ما يحكى عنهم من قولهم : «التقت حلقتا البطان» بإثبات الألف ساكنة فى اللفظ قبل اللام ، وكأن ذلك إنما جاز هاهنا لمضارعة اللام النون ؛ ألا ترى أن فى مقطع اللام

__________________

(١) هيت : بلد على شاطئ الفرات. اللسان (هيت).

١٣٣

غنّة كالنون ، وهى أيضا تقرب من الياء حتى يجعلها بعضهم فى اللفظ ياء ، فحملت اللام فى هذا على النون ، كما حملت أيضا عليها فى لعلّى ، ألا تراهم كيف كرهوا النون من لعلّنى مع اللام ، كما كرهوا النون فى إننى ، وعلى ذلك قالوا : هذا بلو سفر ، وبلى سفر (١) ، فأبدلوا الواو ياء لضعف حجز اللام كما أبدلوها «فى قنية» ياء ، لضعف حجز النون ، وكأن «قنية» ـ وهى عندنا من «قنوت» ـ ، و «بليا» أشبه من عذى (٢) وصبيان ، لأنه لا غنّة فى الذال والباء. ومثل «بلى» قولهم : فلان من علية الناس ، وناقة عليان (٣). فأمّا إبدال يونس هذه النون فى الوقف ألفا وجمعه بين ألفين فى اضرباا ، واضربناا ، فهو الضعيف المستكره الذى أباه أبو إسحاق وقال فيه ما قال.

ومن الأمر الطبيعى الذى لا بدّ منه ، ولا وعى عنه ، أن يلتقى الحرفان الصحيحان فيسكن الأوّل منهما فى الإدراج ، فلا يكون حينئذ بدّ من الإدغام ، متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو قولك : شدّ ، وصبّ ، وحلّ ؛ فالإدغام واجب لا محالة ، ولا يوجدك اللفظ به بدا منه. والمنفصلان نحو قولك : خذ ذاك ، ودع عامرا. فإن قلت : فقد أقدر أن أقول : شدد ، وحلل ، فلا أدغم ، قيل : متى تجشّمت ذلك وقفت على الحرف الأوّل وقفة ما ، وكلامنا إنما هو على الوصل. فأما قراءة عاصم : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ)(٤) [القيامة : ٢٧] ببيان النون من «من» ، فمعيب فى الإعراب ، معيف فى الأسماع ، وذلك أن النون الساكنة لا توقّف فى وجوب ادّغامها فى الراء ، نحو : من رأيت ، ومن رآك ؛ فإن كان ارتكب ذلك ووقف على النون صحيحة غير مدغمة ، لينبّه به على انفصال المبتدأ من خبره فغير مرضىّ أيضا ؛ ألا ترى إلى قول عدىّ :

__________________

(١) يقال : ناقة بلو سفر وبلى سفر : أبلاها السفر.

(٢) العذى : قلبت الواو ياء لضعف الساكن كما قالوا صبية ، وقد قيل إنه ياء والعذى ، بتسكين الذال : الزرع الذى لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده عن المياه. اللسان (عذا).

(٣) يقال : ناقة عليان أى عالية مشرفة.

(٤) وأظهر عاصم وتبعه حفص النون فى قوله تعالى : (مَنْ راقٍ) واللام فى قوله : (بَلْ رانَ) لئلا يشبه مرّاق وهو بائع المرقة ، وبرّان مثنى بر. وانظر القرطبى ص ٦٩٠٣ ط الريان ، والمحيط فى تفسير سورة القيامة.

١٣٤

من رأيت المنون عرّين أم من

ذا عليه من أن يضام خفير (١)

بإدغام نون «من» فى راء رأيت. ويكفى من هذا إجماع الجماعة على ادّغام (من رّاق) وغيره مما تلك سبيله. وعاصم فى هذا مناقض لمن قرأ : «فإذا هيتّلقّف» [الشعراء : ٤٥] بإدغام تاء تلقف. وهذا عندى يدل على شدة اتصال المبتدأ بخبره ، حتى صارا معا هاهنا كالجزء الواحد ، فجرى «هيتّ» فى اللفظ مجرى خدبّ ، وهجفّ ؛ ولو لا أن الأمر كذلك للزمك أن تقدّر الابتداء بالساكن ، أعنى تاء المضارعة من «تتلقف». فاعرف ذلك. وأمّا المعتلان فإن كانا مدّين منفصلين فالبيان لا غير ، نحو : فى يده ، وذو وفرة ، وإن كانا متصلين ادّغما نحو : مرضيّة ، ومدعوّة ؛ فإن كان الأوّل غير لازم فك فى المتصل أيضا ، نحو قوله :

* بان الخليط ولو طووعت ما بانا (٢) *

وقول العجّاج :

* وفاحم دووى حتى اعلنكسا (٣) *

ألا ترى أن الأصل داويت ، وطاوعت ، فالحرف الأوّل إذا ليس لازما. فإن كانا بعد الفتحة ادّغما لا غير ، متصلين ومنفصلين ؛ وذلك نحو : قوّ ، وجوّ ، وحىّ ، وعىّ ، ومصطفو وافد ، وغلامى ياسر ؛ وهذا ظاهر.

فهذا ونحوه طريق ما لا بدّ منه ؛ [وما لا يجرى مجرى التحيّز إليه والتخيّر له].

وما منه بدّ هو الأكثر وعليه اعتماد القول ، وفيه يطول السؤال والخوض ، وقد

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو لعدى بن زيد فى ديوانه ص ٨٧ ، وأمالى ابن الحاجب ٢ / ٦٥٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٠٦ ، ولسان العرب (منن) ، وبلا نسبة فى شرح المفصل ٤ / ١٠. ويروى : خلّدن بدلا من عرّين. وعرين : أى تركن وأهملن.

(٢) هذا مطلع قصيدة لجرير. وبقية البيت :

* وقطعوا من حبال الوصل أقرانا*

(٣) صدر البيت من الرجز للعجاج فى ديوانه ١ / ١٨٩ ، ولسان العرب (علكس) ، (دوا) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٣٠٢ ، وتاج العروس (علكس) ، (دوى) ، وديوان الأدب ٢ / ٤٩١ ، وكتاب العين ٢ / ٣٠٤. عجز البيت :

* وبشر مع البياض أملسا*

١٣٥

تقدم صدر منه ، ونحن نغترق (١) فى آتى الأبواب جميعه ، ولا قوة إلا بالله ؛ فأما إن استوفينا فى الباب الواحد كل ما يتصل به ـ على تزاحم هذا الشأن ، وتقاود بعضه مع بعض ـ اضطرّت الحال إلى إعادة كثير منه ، وتكريره فى الأبواب المضاهية لبابه ؛ وسترى ذلك مشروحا بحسب ما يعين الله عليه وينهض به.

* * *

__________________

(١) الاغتراق مثل الاستغراق.

١٣٦

باب القول على الاطراد والشذوذ

أصل مواضع (ط ر د) فى كلامهم التتابع والاستمرار ومن ذلك طردت الطّريدة ، إذ اتّبعتها واستمرّت بين يديك ؛ ومنه مطاردة الفرسان بعضهم بعضا ؛ ألا ترى أنّ هناك كرّا وفرّا ؛ فكلّ يطرد صاحبه. ومنه المطرد : رمح قصير يطرد به الوحش ، واطّرد الجدول إذا تتابع ماؤه بالريح. أنشدنى بعض أصحابنا لأعرابىّ :

ما لك لا تذكر أو تزور

بيضاء بين حاجبيها نور

تمشى كما يطّرد الغدير

ومنه بيت الأنصارى (١) :

* أتعرف رسما كاطّراد المذاهب (٢) *

أى كتتابع المذاهب ، وهى جمع مذهب ؛ وعليه قول الآخر :

سيكفيك الإله ومسنمات

كجندل لبن تطّرد الصّلالا (٣)

__________________

(١) الأنصارى : هو قيس بن الخطيم. والمذاهب : جلود مذهبة بخطوط يرى بعضها فى أثر بعض.

وتتمة البيت :

* لعمرة وحشا غير موقف راكب*

وانظر اللسان (ذهب) ، (طرد).

(٢) صدر البيت من الطويل ، وهو لقيس بن الخطيم ، فى ديوانه ص ٧٦ ، ولسان العرب (ذهب) ، (طرد) ، وتهذيب اللغة (٦ / ٢٦٤) ، ١٣ / ٣١٠ ، وتاج العروس (ذهب) ، (طرد) ، وجمهرة أشعار العرب ص ٦٤١ ، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة ٢ / ٣٦٢ ، ومجمل اللغة ٢ / ٣٤٨ ، والمخصص ١٢ / ١٢٠. وعجز البيت :

* لعمرة وحشا غير موقف راكب*

(٣) البيت من الوافر ، وهو للراعى النميرى فى ديوانه ص ٢٤٥ ، ولسان العرب (طرد) ، (لبن) ، وجمهرة اللغة ص ١٤٤ ، ٣٧٩ ، ٨٩٨ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ١١٣ ، ١٣ / ٣١٠ ، ١٥ / ٣٦٥ ، وتاج العروس (صلل) ، (لبن) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (صلل) ، ومقاييس اللغة ٣ / ٢٧٧ ، والمخصص ١٠ / ١٧٧ ، ٢٠٩ ، ١٧ / ٤٨.

قول الراعى يصف الإبل واتباعها مواضع القطر. المسنمات : الإبل. ولبن : قال ابن سيده : يجوز أن يكون ترخيم لبنان فى غير النداء اضطرارا ، وأن تكون لبن

١٣٧

أى تتابع إلى الأرضين الممطورة لتشرب منها ؛ فهى تسرع وتستمرّ إليها. وعليه بقية الباب.

وأما مواضع (ش ذ ذ) فى كلامهم فهو التّفرّق والتّفرّد ؛ من ذلك قوله :

* يتركن شذّان الحصى جوافلا (١) *

أى ما تطاير وتهافت منه. وشذّ الشىء يشذّ ويشذّ شذوذا وشذّا ، وأشذذته أنا ، وشذذته أيضا أشذّه (بالضم لا غير) ، وأباها الأصمعىّ وقال : لا أعرف إلّا شاذّا أى متفرّقا. وجمع شاذّ شذّاذ ؛ قال :

* كبعض من مرّ من الشّذّاذ*

هذا أصل هذين الأصلين فى اللغة. ثم قيل ذلك فى الكلام والأصوات على سمته وطريقه فى غيرهما ، فجعل أهل علم العرب ما استمرّ من الكلام فى الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطّردا ، وجعلوا ما فارق ما عليه بقيّة بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذّا ؛ حملا لهذين الموضعين على أحكام غيرهما.

ثم اعلم من بعد هذا أن الكلام فى الاطّراد والشذوذ على أربعة أضرب :

مطّرد فى القياس والاستعمال جميعا ، وهذا هو الغاية المطلوبة ، والمثابة المنوبة ؛ وذلك نحو : قام زيد ، وضربت عمرا ، ومررت بسعيد.

ومطّرد فى القياس ، شاذّ فى الاستعمال. وذلك نحو الماضى من : يذر ويدع.

وكذلك قولهم «مكان مبقل» هذا هو القياس ، والأكثر فى السماع باقل ، والأوّل مسموع أيضا ؛ قال أبو دواد لابنه دواد «يا بنىّ ما أعاشك بعدى؟» فقال دواد :

أعاشنى بعدك واد مبقل

آكل من حوذانه وأنسل (٢)

__________________

 ـ أرضا بعينها. والصلال : جمع صلة وهى مواقع المطر فيها نبات فالإبل ترعاها. وانظر اللسان (طرد) ، (صلل) ، (لبن).

(٤) عجز البيت من الرجز لامرئ القيس فى ديوانه ص ١٣٥ ، ولسان العرب (حزم) ، ولرؤبة فى ديوانه ص ١٢٦ ، وتهذيب اللغة ١١ / ٢٧١ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (شذذ) ، وجمهرة اللغة ص ٧٨٧ ، ٩٦٦ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٤٩٦. وصدر البيت :

* يحملننا والأسل النواهلا*

(٢) الرجز لدؤاد بن أبى دؤاد فى لسان العرب (عيش) ، (بقل) ، (نسل) ، وبلا نسبة فى لسان ـ

١٣٨

وقد حكى أيضا أبو زيد فى كتاب (حيلة ومحالة) : مكان مبقل. ومما يقوى فى القياس ، ويضعف فى الاستعمال مفعول عسى اسما صريحا ، نحو قولك : عسى زيد قائما أو قياما ؛ هذا هو القياس ، غير أن السماع ورد بحظره ، والاقتصار على ترك استعمال الاسم هاهنا ؛ وذلك قولهم : عسى زيد أن يقوم ، و (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) [المائدة : ٥٢] وقد جاء عنهم شيء من الأوّل ؛ أنشدنا أبو على :

أكثرت فى العدل ملحّا دائما

لا تعذلا إنّى عسيت صائما (١)

ومنه المثل السائر : «عسى الغوير أبؤسا».

والثالث المطّرد فى الاستعمال ، الشاذّ فى القياس ؛ نحو قولهم : أخوص الرمث (٢) ، واستصوبت الأمر. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال : يقال استصوبت الشىء ، ولا يقال : استصبت الشىء. ومنه استحوذ ، وأغيلت المرأة (٣) ، واستنوق الجمل ، واستتيست الشاة ، وقول زهير :

* هنالك إن يستخولوا المال يخولوا (٤) *

__________________

العرب (حوذ) ، وتاج العروس (عيش) ، (بقل) ، (نسل) ، وسمط اللآلى ص ٥٧٣ ، ولأبى ذؤيب الهذلى فى زيادات شرح أشعار الهذليين ص ١٣١٢. الحوذان : اسم نبت. وأنسل : يروى بفتح الهمزة ، ومعناه : أسمن حتى يسقط الشعر. ويروى بضمها ؛ ومعناه : تنسل إبلى وغنمى. وانظر اللسان فى (نسل وبقل).

(١) الرجز لرؤبة فى ملحقات ديوانه ص ١٨٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣١٦ ، ٣١٧ ، ٣٢٢ ، والدرر ٢ / ١٤٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٨٣ ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٦١ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ١٧٥ ، وتخليص الشواهد ص ٣٠٩ ، والخزانة ٨ / ٣٧٤ ، ٣٧٦ ، والجنى الدانى ص ٤٦٣ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٢٨ ، وشرح شواهد المغنى ص ٤٤٤ ، وشرح ابن عقيل ص ١٦٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٨٢٢ ، وشرح المفصل ٧ / ١٤ ، ومغنى اللبيب ١ / ١٥٢ ، والمقرب ١ / ١٠٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٠. ويروى : العذل بدلا من : العدل ، تكثرنّ بدلا من تعذلا.

(٢) الرمث : شجر ترعاه الإبل ، وأخوص الرّمث : أى تفطّر بورق ، وعم بعضهم به الشجر ، والخوص : ورق المقل والنخل والنارجيل ، وما شاكلها واحدته خوصة. اللسان (خوص).

(٣) يقال : أغيلت المرأة ولدها إذا أرضعته وهى حامل.

(٤) صدر البيت من الطويل ، وهو لزهير فى ديوانه ص ١١٢ ، ولسان العرب (خبل) ، (خول) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٤٢٥ ، وجمهرة اللغة ص ٢٩٣ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٣٤ ، والمخصص

١٣٩

ومنه استفيل الجمل (١) ؛ قال أبو النجم :

* يدير عينى مصعب مستفيل (٢) *

والرابع الشاذّ فى القياس والاستعمال جميعا. وهو كتتميم مفعول ، فيما عينه واو ؛ نحو : ثوب مصوون ، ومسك مدووف (٣). وحكى البغداديون : فرس مقوود ، ورجل معوود من مرضه. وكل ذلك شاذّ فى القياس والاستعمال. فلا يسوغ القياس عليه ، ولا ردّ غيره إليه. [ولا يحسن أيضا استعماله فيما استعملته فيه إلا على وجه الحكاية].

واعلم أن الشىء إذا اطّرد فى الاستعمال وشذّ عن القياس ، فلا بدّ من اتباع السمع الوارد به فيه نفسه ؛ لكنه لا يتّخذ أصلا يقاس عليه غيره. ألا ترى أنك إذا سمعت : استحوذ واستصوب أدّيتهما بحالهما ، ولم تتجاوز ما ورد به السمع فيهما إلى غيرهما. ألا تراك لا تقول فى استقام : استقوم ، ولا فى استساغ : استسوغ ، ولا فى استباع : استبيع ، ولا فى أعاد : أعود ، لو لم تسمع شيئا من ذلك ؛ قياسا على قولهم : أخوص الرّمث. فإن كان الشىء شاذّا فى السماع مطّردا فى القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك ، وجريت فى نظيره على الواجب فى أمثاله.

من ذلك امتناعك من : وذر ، وودع ؛ لأنهم لم يقولوهما ، ولا غرو [عليك] أن تستعمل نظيرهما ؛ نحو : وزن ووعد لو لم تسمعهما. فأما قول أبى الأسود :

ليت شعرى عن خليلى ما الذى

غاله فى الحبّ حتى ودعه (٤)

__________________

 ـ ٧ / ١٥٩ ، ١٢ / ٢٣٤ ، ومجمل اللغة ٢ / ٢٣٧ ، وتاج العروس (خبل) ، وديوان الأدب ٢ / ٣٢٣. وعجز البيت :

* وإن يسألوا يعصوا وإن ييسروا يغلوا*

(١) استفيل الجمل : صار كالفيل.

(٢) الرجز لأبى النجم فى لسان العرب (فيل) ، وتاج العروس (قبض) ، (فيل) ، وأساس البلاغة (فيل) ، والطرائف الأدبية ص ٦١. ويروى : يريد بدلا من : يدير.

(٣) مسك مدووف أى مخلوط أو مبلول. وانظر اللسان (داف).

(٤) البيت من الرمل ، وهو لأبى الأسود الدؤلى فى ملحق ديوانه ص ٣٥٠ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٧٧ ، والإنصاف ٢ / ٤٨٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٥٠ ، والشعر والشعراء ٢ / ٧٣٣ ، والمحتسب ٢ / ٣٦٤ ، ولأنس بن زنيم فى حماسة البحترى ص ٢٥٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٧١ ، ـ

١٤٠