شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

فأوّل كأسبق معنى وتصريفا واستعمالا ، تقول في تصريفه : الأول ، الأوّلان الأولون الأوائل ، الأولى الأوليان الأوليات الأول ، وتقول في الاستعمال : زيد أوّل من غيره وهو الأول ؛

ولمّا لم يكن لفظ أوّل مشتقا من شيء مستعمل على القول الصحيح ؛ لا ممّا استعمل منه فعل كأحسن ، ولا مما استعمل منه اسم كأحنك ؛ خفي (١) فيه معنى الوصفية ، إذ هي إنما تظهر باعتبار المشتق منه واتصاف ذلك المشتق به ؛ كأعلم ، أي ذو علم أكثر من غيره ، وأحنك ، أي ذو حنك أشدّ من حنك غيره ؛ وإنما تظهر وصفية «أوّل» بسبب تأويله بالمشتق وهو «أسبق» فصار مثل : مررت برجل أسد ، أي جريء ، فلا جرم لم تعتبر وصفيته إلا مع ذكر الموصوف قبله ظاهرا ، نحو يوما أوّل ، أو ؛ ذكر «من» التفضيلية بعده ظاهرة ، إذ هي دليل على أن «أفعل» ، ليس اسما صريحا كأفكل وأيدع (٢) ؛ فإن خلا منهما معا ولم يكن مع اللام والإضافة ، دخل فيه التنوين مع الجر ، لخفاء وصفيته كما مر ، وذلك كقول علي رضي الله عنه : «أحمده أوّلا بادئا» (٣) ، ويقال : ما تركت له أولا ولا آخرا ؛ ويجوز حذف المضاف إليه من «أوّل» وبناؤه على الضم إذا كان مؤوّلا بظرف الزمان نحو قوله :

٦٠٨ ـ لعمرك ما أدري ، وإني لأوجل

على أيّنا تغدو المنيّة أوّل (٤)

أي : أوّل أوقات غدوّها ؛ ويقال : ما لقيته مذ عام أول برفع أول ، صفة لعام ، أي : عام أوّل من هذا العام ؛ وبعض العرب يقول : مذ عام أوّل بفتح أوّل ، وهو قليل ، حكى سيبويه (٥) عن الخليل أنهم جعلوه ظرفا كأنه قيل مذ عام قبل عامك ، وفي تأويل «أوّل» بقبل ، اشكال ، لأن أوّل الشيء : أسبق أجزائه ، فمعنى أوّل عامك : أسبق أجزائه إمّا من الليالي أو الأيام ، أو الأوقات ، ومعنى ، قبل عامك : الزمان الذي يتقدم جميع أجزائه ،

__________________

(١) جواب قوله : ولما لم يكن لفظ أول ،

(٢) الأفكل : الرعدة من برد ونحوه ، والأيدع من أسماء الزعفران ؛

(٣) في نهج البلاغة ص ٨٧ مطبعة دار الشعب ونصه .. وأوميه به أولا بادئا ؛

(٤) مطلع قصيدة جيدة من شعر معن بن أوس المزني ،

(٥) نقل ذلك سيبويه عن الخليل في الكتاب ؛ ج ٢ ص ٤٦

٤٦١

ولو كان بمعنى : قبل ذلك ، لكان محذوف المضاف إليه ، فوجب بناؤه على الضم ، ويجوز أن يكون «أول» ههنا ، بمعنى أوّل من عامك ، ويكون الظرف صفة لعام ، أي عام كائن في زمان أسبق من عامك ، جعل للزمان زمان ، توسعا ؛ ولا يبعد أن يقال إنه (١) جرّ صفة المرفوع على توهم الجرّ في الموصوف ، لأن ما بعد «مذ» قد يجرّ ، فيكون كقوله :

ولا ناعب إلا ببين غرابها (٢) ـ ٢٦٩

وقوله تعالى : (فأصدق وأكنْ من الصالحين)(٣) ، فعلى هذا يكون «أول» مجرورا ، لا منصوبا ، وتقول إذا لم تر زيدا يوما قبل أمس : ما رأيته مذ أول من أمس ، فإن لم تره يومين قبل أمس ، قلت : ما رأيته مذ أول من أول من أمس ، ولا يتجاوز ذلك ؛

وأمّا «آخر» فقد انمحى عنه معنى التفضيل بالكلية ، كما ذكرنا في باب ما لا ينصرف ، فلا يستعمل ، لا مع «من» ولا مع الإضافة ، بل يستعمل إمّا مجردا من اللام أو مع اللام ، ولمّا لم يكن معه «من» مقدرا مع المجرد طابق ما هو له تذكيرا وتأنيثا ، وإفرادا وتثنية وجمعا ،

وقد تجرّد «الدنيا» و «الجلىّ» عن اللام والإضافة ، إذا كانت الدنيا ، بمعنى العاجلة ، والجليّ بمعنى الخطة العظيمة ، قال :

٦٠٩ ـ في سعي دنيا طالما قد مدّت (٤)

وقال :

٦١٠ ـ وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة

يوما سراة كرام الناس فادعينا (٥)

__________________

(١) أي المتكلم بالمثال موضع الحديث وهو مذ أول بفتح اللام لأنه ممنوع من الصرف

(٢) تقدم في الجزء الثاني ؛

(٣) الآية ١٠ سورة المنافقون ،

(٤) من أرجوزة للعجاج ، أولها :

الحمد لله الذي استقلّت

بإذنه السماء واطمأنت

وقبل الشاهد

يوم ترى النفوس ما أعدّت

من نزل إذا الأمور غبّت

(٥) ورد بنصه في شعر المرقش الأكبر ، وفي شعر بشامة بن حزن النهشلي ؛ وأول قصيدة المرقش :

٤٦٢

وإنما جاز ذلك ، لانمحاء معنى التفضيل منهما ؛

وأمّا «حسنى» في قوله تعالى : (وقولوا للناس حسنَى) (١) ، فيمن قرأ بالألف (٢) ، و «سوآى» في قوله :

٦١١ ـ ولا يجزون من حسن بسوآى

ولا يجزون من غلظ بلين (٣)

فليسا بتأنيث أحسن وأسوأ ، بل مصدران ، كالرجعى والبشرى ؛

[عمل اسم التفضيل]

[ومسألة الكحل]

[قال ابن الحاجب :]

«ولا يعمل في مظهر إلا إذا كان لشيء ، وهو في المعنى لمسبّب»

«مفضل باعتبار الأول على نفسه باعتبار غيره ، منفيا ، نحو :»

«ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ،»

«لأنه بمعنى : حسن ، مع أنهم لو رفعوا ، لفصلوا بينه وبين»

«معموله بأجنبي ، وهو الكحل ؛ ولك أن تقول : أحسن في»

«عينه الكحل من عين زيد ؛ فإن قدّمت ذكر العين قلت»

«ما رأيت كعين زيد أحسن فيها الكحل ، مثل قوله :»

__________________

يا دار أجوارنا قومي فحيينا

وان سقيت كرام الناس فاسقينا

ومطلع قصيدة بشامة بن حزن :

إنا محيوك يا سلمى فحيينا

وإن سقيت كرم الناس فاسقينا

(١) الآية ٨٣ في سورة البقرة ،

(٢) يعني بالألف المقصورة ، وهي قراءة شاذة منسوبة لأبي طلحة كما في تفسير الألوسي ؛

(٣) من قصيدة لأبي الغول الطهويّ وتقدم منها في باب الظروف قوله :

ولا تبلى بسالتهم وإن هم

صلوا بالحرب حينا بعد حين

٤٦٣

«مررت على وادي السباع ولا أرى

كوادي السباع حين يظلم واديا»

«أقلّ به ركب أتوه تئية ..

وأخوف إلا ما وقى الله ساريا» ؛

[قال الرضى :]

اعلم أن مشابهة أفعل التفضيل للفعل ضعيفة ، وكذا الاسم الفاعل ، أيضا ، كما تقدم في الصفة المشبهة ، فلا يرفع الاسم الظاهر في الأعرف ، الأشهر ، إلا بشروط ، كما يجيئ ، وحكى يونس عن ناس من العرب ، رفعه بلا اعتبار تلك الشروط ، نحو : مررت برجل أفضل منه أبوه ، وبرجل خير منه عمله ، وليس ذلك بمشهور ؛

ويرفع المستتر الذي هو فاعله ، لأن مثل هذا العمل لا يحتاج إلى قوة العامل ؛ وأمّا المفعول به ، فكلهم متفقون على أنه لا ينصبه ، بل إن وجد بعده ما يوهم ذلك ، فأفعل دالّ على الفعل الناصب له ، قال الله تعالى : (هو أعلم مَن يضلُّ عن سبيله) (١) ؛ أي أعلم من كل واحد ، يعلم من يضل ، وكذا قوله :

٦١٢ ـ أكرّ وأحمى للحقيقة منهم

وأضرب منا بالسيوف القوانسا (٢)

ولا ينصب شبه المفعول به ، كالحسن الوجه ؛ إمّا لأنه لا ينصب المفعول به فلا ينصب شبهه ، وإمّا لأن نصب ذلك في الصفة فرع الرفع ، كما مرّ ، وهو توطئة للإضافة إلى ما كان مرتفعا به ، وهو لا يرفع الظاهر إلا بالشروط التي تجيئ ، وإن رفع ذلك ؛ لا يضاف إليه ؛

هذا ؛ ويتعدّى أفعل التفضيل إلى المفعول به الذي كان للفعل قبل بناء أفعل التفضيل ، باللام ، نحو : أضرب منك لزيد ، وذلك لضعف مشابهته للفعل واسم الفاعل ؛ وإذا

__________________

(١) الآية ١١٧ من سورة الأنعام.

(٢) من قصيدة للعباس بن مرداس السلمي وهي إحدى القصائد المنصفات أي التي أنصف الشعراء فيها أعداءهم فلم ينكروا مالهم من مزايا ، وقبل هذا البيت في وصف أعدائهم الذين اشتركوا معهم في حرب :

فلم أر مثل الحيّ حيا مصبّحا

ولا مثلنا حين التقينا فوارسا

والقوانس جمع قونس وهو العظم الناتئ بين اذنى الفرس ؛

٤٦٤

جاز لك أن تدعم اسم الفاعل والمصدر ، باللام إذا تعديّا إلى المفعول نحو : ضربي لزيد شديد ، وأنا ضارب لزيد ، مع قوّتهما ، وجب عليك ذلك في الأفعل ، لضعفه ؛

وإن كان المفعول به لفعل يفهم منه معنى العلم أو الجهل ، تعدى إليه أفعل المصوغ منه بالياء ، نحو : أنا أعلم به ، وكذا : أدرى ، وأعرف ، وأجهل ، وذلك لأن أفعالها ربّما زيدت في مفعولها الباء ، نحو : علمت به وجهلت به ، وكذا : اسم الفاعل والمصدر نحو : أنا عالم به وجاهل به ؛

وإن كان المفعول به يتعدى إليه الفعل بحرف الجر ، تعدّى إليه الأفعل بذلك الحرف أيضا ، نحو : أنا أمرّ منك بزيد ، وأرمى منك بالنشّاب ؛

ويتعدّى إلى أوّل مفعولي باب : كسوت ، وعلمت ؛ باللام ، ويبقى ثانيهما في البابين [منصوبا (١) ،] نحو : أنا أكسى منك لعمرو الثياب ، وأعلم منك لزيد منطلقا ، وكان القياس أن يتعدّى إلى الثاني ، أيضا ، باللام ، إلّا أن الفعل لا يتعدّى بحرفي جرّ متماثلين لفظا ومعنى إلى شيئين من نوع واحد كمفعول بهما ، أو زمانين ، أو مكانين ، فإن لم يكونا من نوع واحد ، كقولك درت في البلد في يوم الجمعة ، جاز ؛ وقولك أقمت في العراق في بغداد ، أو في رمضان في الخامس منه ، بدل (٢) الجزء من الكل ، واستغني عن الضمير لشهرة الجزئيّة ، فإن اختلف معنيا الحرفين ، نحو : مررت بزيد بعمرو ، أي مع عمرو ، أو لفظاهما نحو : سرت من البصرة إلى الكوفة جاز ؛

وانتصاب ثانيهما المذكور ، عند الكوفيّين بأفعل ، نصبه بنفسه للاضطرار إليه ، وعند البصريين بفعل مدلول عليه بأفعل ، فيكون ثاني مفعولي أفعل ، والفعل مع مفعوله الأول محذوفين ، أي : أنا أكسى منك لعمرو ، أكسوه الثياب ، وأنا أعلم منك لزيد ، أعلمه منطلقا ، ولا يجوز إظهار المفعول المحذوف لأفعل ، بوجه ، لا منصوبا ، ولا مع اللام ؛

__________________

(١) زيادة لا بد منها وهي في بعض النسخ ؛

(٢) خبر عن قوله : وقولك أقمت إلى آخر الأمثلة أي أن الجار والمجرور الثاني بدل بعض من الجار والمجرور الأول ؛

٤٦٥

أما مع اللام فلما ذكرنا (١) ، وأما منصوبا فلأنه لا ينصب المفعول ، كما مرّ ،

وقال صاحب المغني (٢) : لا يجوز حذف أحد المفعولين دون الآخر في باب علمت ، فالأولى أن يقال : هو أشد منك علما زيدا منطلقا ، أو علما بأن زيدا منطلق ؛

قلت : أخصر من هذا كله وأبعد من التكلف : أعلم منك بانطلاق زيد ؛

وإن كان الفعل يفهم منه الحب أو البغض تعدّى إلى ما هو الفاعل في المعنى أي المحبّ أو المبغض بإلى ، نحو : هو أحبّ إليّ وأشهى إليّ وأعجب إليّ ، وهو أبغض إليك وأمقت إليك وأكره إليك ، لأن أفعالها تتعدّى إلى المحب والمبغض بإلى ، أيضا ، كقوله تعالى : (... حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) ، (٣) وهذه كلها بمعنى المفعول ، كأحمد وأشهر وأجنّ ، وقد مرّ أنه غير قياسيّ ؛

ويتعدّى إلى المفعول من أيّ فعل كان بمن ، كما تقدّم ، وهذا هو المفعول الحاصل لأفعل بصوغه على هذه الصيغة ،

وينصب أفعل التفضيل الظرف لاكتفائه برائحة الفعل ، والحال لمشابهته له (٤) ، نحو : زيد أحسن منك اليوم راكبا ، والتمييز ، نحو : أحسن منك وجها ، لأنه ينصبه ما يخلو عن معنى الفعل ، أيضا ، نحو : راقود خلّا ؛

قوله : «إلّا إذا كان لشيء .. إلى آخره» ؛ هذه شروط رفع أفعل التفضيل لفاعله الظاهر ، كما رفع أحسن ، الكحل في قولك : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ، فيعمل ، إذن ، الرفع قياسا مستمرّا بلا ضعف ؛

قوله : «لشيء» ، هو «رجلا» في المثال المذكور وذلك لأنه صفته ؛

__________________

(١) وهو امتناع تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد ،

(٢) منصور بن فلاح اليمني من علماء القرن السابع وتقدم ذكره ،

(٣) من الآية ٧ في سورة الحجرات

(٤) أي للظرف ،

٤٦٦

قوله : «وهو» أي أفعل ، «في المعنى لمسبّب» ، أي لمتعلّق لذلك الشيء والأظهر في اصطلاحهم : أن يقال في المتعلّق : السبب لا المسبّب ، وأحسن ، (١) في مثالنا ، لمتعلّق الرجل وهو الكحل ، فإن الأحسن في الحقيقة هو الكحل ، لا الرجل ، قوله : «مفضل» ، صفة لمسبّب ، أي ذلك المتعلّق الذي هو الكحل ، إذا اعتبرت الأول ، أي صاحب أفعل ، وهو «رجلا» في مثالنا : مفضل ، قوله : «على نفسه» ، الضمير للمسبّب ، أي : هو ، إذا اعتبرت الأول : مفضل ، وإذا اعتبرت غير ذلك الأول ، وهو في مثالنا : زيد ، يكون مفضلا عليه ، قوله : «منفيّا» صفة مصدر محذوف ، أي مفضّل تفضيلا منفيا ، أي لم يكن ذلك المتعلّق باعتبار الأول فاضلا وباعتبار الثاني مفضولا ، بل هو باعتبار الثاني فاضل ، وباعتبار الأول مفضول ، أو حاله باعتبار الأوّل مساوية لحاله باعتبار الثاني ، والمراد في مثل هذا المثال : أنه باعتبار الثاني فاضل ، وباعتبار الأول مفضول ، فالكحل الذي في عين زيد يفضل الكحل الذي في أعين جميع الرجال ، وإنما قلت : جميع الرجال مع أن لفظ «رجلا» في المثال المذكور مفرد ؛ لأنه نكرة في سياق النفي فتكون عامة ؛

إن قيل : كيف يتعلق قوله : باعتبار الأول ، وباعتبار غيره بقوله : مفضل ، وقد اتفق النحاة على أنه لا يتعدّى الفعل وشبهه بحرفين متماثلين إلى اسمين من نوع واحد ، كما مرّ ،

قلت : باعتبار الأول ، وباعتبار الثاني : حالان ، الأول من الضمير المرفوع في «مفضّل» ، والثاني من قوله : «نفسه» أي ملتبسا باعتبار الأول ، أو مقترنا به ، كما تقول : فضّلت زيدا راكبا على عمرو راجلا ،

ومعنى قوله : باعتبار الأول ، أي بالنظر إليه ، يقال : اعتبرت الشيء ، أي نظرت إليه وراعيت حاله ؛

قوله : «لأنه بمعنى حسن» ، قال المصنف : إنما لم يعمل أفعل ، لأنه لم يكن له فعل

__________________

(١) يعني لفظ أحسن في المثال

٤٦٧

من تركيبه بمعناه حتى يعمل عمل ذلك الفعل ، كما كان لاسم الفاعل ، واسم المفعول والصفة المشبّهة والمصدر ؛ وأحسن ههنا ، بمعنى حسن ، إذ المعنى : ما رأيت رجلا حسن في عينه الكحل حسنا مثل حسنه في عين زيد ، فعمل أفعل ، لأن له في هذا المكان فعلا بمعناه ؛

قلت : هذه العلة التي أوردها تطرد في جميع أفعل التفضيل ، فيلزمه ، اذن ، جواز رفعه للظاهر مطردا ، وذلك لأن معنى مررت برجل أحسن منه أبوه ، أي : حسن أبوه أكثر من حسنه ، كما أن معنى : أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد : حسن الكحل في عينه مثل حسنه في عين زيد ؛

قوله : «مع أنهم لو رفعوا ... إلى آخره» ، هذا تعليل سيبويه ، وهو أن «أفعل» إنما عمل ههنا مع ضعف مشابهته لاسم الفاعل ، للاضطرار إلى العمل ، لأنه لو لم يعمل ، لزم رفعه بالابتداء ، ويكون الكحل مبتدأ ؛ كما في قولك مررت برجل أحسن منه أبوه ، برفع أحسن والجملة صفة لرجل ، ولا يجوز ذلك ، لأن قولك : منه ، بعد الكحل ، متعلق بأحسن ، فتكون قد فصلت بين العامل الضعيف ومعموله بأجنبي ، ولا يجوز ذلك ؛ بلى ، قد يجوز ذلك ، في العامل القوي ، نحو : زيدا كان عمرو ضاربا ، وأعني ههنا بالأجنبي ما لا يكون من جملة معمولات ذلك العامل ، لا الذي لا تعلق له بذلك العامل بوجه ، كيف ، والكحل مبتدأ ، وأحسن خبره فله تعلق به من هذا الوجه ؛

وعند الكسائي والفراء : ليس الفصل ههنا بأجنبي ، لأن المبتدأ معمول عندهما للخبر ، كما ذكرنا في أول الكتاب ؛ (١)

فإن قلت : قدّم منه على الكحل حتى لا يلزم الفصل بين العامل والمعمول عند سيبويه بأجنبيّ ؛

قلت : يبقى الضمير في منه ، راجعا إلى غير مذكور ؛ وتعليل سيبويه يطرد مع كون الكلام مثبتا ، أيضا ، نحو : مررت برجل أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ،

__________________

(١) جاء ذلك في الجزء الأول من الكلام على العامل ؛

٤٦٨

ونقل الرمّاني (١) جواز ذلك في المثبت ، والسماع لم يثبت إلا في المنفي ، ولا منع أن يستعمل ذلك فيما يفيد النفي ، وإن لم يكن صريحا فيه ، نحو : قلّما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل ... ؛

قوله : «ولك أن تقول .. إلى آخره» ؛ يعني أن لك في مثل هذا المثال المضبوط بالضوابط المذكورة وجها أخصر من الأول ، وهو أن تحذف المفضول المجرور بمن ، وحرف الجر الداخل على الاسم الذي ذكرنا أنه غير الأول ، فتقول بدل قولك : منه في عين زيد ، من عين زيد ، وهو على حذف المضاف أي من كحل عين زيد ، لأنه يفضّل الكحل على الكحل لا الكحل على العين ، ومن التفضيلية تدخل على المفضول ؛

قوله : «وإن قدّمت ذكر العين ... إلى آخره» ؛ أي : لك عبارة ثالثة أخصر من الثانية ، وهي أن تقدّم الاسم الذي قلنا إنه غير الأول ، على أفعل التفضيل داخلا عليه آلة التشبيه ، وتحذف ما بعد السبب المرفوع من المفضول وغيره فتقول : ما رأيت كعين زيد ، أحسن فيها الكحل ؛ وجازت هذه المسألة وإن لم يكن فيها فصل ظاهر لو رفعت أفعل بالابتداء ، لأنها فرع الأولى ، ولأن «من» التفضيلية مع مجرورها مقدرة ههنا أيضا ، بعد السبب المرفوع ، وقولك : أحسن ، في هذه العبارة ، بدل من قولك كعين زيد ، أي عينا أحسن فيها الكحل ؛ وذلك أن معنى ، ما رأيت كعين زيد : أي عينا كعين زيد ، ولا زائدة عليها ، ومعنى ما رأيت أحسن منها ، أي أحسن منها ولا مثلها ، فحذف المعطوف ، في الموضعين ، اعتمادا على وضوح المعنى ، فقولك : ما رأيت كعين زيد ، أي رأيت كل عين أنقص من عين زيد ، وقولك ما رأيت أحسن من عين زيد : أي رأيت كل عين أنقص من عين زيد في الحسن ، فهذا بدل الكل من الكل ، أتى به للبيان ، لأن الأول مبهم ، لأنك ذكرت أن العيون أنقص من عين زيد ، ولم تذكر أن النقصان ، في أي شيء ، ولا يجوز أن يكون : أحسن فيها الكحل ؛ صفة لقولك : كعين زيد ، لأنه يكون في المعنى ،

__________________

(١) تقدم ذكره في هذا الجزء

٤٦٩

ما رأيت مثل عين زيد في حسن الكحل فيها زائدة عليها في حسن الكحل فيها ؛ وكيف يكون مثل الشيء في الوصف زائدا عليه في ذلك الوصف في حالة واحدة؟ وإنما استغنيت في هذه العبارة عمّا بعد المرفوع ، لدلالة قولك كعين زيد ، عليه ، لأن معناه ، كما قلنا ، ان كل عين دونها في حسن الكحل فيها ، وهذا هو المستفاد بعينه من قولك : .. أحسن فيها الكحل منه في عين زيد ؛ وقوله :

٦١٣ ـ «كوادي السباع حين يظلم واديا (١)» ؛

انتصاب واديا على أنه مفعول لأرى ، وقوله : كوادي السباع حال منه ، لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها ، انتصبت على الحاليّة ؛ ويجوز أن يكون عطف بيان لقوله كوادي السباع ، والكاف اسميّة ، ويجوز أن يكون تمييزا كقولك : عندي مثل زيد رجلا ، ويجوز أن يكون موصوفا بأقلّ ، بدلا من : كوادي السباع كما كان : أحسن في عينه الكحل ، بدلا من : كعين زيد ، والتقدير : أقلّ به ركب ، منهم بوادي السباع ، وأخوف به ركب منهم بوادي السباع ؛ قوله : ولا أرى ، الواو اعتراضيّة ، قوله : حين يظلم ، ظرف لمعنى الكاف ، أي : واديا يشبه وادي السباع وقت إظلامه ، و «ما» في قوله : ما وقى الله ، مصدرية على حذف مضاف أي وقت وقاية الله للسارين ، وهو ظرف لأخوف ، وهو بمعنى المفعول مثل أشهر وأحمد ؛ وقوله : تئيّة ، أي : تثبتا وتوقّفا ، وهو تفعلة من تركيب : أيّا ، كحيّا ، يقال : تأيّا (٢) ؛ أي تثبّت ، وهو منصوب على التمييز من «أقلّ» كما في

__________________

(١) أمّا شرح البيتين فقد وفاه الشارح ، وهما مذكوران في المتن ، وهما من شعر سحيم بن وثيل الرياحي ، قالوا : إنه مرّ بامرأة في أحد الوديان فراودها فقالت إن لم تكفّ دعوت لك سباع هذا الوادي فقال لها أو تسمعك السباع فرفعت صوتها قائلة : يا أسد ، يا فهد ، وغير ذلك من أسماء السباع فما هي إلا لحظات حتى أقبل فتيان يقولون : ما شأنك يا أماه فقالت لهم : هذا ضيفكم فأكرموه ولم تذكر لهم ما حدث سترا على نفسها ، فقال سحيم : ما أرى هذا الوادي إلّا وادي السباع ، فعرف الوادي بذلك ، والبيتان في سيبويه ج ١ ص ٢٣٣

(٢) هذه مادة اخرى على وزن تفعل ، أما المصدر المذكور في الشعر ففعله أيّا كما قال أولا ؛

٤٧٠

قولك : زيد أحسن منك ثوبا ، فيكون في المعنى فاعلا مضافا إلى المرفوع بأفعل ، أي أحسن ثوبه ، وأقلّ تئيّة ركب أتوه ؛

ولو عبّرت بالعبارة الأولى قلت : ولا أرى واديا أقلّ به ركب منهم بوادي السباع كقوله عليه الصلاة والسّلام : «ما من أيام أحبّ إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة» ؛ ولو عبّرت بالعبارة الثانية قلت : ولا أرى واديا أقلّ به ركب تئيّة من وادي السباع ؛

تمّ قسم الأسماء ، والحمد لله رب العالمين ؛

٤٧١
٤٧٢

الفهرس

الموصول

التعريف وشرحه............................................................... ٥

الصلة وشرطها والعائد وحكمه................................................... ٧

صلة الألف واللام........................................................... ١١

الأسماء الموصولة ، ألفاظها وما فيها من اللغات................................... ١٦

حذف العائد................................................................ ٢٤

الأخبار بالذي أو بالألف واللام............................................... ٢٩

استعمالات ما الاسمية........................................................ ٤٩

أوجه استعمال من............................................................ ٥٤

أيّ وصور استعمالها.......................................................... ٥٩

ماذا :

اعرابها وأوجه استعمالها........................................................ ٦٤

تكملة في ذكر أحكام للموصول تركها المصنف.................................. ٦٨

الحكاية بمن ، وما ، وأيّ...................................................... ٧١

أسماء الأفعال

أنواعها ، علة بنائها ، تنوينها.................................................. ٨٣

وزن فعال وأوجه استعماله.................................................... ١٠٧

الأصوات

أنواعها ، وأحكامها......................................................... ١١٧

٤٧٣

المركبات :

معنى المركب ، وصور التركيب................................................ ١٢٩

المركب العددي والمركب المزجي............................................... ١٣٥

الكنايات

معنى الكناية والغرض منها ، علة بناء الكنايات................................. ١٤٧

تمييزكم بنوعيها والفرق بينهما................................................. ١٥٣

مواقع كم من الاعراب...................................................... ١٥٨

حذف التمييز وأحكام أخرى................................................ ١٦٢

الظروف

بيان المقطوع منها عن الإضافة............................................... ١٦٧

الظروف المضافة إلى الجمل.................................................. ١٧١

معنى إذ وإذا :

استعمال إذا للمفاجأة...................................................... ١٨٤

من الظروف المبنية :

أين ، وأنّى ، وأيان ، ومتى ، وكيف........................................... ٢٠٢

مذ ومنذ :

معناهما واستعمالاتهما....................................................... ٢٠٨

لدى ولدن :

استعمالهما ـ اللغات في لدن.................................................. ٢٢٠

قط وعوض :

معناهما واستعمالاتهما....................................................... ٢٢٤

ظروف أخرى لم يذكرها ابن الحاجب......................................... ٢٢٦

الآن...................................................................... ٢٢٩

لما........................................................................ ٢٣٠

قولهم لهي أبوك............................................................. ٢٣١

مع واستعمالاتها............................................................ ٢٣٢

الظروف المضافة إلى الجمل.................................................. ٢٣٣

٤٧٤

المعرفة والنكرة

معنى المعرفة ، وحصر المعارف................................................ ٢٣٤

تفصيل الكلام على المعارف

العلم ـ تعريفه وأنواعه........................................................ ٢٤٥

الأوزان المستعملة في اصطلاحات العلوم....................................... ٢٥٠

ألفاظ العدد وحكمها في العلمية.............................................. ٢٥٤

الكلمات عند قصد ألفاظها................................................. ٢٥٥

العلم الاثقافي ، ومعنى الغلبة في الأعلام....................................... ٢٥٥

تنكير الأعلام وأثره......................................................... ٢٥٧

الكناية عن الأعلام......................................................... ٢٥٩

الكناية عن غير الأعلام..................................................... ٢٦٠

النقل والارتجال في الأعلام................................................... ٢٦٢

الاسم واللقب والكنية وحكمها عند الاجتماع.................................. ٢٦٤

التسمية بالمثنى والجمع....................................................... ٢٦٦

التسمية بالحروف والأفعال ، وبالمبني من الأسماء................................ ٢٦٨

حروف المعجم وإعرابها...................................................... ٢٧٠

التسمية بحرف واحد........................................................ ٢٧٢

صور أخرى من التسمية..................................................... ٢٧٥

أقوى المعارف.............................................................. ٢٧٨

النكرة

تعريفها وإفادتها الاستغراق................................................... ٢٧٩

مبحث العدد

العدد وتحديد معناه......................................................... ٢٨١

أصول العدد............................................................... ٢٨٢

تفصيل استعمال ألفاظ العدد ـ الواحد والاثنان................................. ٢٨٣

٤٧٥

استعمال الثلاثة والعشرة وما بينهما........................................... ٢٨٦

أحد عشر وأخواته.......................................................... ٢٩٤

اللغات في لفظ عشرة....................................................... ٢٩٤

عشرون وأخواته............................................................ ٢٩٥

الأعداد فوق العشرين....................................................... ٢٩٧

ثماني عشر وما فيها من اللغات............................................... ٢٩٨

تمييز الأعداد.............................................................. ٣٠٠

اعتبار اللفظ والمعنى في المعدود................................................ ٣٠٨

الواحد والاثنان لا يميّزان..................................................... ٣٠٨

تعريف العدد.............................................................. ٣٠٩

التغليب في تمييز العدد...................................................... ٣١٠

كيفية التاريخ.............................................................. ٣١٢

الاشتقاق من ألفاظ العدد................................................... ٣١٤

المذكر والمؤنث

تعريف المذكر والمؤنث ـ علامة التأنيث........................................ ٣٢١

المعاني التي تجيء لها التاء..................................................... ٣٢٤

أوزان يستوي فيها المذكر والمؤنث............................................. ٣٣٢

ألف التأنيث المقصورة وأشهر أوزانها........................................... ٣٣٣

الألف الممدودة وأشهر أوزانها................................................ ٣٣٦

المؤنث الحقيقي والمؤنث اللفظي............................................... ٣٣٨

الفعل المسند إلى المؤنث ـ وجوب التاء وجوازها فيه............................... ٣٤٠

المثنى

تعريفه.................................................................... ٣٤٧

المقصور والممدود ـ كيفية تثنيتهما............................................. ٣٥٢

حذف النون وتاء التأنيث................................................... ٣٥٨

من أحكام المثنى ـ حكم إضافة المثنى إلى متضمنه................................ ٣٦٠

وقوع المفرد موقع المثنى والجمع................................................ ٣٦٢

٤٧٦

الجمع

تعريف الجمع والفرق بين ما دل على متعدد كاسم الجمع واسم الجنس............. ٣٦٥

أنواع الجمع ـ جمع المذكر السالم............................................... ٣٦٩

شرط جمع المذكر........................................................... ٣٧١

حذف نون الجمع وما شذ جمعه بالواو والنون................................... ٣٧٨

جمع المؤنث السالم.......................................................... ٣٨٧

من أحكام المجموع بالألف والتاء............................................. ٣٩٢

جمع التكسير.............................................................. ٣٩٦

المصدر

تعريفه.................................................................... ٣٩٩

القياسي والسماعي من المصادر.............................................. ٤٠٠

عمل المصدر وما يتعلق به من أحكام......................................... ٤٠٢

اسم الفاعل

تعريفه ، وصيغه المختلفة..................................................... ٤١٣

عمل اسم الفاعل وشرطه.................................................... ٤١٥

صيغ المبالغة وأوزانها وعملها.................................................. ٤٢٠

حذف النون من اسم الفاعل المجموع.......................................... ٤٢٣

اسم المفعول............................................................... ٤٢٧

تعريفه ، وعمله ، وصيغه.................................................... ٤٢٧

الصفة المشبهة.............................................................. ٤٣١

تعريفها.................................................................... ٤٣١

صيغها ، وعملها........................................................... ٤٣٢

صور استعمال الصفة المشبهة وأحكامها....................................... ٤٣٤

٤٧٧

اسم التفضيل

أحكامه ، تعريفه........................................................... ٤٤٧

أوجه استعماله ومعنى كل وجه................................................ ٤٥٢

عمل اسم التفضيل ومسألة الكحل........................................... ٤٦٣

٤٧٨