شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

فيجوز ، بالاتفاق ، بناؤها وإعرابها ، أمّا الإعراب فلعدم لزومها للإضافة إلى الجملة ، فعلة البناء ، إذن ، عارضة ، وأمّا البناء فلتقوّي العلة العارضة بوقوع المبني الذي لا إعراب؟؟؟ لا ولا محلا ، موقع المضاف إليه الذي يكتسي منه المضاف أحكامه ، من التعريف غير ذلك ، كما في باب الإضافة ،

وإمّا ألّا تضاف إلى الجملة المذكورة ، وذلك بأن تضاف إلى الفعلية التي صدرها مضارع ، نحو قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)(١) ، أو إلى الاسمية ، سواء كان صدرها معربا أو مبنيا في اللفظ ، نحو : جئتك يوم أنت أمير ، إذ لا بدّ له من الإعراب محلا ؛ فعند البصريين لا يجوز في مثله إلا الإعراب في الظرف المضاف ، لضعف علة البناء ، وعند الكوفيين ، وبعض البصريين ؛ يجوز بناؤه ، اعتبارا بالعلة الضعيفة ، ولا حجة لهم فيما ثبت في السبعة (٢) من فتح قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ، لاحتمال كونه ظرفا ، والمعنى : هذا المذكور في يوم ينفع ؛ ولا في قوله تعالى : (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً) (٣) على قراءة الفتح ، لاحتمال كونه بدلا من قوله قبل : (يَوْمُ الدِّينِ)(٤)

وأمّا «غير» ، المضاف إلى ما صدره : أنّ ، أو : أن ، و «مثل» المضاف إلى ما صدره : ما ، فيجوز بالاتفاق منهم إعرابها وبناؤها ، قال الله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٥) ، ففتح «مثل» مع كونه صفة لحقّ ، أو خبرا بعد خبر لإنّ ، ويجوز أن يكون منصوبا ، لكونه مصدرا بمعنى : أنه لحقّ تحققا مثل حقيّة نطقكم ، وقال :

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال (٦) ـ ٢٢٨

ففتح غير ، مع كونه فاعلا ليمنع ، ويجوز أن يكون بناؤه لتضمنه معنى «الا» كما مرّ في باب الاستثناء ،

__________________

(١) الآية ١١٩ سورة المائدة وتقدمت قريبا ؛

(٢) هي قراءة نافع فقط من القراء السبعة ؛

(٣) الآية ١٩ سورة الانفطار ؛

(٤) أي في قوله تعالى قبل ذلك : يصلونها يوم الدين

(٥) الآية ٢٣ سورة الذاريات وتقدمت ؛

(٦) تقدم ذكره قريبا وفي باب الاستثناء في الجزء الثاني ؛

١٨١

وعلة بنائهما : مشابهتهما لإذ ، وإذا ، وحيث ، لأنهما مضافان من حيث المعنى إلى مصدر ما وليهما ، ولأن فيهما الإبهام مثلها لفقد الحصر ، كما مرّ ، والمبني ، وهو : ما ، وأنّ ، وأن ، واقع موقع ما أضيفا إليه ؛

ولو ثبت ما نقل الكوفيون من إضافة الظروف إلى ما صدره «أن» المشددة أو المخففة ، لجاز إعرابها وبناؤها نحو مثل ، وغير ؛

وكذا يجوز اتفاقا بناء الظروف المتقدمة على «إذ» ، نحو : حينئذ ، وإعرابها ، قرئ قوله تعالى : (مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ)(١) ، بفتح يوم ، وجرّه (٢) ، أما الإعراب فلعروض علة البناء ، أعني الإضافة إلى الجمل ، وأمّا البناء فلوقوع إذ ، المبني موقع المضاف إليه لفظا ، كما بينّا ، فصار (٣) نحو قوله : على حين عاتبت المشيب ؛

فثبت بما بيّنا أن قوله : «والظروف المضافة إلى الجمل يجوز بناؤها» ، ليس ينبغي أن يكون على إطلاقه ؛

وقوله : ... مثل وغير ، مع ما ، وأن : أي : مثل» مع ما ، و «غير» مع أن ، مشدّدة ومخففة ؛ وهذا تمام الكلام على الظروف المضافة إلى الجمل ؛

وقال المصنف : بني «حيث» لأنه موضوع لمكان حدث تتضمنه الجملة ، فشابه الموصولات في احتياجه إلى الجمل ، وكذا قال في : إذ ، وإذا ؛

ويجوز أن يقال في «إذ» انه بني لأن وضعه وضع الحروف (٤) ، كما يقول بعضهم ؛ وبني «حيث» على الضم في الأشهر ، تشبيها بالغايات ، لأن إضافته كلا إضافة ، على ما ذكرنا ، وقد تفتح الثاء وتكسر ، وقد يخلف ياءها واو ، مثلثة الثاء أيضا ، وإعرابها لغة فقعسية ، وندرت إضافتها إلى المفرد ، قال :

__________________

(١) الآية ٦٦ سورة هود.

(٢) قرأ غير نافع والكسائي بكسر الميم ، والباقون بفتحها ؛

(٣) أي صار «يومئذ» ، وما أشبهه ، مثل قوله : على حين عاتبت في جواز الإعراب والبناء ؛

(٤) يرى بعض العلماء أن وضع الاسم على حرفين مطلقا ، من أسباب البناء ، وبعضهم يخص ذلك بأن يكون ثاني الحرفين معتلا ؛

١٨٢

٤٨٩ ـ ونطعنهم حيث الحبى بعد ضربهم

ببيض المواضي حيث ليّ العمائم (١)

وقال :

٤٩٠ ـ أما ترى حيث سهيل طالعا (٢)

وبعضهم يرفع «سهيل» على أنه مبتدأ ، محذوف الخبر ، أي حيث سهيل موجود ؛ وحذف خبر المبتدأ الذي بعد «حيث» غير قليل ؛

ومع الإضافة إلى المفرد ، يعربه بعضهم لزوال علة البناء ، أي الإضافة إلى الجملة ، والأشهر بقاؤه على البناء ، لشذوذ الإضافة إلى المفرد ؛

وترك إضافة «حيث» مطلقا ، لا إلى جملة ولا إلى مفرد : أندر ، وظرفيتها غالبة ، لا لازمة ، قال :

٤٩١ ـ فشدّ ولم يفزع بيوتا كثيرة

لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم (٣)

وكذا في قوله : أما ترى حيث سهيل ، وهو مفعول ترى ، وكذا قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ؛ (٤) وحكي : هي أحسن الناس حيث نظر ناظر ، أي وجها ، فهو تمييز ، وقال الأخفش : قد يراد به الحين (٥) ، كما في قوله :

٤٩٢ ـ للفتى عقل يعيش به

حيث تهدي ساقه قدمه (٦)

__________________

(١) قال الزمخشري : روى ابن الأعرابي بيتا آخره : حيث لي العمائم ، واقتصر على ذلك للاختلاف الكثير في بقية البيت وقد وردت العبارة أيضا في شعر لكثير عزة ؛ أما البيت بالصيغة التي هنا والتي وردت في معظم الكتب فلا يعرف قائله ؛ انظر عبارة الزمخشري في شرح ابن يعيش ٤ / ٩١.

(٢) بقيته : نجما يضيئ كالشهاب ساطعا ، أو : لامعا ؛ وهذا الرجز لم يعرف قائله ، وقد امتلأت به كتب النحو ؛

(٣) من معلقة زهير بن أبي سلمى في الجزء الذي يتحدث فيه عن الحصين بن ضمضم الذي كان قد امتنع من الاشتراك في الصلح ، والضمير الفاعل في قوله : فشدّ راجع للحصين يعني حمل على الرجل الذي أراد قتله ، ولم تفزع بيوت كثيرة أي لم يعلم كثير من الناس بما حدث وأم قشعم كناية عن الحرب أو كنية المنية ؛ وقصة ذلك طويلة جدا ؛

(٤) الآية ١٢٤ من سورة الأنعام ، وتقدمت ؛

(٥) فيكون ظرف زمان ؛

(٦) قال غير الأخفش انه لا مانع من بقاء حيث في البيت على أصلها من الظرفية المكانية ، لأن المعنى : أين سار ، والبيت آخر قصيدة لطرفة بن العبد. وقبله :

الهبيت لا فؤاد له

والثبيت ثبته فهمه

١٨٣

[معنى إذ وإذا]

[واستعمال إذا للمفاجأة]

[قال ابن الحاجب :]

«ومنها إذا ، وهي للمستقبل ، وفيها معنى الشرط ، فلذلك»

«اختير بعدها الفعل ، وقد تكون للمفاجأة ، فيلزم المبتدأ»

«بعدها ، وإذ لما مضى ، ويقع بعدها الجملتان» ؛

[قال الرضى :]

قد تقدم ههنا علة بنائها ، وذكرنا في المنصوب على شريطة التفسير ، الكلام في وقوع الجمل بعدها ، فنقول :

قد تكون «إذا» للماضي ، كإذ ، كما في قوله تعالى : (حتى إذا بلغ بين السدين) (١) ، و : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)(١) ، و : (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً)(١) ، كما أن «إذ» تكون للمستقبل كإذا ، كما في قوله تعالى : «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ (٢) ..» ، على أنه يمكن أن تؤوّل بالتعليلية ، وكما في قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ)(٣) ، ويمكن أن تكون من باب : (ونادى أصحاب الجنة) (٤) ؛

__________________

(١) الأجزاء الثلاثة من الآيتين ٩٤ ، ٩٦ في سورة الكهف.

(٢) الآية ١١ في سورة الأحقاف.

(٣) الآيتان ٧٠ ، ٧١ سورة غافر.

(٤) الآية ٤٤ سورة الأعراف.

١٨٤

وقد تكون «إذا» مع جملتها ، لاستمرار الزمان نحو قوله تعالى : (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا ...) (١) ، أي هذه عادتهم المستمرة ، ومثله كثير ، نحو قوله تعالى : «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا (٢) ..» ، و : (إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ..) (٣) ؛ والأصل في استعمال «إذا» ، أن تكون لزمان من أزمنة المستقبل مختص من بينها بوقوع حدث فيه مقطوع به ، والدليل عليه : استعمال «إذا» ، في الأغلب الأكثر في هذا المعنى ، نحو : إذا طلعت الشمس ، وقوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)(٤) ، ولهذا كثر في الكتاب العزيز استعماله ، لقطع علّام الغيوب سبحانه بالأمور المتوقعة ؛

وكلمة الشرط : ما يطلب جملتين يلزم من وجود مضمون أولاهما فرضا حصول مضمون الثانية ؛ فالمضمون الأول : مفروض ملزوم ، والثاني لازمه ،

فهذا المفروض وجوده قد يكون في الماضي ، فإن كان مع قطع المتكلم بعدم لازمه فيه ، فالكلمة الموضوعة له «لو» ، وإن لم يكن مع قطع المتكلم ، بعدمه ، استعمل فيه «إن» ، لا على أنها موضوعة له كما يجيئ ، فلهذا كان «لو» لانتفاء الأول لانتفاء الثاني كما يجيئ في حروف الشرط ، لأن مضمون جوابه المعدوم لازم لمضمون شرطه ، وبانتفاء اللازم ينتفي الملزوم ،

وقد يكون في المستقبل ، وقد وضعت له «ان» ، ولا يكون معنى الشرط في اسم الا بتضمن معناها ؛

فلو ، موضوعة لشرط مفروض وجوده في الماضي مقطوع بعدمه فيه ، لعدم جزائه ، وان ، موضوعة لشرط مفروض وجوده في المستقبل ، مع عدم قطع المتكلم ، لا بوقوعه فيه ، ولا بعدم وقوعه ، وذلك لعدم القطع في الجزاء ، لا بالوجود ولا بالعدم ، سواء شكّ

__________________

(١) الآية ١١ سورة البقرة.

(٢) الآية ١٤ سورة البقرة ، وهي أيضا من الآية ٧٦ في السورة نفسها ؛

(٣) الآية ٩٢ سورة التوبة.

(٤) أول سورة التكوير ؛

١٨٥

في وقوعه ، كما في حقنا ، أو لم يشكّ كالواقعة في كلامه تعالى ؛

وقد تستعمل «ان» الشرطية في الماضي على أحد ثلاثة أوجه ، امّا على أن يجوّز المتكلم وقوع الجزاء ، ولا وقوعه (١) فيه ، كقوله تعالى : «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ» ؛ (٢) وإمّا على القطع بعدمه فيه ، وذلك المعنى الموضوع له «لو» ، كقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ)(٣) ، وإما على القطع بوجوده نحو : زيد وإن كان غنيا لكنه بخيل ، وأنت ، وإن أعطيت جاها : لئيم ؛ واستعمالها في الماضي على خلاف وضعها ولا تستعمل فيه ، في الأغلب ، إلا وشرطها «كان» لما يأتي في الجوازم ، وقد تستعمل «لو» في المستقبل بمعنى «ان» ، وقد تكون ، أيضا للاستمرار كما ذكرنا في «إذا» ، قال عليه الصلاة والسّلام : «لو أن لابن آدم واديين من ذهب ، لابتغى إليهما ثالثا» ، فنقول : (٤)

لما كان «إذا» موضوعا للأمر المقطوع بوجوه ، في اعتقاد المتكلم ، في المستقبل ، لم يكن للمفروض وجوده ، لتنافي القطع والفرض في الظاهر ، فلم يكن فيه معنى «ان» الشرطية ، لأن الشرط ، كما بيّنا ، هو المفروض وجوده ؛ لكنه لما كان ينكشف لنا الحال كثيرا في الأمور التي نتوقعها قاطعين بوقوعها ، على خلاف (٥) ما نتوقعه ، جوّزوا تضمين «إذا» معنى «إن» ، كما في «متى» وسائر الأسماء الجوازم ؛

فيقول القائل : إذا جئتني فأنت مكرم ، شاكّا في مجيئ المخاطب غير مرجح وجوده على عدمه ؛ بمعنى : متى جئتني : سواء ؛

لكن اضمار «ان» قبل «متى» وسائر الأسماء الجوازم ، على ما هو مذهب سيبويه في أسماء الشرط ، صار بعد العروض ، عريقا ثابتا ، إذ لم توضع في الأصل لزمان يقطع

__________________

(١) أي عدم وقوعه.

(٢) الآية ٢٦ سورة يوسف.

(٣) الآية ١١٦ سورة المائدة.

(٤) ما تقدم كان تمهيدا للكلام على إذا ؛

(٥) يعني ينكشف الحال على خلاف ..

١٨٦

المتكلم بوقوع الفعل فيه ، كما وضعت «إذا» ، فجاز أن يرسخ الفرض الذي هو معنى الشرط في الحدث الواقع فيها ، وامّا «إذا» ، فلما كان حدثه الواقع فيه مقطوعا به في أصل الوضع لم يرسخ فيه معنى «ان» الدالة على الفرض ، بل صار عارضا على شرف الزوال ، فلهذا لم يجزم إلا في الشعر ، مع إرادة معنى الشرط وكونه بمعنى «متى» ، قال :

٤٩٣ ـ ترفع لي خندف والله يرفع لي

نارا ، إذا خمدت نيرانهم تقد (١)

وقال :

٤٩٤ ـ إذا قصرت أسيافنا كان وصلها

خطانا إلى أعدائنا فنضارب (٢)

ومن جهة عروض معنى الشرط فيها ، لم يلزم ، عند الأخفش ، وقوع الفعلية بعدها ، كما مر في المنصوب على شريطة التفسير ؛

ولما كثر دخول معنى الشرط في «إذا» ، وخروجه عن أصله من الوقت المعين ، جاز استعماله ، وإن لم يكن فيه معنى «ان» الشرطية وذلك في الأمور القطعية ، استعمال (٣) «إذا» المتضمنة لمعنى «إن» ، وذلك بمجيئ جملتين بعده على طرز الشرط والجزاء ، وإن لم يكونا شرطا وجزاء ؛ كقوله تعالى : (إذا جاء نصر الله والفتح) (٤) ، إلى قوله «فسبّح» ، كما أنه لما كثر وقوع الموصول متضمنا معنى الشرط ، فجاز دخول الفاء في خبره : جاز دخول الفاء في الخبر وإن لم يكن في الأول معنى الشرط ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى قوله : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ)(٥) ، وقوله تعالى : «وَما

__________________

(١) خندف بكسر الخاء والدال قبيلة الفرزدق ، والبيت له ، والشاهد فيه من حيث إن قوله تقد ، فعل مضارع مجزوم والكسرة للروي ، وهكذا أورده سيبويه ١/ ٤٣٤ ويرويه بعضهم : إذا ما خبت نيرانهم .. والصواب ما هنا ؛

(٢) البيت بهذه الرواية من قصيدة جيدة لقيس بن الخطيم يذكر فيها يوم بعاث الذي كان قبل الإسلام ، أولها :

أتعرف رسما كاطراد المذاهب

لعمرة وحشا غير موقف راكب

ووقع مثل هذا في بيت مرفوع الروي لشاعرين آخرين ؛

(٣) متعلق بجاز استعماله ، وهو مفعول مطلق للمصدر السابق ؛

(٤) سورة النصر.

(٥) الآية ١٠ سورة البروج ، ولم يترك بين الجزأين إلا قوله ثم لم يتوبوا ؛

١٨٧

أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ» (١) ، لأن الفتن (٢) ، والإفاءة ، متحققا الوجود في الماضي ، فلا يكون فيهما معنى الشرط الذي هو الفرض ، ومنه أيضا ، قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ ، فَمِنَ اللهِ)(٣) ، والفاء في مثل هذه المواضع في الحقيقة زائدة ؛

وإنما رتب «إذا» والموصول ، في الآيات المذكورة والجملتان بعده ، ترتيب كلمة الشرط وجملتي الشرط والجزاء ، وإن لم يكن فيهما معنى الشرط ليدل هذا الترتيب على لزوم مضمون الجملة الثانية لمضمون الجملة الأولى لزوم الجزاء للشرط ، ولتحصيل هذا الغرض ، عمل في «إذا» جزاؤه مع كونه بعد حرف لا يعمل ما بعده فيما قبله ، كالفاء في : فسبّح ، وانّ ، في قولك : إذا جئتني فإنك مكرم ، ولام الابتداء في نحو قوله تعالى : (.. أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)(٤) ، كما عمل ما بعد الفاء وإنّ في الذي قبلهما في نحو : أمّا يوم الجمعة فإن زيدا قائم ، وأمّا زيدا فإني ضارب ، للغرض الداعي إلى هذا الترتيب ، كما يجيئ في حروف الشرط ؛

فإذا تقرّر هذا قلنا ، العامل في «متى» وكل ظرف فيه معنى الشرط : شرطه ، على ما قال الأكثرون ، ولا يجوز أن يكون جزاءه ، على ما قال بعضهم ، كما لا يجوز في غير الظرف ، على ما مرّ ، ألا ترى أنك لا تقول : أيّهم جاءك فاضرب بنصب أيّهم ، على ما مضى في الكنايات ،

ولو جاز ، أيضا ، عمل الجزاء في أداة الشرط ، لقلنا : الشرط أولى ، لأنهما فعلان توجها إلى معمول واحد (٥) والأقرب أولى بالعمل فيه على ما هو مذهب البصريين ، ولو كان العامل ههنا هو الأبعد ، كما هو اختيار الكوفيين لكان الإختيار شغل الأقرب بضمير المفعول عند أهل المصرين ، كما في : زارني ، وزرته زيد ، فكان الأولى ، إذن ، أن

__________________

(١) الآية ٦ سورة الحشر ؛

(٢) مصدر فتن في الآية السابقة ؛

(٣) الآية ٥٣ سورة النحل.

(٤) الآية ٦٦ سورة مريم.

(٥) جرى في هذا على ما رجحه في باب التنازع من جواز التنازع في المتقدم المنصوب ؛

١٨٨

يقال : متى جئتني فيه ، أو جئتنيه ، ولم يسمع ؛

وأما الاستدلال على كون الشرط في مثله هو العامل ، بمجيئ الجواب في بعض المواضع بعد «إنّ» أو اللام ، أو الفاء ، نحو : متى جئتني فانك مكرم ، و : فأنت مكرم ، و : فلأنت مكرم ، فممّا (١) لا يتم ، لأن تقديم الاسم لغرض وهو تضمنه معنى الشرط الذي له الصدر ، يجوّز مثل هذا الترتيب ، كما مرّ آنفا ؛

وأمّا العامل في «إذا» ، فالأكثرون على أنه جزاؤه ، وقال بعضهم : هو الشرط ، كما في «متى» وأخواته ؛ والأولى أن نفصّل ، ونقول : إذا تضمّن «إذا» معنى الشرط فحكمه حكم أخواته من «متى» ونحوه ، وإن لم يتضمّن ، نحو : إذا غربت الشمس : جئتك ، بمعنى : أجيئك وقت غروب الشمس ، فالعامل فيه هو الفعل الذي في محل الجزاء استعمالا ، وإن لم يكن جزاء في الحقيقة ؛ دون الذي في محل الشرط ، إذ هو مخصص للظرف ، وتخصيصه له إمّا لكونه صفة له ، أو لكونه مضافا إليه ، ولا ثالث ، استقراء ، ولا يجوز أن يكون وصفا ، إذ لو كان وصفا ، لكان الأولى : الإتيان فيه بالضمير كما تقدم في الموصولات ، ولم يأت في كلام ، فتخصيصه له ، إذن ، بكونه مضافا إليه ، كما في سائر الظروف المتخصصة بمضمون الجمل التي بعدها ، لا على سبيل الوصفية ، كقوله تعالى : (يوم يجمع الله الرسل) (٢) ، وغير ذلك ؛

ولو سلمنا ، أيضا ، أنه صفة ، قلنا لا يجوز عمل الوصف في الموصوف ، كما لا يعمل المضاف إليه في المضاف ، وذلك أن كل كلمتين أو أكثر ، كانتا في المعنى بمنزلة كلمة واحدة ، بمعنى وقوعهما معا جزء كلام ، يجوز أن تعمل أولاهما في الثانية ، كالمضاف ، في المضاف إليه ، ولا يجوز العكس ، إذ لم يعهد كلمة واحدة بعض أجزائها مقدّم من وجه ، مؤخر من آخر ، فكذلك : ما هو بمنزلتها في المعنى. فمن ثمّ لم تعمل صلة في موصول ، ولا تابع في متبوع ، ولا مضاف إليه في مضاف ، أما كلمة الشرط إذا عمل

__________________

(١) جواب قوله : وأما الاستدلال ...

(٢) الآية ١٠٩ سورة المائدة ؛

١٨٩

فيها الشرط ، فليست مع الشرط ككلمة واحدة إذ لا يقعان ، إذن ، موقع المفرد ، كالفاعل والمفعول والمبتدأ ونحوها ؛ فيجوز عمل كل واحد منهما في الآخر ، نحو : متى تذهب أذهب ، و : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(١).

بلى ، إن لم يعمل الشرط في كلمته ، نحو : من قام قمت ، جاز وقوعهما موقع المبتدأ ، على ما هو مذهب بعضهم ؛

فإذا تقرّر هذا ، قلنا : إن الفاء في قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) إلى قوله : (فَسَبِّحْ)(٢) ، زائدة ، زيدت ليكون الكلام على صورة الشرط والجزاء ، للغرض المذكور ، وإنما حكمنا بزيادتها ، لأن فائدتها التعقيب ، كما ذكرنا ، من أن السببية لا تخلو من معنى التعقيب ، و : (إِذا جاءَ) ظرف للتسبيح فلا يكون التسبيح عقيب المجيئ ، بل في وقت المجيئ ؛

وقال المصنف في شرح المفصل (٣) : إن تعيين الوقت في «إذا» يحصل بمجرد ذكر الفعل بعده ، وإن لم يكن مضافا إليه ، كما يحصل في قولنا : زمانا طلعت فيه الشمس ؛

وفيه نظر ، لأنه إنما حصل التخصيص به لكونه صفة له ، لا لمجرد ذكره بعده ، ولو كان مجرد ذكر الفعل بعد كلمة «إذا» يكفي لتخصيصها ، لتخصص «متى» في : متى قام زيد ، وهو غير مخصّص ، اتفاقا منهم ؛

وأمّا استدلاله على عمل الشرط في «إذا» بقوله تعالى : (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)(٤) ، وأن الجواب لو كان عاملا ، لكان المعنى : لسوف أخرج وقت الموت فكان ينبغي أن يكون الاخراج والموت في وقت ؛

__________________

(١) الآية ١١٠ سورة الإسراء ، وتكرر ذكرها ؛

(٢) سورة النصر وتقدمت قبل قليل ؛

(٣) لابن الحاجب شرح على المفصل للزمخشري اسمه الإيضاح والرضى ينقل منه ويناقش ابن الحاجب ، وتكررت الإشارة إليه ؛

(٤) الآية ٦٦ من سورة مريم وتقدمت قريبا ؛

١٩٠

فالجواب : أن المعطوف مع واو العطف محذوف في الآية ، لقيام القرينة ، والمعنى : أئذا ما مت وصرت رميما : أبعث ، أي مع اجتماع الأمرين ، كما قال تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)(١) ، وكثير في القرآن مثله ؛

واستدلّ ، أيضا ، بنحو قولهم : إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا ؛

والجواب : أن «إذا» هذه بمعنى «متى» فالعامل شرطها ، أو نقول : المعنى : إذا جئتني اليوم ، كان سببا لإكرامي لك غدا ، كما قيل في نحو : إن جئتني اليوم فقد جئتك أمس ، أن المعنى : إن جئتني اليوم يكن جزاء لمجيئي إليك أمس ؛

ولعدم عراقة «إذا» في الشرطية ورسوخها فيها ، جاز مع كونها للشرط ، أن يكون جزاؤها اسمية بغير فاء ، كما في قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا ، هُمْ يَغْفِرُونَ)(٢) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)(٣) ، ولا منع من كون «هم» في الآيتين : تأكيدا للواو ، والضمير المنصوب في أصابهم ؛

ولعدم عراقتها أيضا جاز ، وإن كان شاذا ، مجيئ الاسمية الخالية عن الفعل بعدها في قوله :

فهلّا أعدّوني لمثلي ، تفاقدوا

إذا الخصم أبزى مائل الرأس انكب(٤) ـ ١٥٤

قيل : ليس في «إذا» في نحو قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى)(٥) ، معنى الشرط إذ جواب الشرط : إمّا بعده ، أو مدلول عليه بما قبله ، وليس بعده ما يصلح للجواب ، لا ظاهرا ، ولا مقدّرا ، لعدم توقف معنى الكلام عليه ، وليس ههنا ما يدل على جواب الشرط قبل «إذا» إلّا القسم ، فلو كان «إذا» للشرط ، كان التقدير : إذا يغشى :

__________________

(١) الآية ٤٧ سورة الواقعة.

(٢) الآية ٣٧ سورة الشورى.

(٣) الآية ٣٩ سورة الشورى ؛

(٤) تقدم ذكره في الجزء الأول.

(٥) أول سورة الليل ؛

١٩١

أقسم ، فلا يكون القسم منجزا ، بل معلقا بغشيان الليل ، وهو ضد المقصود ، إذ القسم بالضرورة حاصل وقت التكلم بهذا الكلام وإن كان نهارا ، غير متوقف على دخول الليل ،

فإن قيل : فإذا كان ظرفا مجرّدا ، فأيش (١) ناصبه؟

قلت : قال المصنف : ناصبه حال من الليل ، أي : والليل حاصلا وقت غشيانه ؛

ولي فيه نظر ، إذ لا شيء هنا يقدّر عاملا في «حاصلا» إلا معنى القسم ، فهو حال من مفعول «أقسم» فيكون الاقسام في حال حصول الليل ، كما أن المرور في قولك مررت بزيد صارخا : في حال صراخه ، وحصول الليل في وقت غشيانه ، لأن وقت غشيانه ظرف له ، كما أن الخروج في قولك : خرجت وقت دخولك : في وقت دخول المخاطب ، فيكون الاقسام حال غشيان الليل ، وهو فاسد ، كما مرّ ؛

وأيضا ، في قوله تعالى : (والقمر إذا اتَّسق) (٢) ، يلزم أن يكون الزمان حالا من الجثة ، ولا يجوز ، كما لا يجوز أن يكون خبرا عنها ؛

وقيل : «إذا» بدل من المقسم به مخرج عن الظرفية ، أي : وقت غشيان الليل ؛ وفيه نظر من وجهين : أحدهما من حيث إن إخراج «إذا» عن الظرفية قليل ، والثاني أن المعنى : بحقّ القمر متسقا ، لا بحق وقت اتساق القمر ؛ وليس يبعد أن يقال هو ظرف لما دلّ عليه القسم من معنى العظمة والجلال ، لأنه لا يقسم بشيء إلّا لحاله العظيمة ، فتعلقه بالمصدر المقدر ، على ما ذكرنا في المفعول معه ، من جواز عمله مقدرا عند قوة الدلالة عليه ، وخاصة في الظرف ، فإنه يكتفي برائحة الفعل وتوهمه ، كما هو مشهور ، فالتقدير : وعظمته إذا اتسق ، فهو كقولك : عجبا من زيد إذا ركب ؛ أي من عظمته ، والظرف ههنا لا يصلح أن يكون معمولا لإنشاء التعجب ، كما لم يصلح هناك لكونه معمولا ، لإنشاء القسم ، فأضمر العظمة ، إذ لا يتعجب إلا من عظيم ، كما لا يقسم إلا بعظيم في معنى من المعاني ؛

__________________

(١) تكررت الإشارة إلى ضعف هذا الاستعمال ومعناه : أي شيء ؛

(٢) الآية ١٨ سورة الانشقاق.

١٩٢

وإذا جاء «إذا» بعد «حتى» كقوله تعالى : «حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ (١) ...» ، فهو باق على ما كان عليه من طلب الجملتين ، منتصب بأخراهما ، كما مرّ ، وحتى ، تكون معها حرف ابتداء ، إذ ليس معنى كونها حرف ابتداء : أنه يقع المبتدأ بعدها ، فقط ، بل معناه أنه يستأنف بعدها الكلام ، سواء كانت الجملة اسمية أو فعلية ، كقوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ)(٢) ، بالرفع ، وتقول : سرت حتى يكل الناس (٣) ؛

وقال بعضهم : يجوز أن يتجرد ، بعد حتى ، عن الشرطية ، وينجرّ بحتى ولعلّه حمله عليه قوله :

٤٩٥ ـ حتى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلّا كما تطرد الجمّالة الشردا (٤)

وهذا البيت آخر القصيدة ؛ ويجوز أن يقال : ان جوابه مقدر. محافظة على أغلب أحوالها ؛

وقال الميداني : (٥) «إذا» فيه زائدة ؛ ولنا عن ارتكاب زيادته مندوحة إذ حذف الجزاء لتفخيم الأمر : غير عزيز الوجود ، كما في قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)(٦) ، أي تكون أمور لا يقدر على وصفها ؛

وعن بعضهم أن «إذا» الزمانية تقع اسما صريحا في نحو : إذا يقوم زيد ، إذا يقعد

__________________

(١) الآية ٣٤ سورة غافر.

(٢) من الآية ٢١٤ سورة البقرة ؛

(٣) هذا كقول امرئ القيس :

سريت بهم حتى تكلّ مطيهم

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

(٤) قول الشارح ان البيت آخر القصيدة ترجيح لتجرد إذا عن الشرطية ، واستدرك عليه بأنه لا بأس من تقدير الجواب كما قال. والبيت آخر أبيات لعبد مناف بن ربع من بني هذيل ؛ يصف وقعة سميت بيوم أنف ، واسلكوهم أي ادخلوهم وروى سلكوهم ، وقتائدة اسم ثنية في مكان المعركة. والجمالة : الذين يرعون الجمال ، والشرد جمع شرود ؛

(٥) الميداني هو أحمد بن محمد بن أحمد الميداني النيسابوري ، صاحب مجمع الأمثال ، وله مصنفات في النحو والصرف توفي سنة ٥١٨ ه‍ ، وله ابن اسمه سعيد ، اشتهر أيضا بالميداني ؛

(٦) أول سورة الانشقاق.

١٩٣

عمرو ، أي : وقت قيام زيد : وقت قيام عمرو ؛ وأنا لم أعثر لهذا على شاهد من كلام العرب ، وأمّا قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)(١) ؛ فإذا الأولى زمانية ، والثانية للمفاجأة ، في مكان الفاء ، كما يجيئ في باب الشرط ؛

قوله : «وقد تقع للمفاجأة ، فيلزم المبتدأ بعدها» ، وقد ذكرنا الخلاف في «إذا» المفاجأة في باب المبتدأ ، وأن الأقرب كونها حرفا ، فلا محلّ لها ، والتي تقع جوابا للشرط : للمفاجأة ، كما يجيئ في حروف الجزم ؛

والكوفيون يجوّزون نحو : خرجت فإذا زيد القائم بنصب القائم ، على أن زيدا مرفوع بالظرف ، كما في نحو : في الدار زيد ، لأن «إذا» المفاجأة عندهم ظرف مكان ، أمّا نصب القائم ، فقالوا : لأن «إذا» المفاجأة ، تدل على معنى «وجدت» فتعمل عمله ، لأن معنى مفاجأتك الشيء : وجدانك له فجأة ، فالتقدير : خرجت فوجدت زيدا القائم ، والقائم ثاني مفعوليه ؛

ومنه قول الكسائي في المناظرة التي جرت بينه وبين سيبويه في مثل قولهم : كنت أظن أن العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو إياها : لا يجوز (٢) إلا إياها ، وقال سيبويه : لا يجوز إلا : فإذا هو هي ، لأن «إذا» المفاجأة يجب الابتداء بعدها ؛

قال الزجاجيّ (٣) مشنعا على الكوفيين : فإذا ، عندهم ، كالنعامة ، قيل لها : احملي فقالت أنا طائر ، وقيل لها طيري قالت أنا جمل ، إن كانت «إذا» عندهم كسائر الظروف.

لزمهم أن يرفعوا بعدها اسما واحدا ، وان أعملوها عمل : «وجدت» ، طالبناهم بفاعل

__________________

(١) الآية ٢٥ سورة الروم.

(٢) هكذا جاء في النسخة المطبوعة ولا شك أنه تحريف بزيادة «لا» فالمعروف من القصة أن الكسائي جوّز الوجهين ، والقصة معروفة وتمتلئ بها كتب النحو والتراجم ؛

(٣) أبو القاسم : عبد الرحمن بن اسحاق الزجاجيّ بياء النسب في آخره ، منسوب إلى الزجاج لأنه كان ملازما له ، وتقدم ذكره في هذا الشرح ؛

١٩٤

ومفعولين ؛ قال (١) : بلى ، يجوز : فإذا عمرو قائما ، على أن «إذا» خبر ، وقائما : حال ، أي : فبالمكان عمرو قائما ، وأمّا مع المعرفة ، فلا يجوز ، عند البصريين إلا الرفع على أنه خبر ؛

وقال ثعلب (٢) ، اعتذارا للكوفيين في نحو. فإذا هو إياها : أن «هو» عماد ، وإذا ، كوجدت مع أحد مفعوليه ، كأنه قال : فوجدته هو إياها ، كقوله :

٤٩٦ ـ فأضحى ولو كانت خراسان دونه

رآها مكان السّوق أو هي أقربا (٣)

أي : رآها هي أقرب ؛ فقال الزجاجي ، ليس هذا قول الكوفيين ، ولا البصريين ، قال : وأظن الحكاية في هذا عن ثعلب ، غلط ، لأن العماد (٤) عند أهل المصرين لا يكون إلا فضلة يجوز اسقاطها ، ولا يجوز اسقاط «هو» في مسألتنا ، أصلا ؛ هذا آخر كلام الزجاجيّ ؛

ويمكن أن يقال : ان الفصل لم يوجد في كلام العرب إلا إذا كان خبر المبتدأ معرفا باللام ، أو أفعل التفضيل ، وفي الإتيان به مع غيرهما نظر ، كما مرّ في باب الضمائر ، وقوله : أو هي أقربا ، بمعنى : أو هي في مكان أقرب فهو نصب على الظرف ؛

وقد تقع «إذ» و «إذا» في جواب : بينا ، وبينما ؛ وكلتاهما ، إذن ، للمفاجأة ، والأغلب مجيئ «إذ» في جواب بينما ، وإذا ، في جواب بينا ، قال :

٤٩٧ ـ فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف (٥)

__________________

(١) قال : أي الزجاجيّ ، استدراكا على ما تقدم ؛

(٢) أبو العباس أحمد بن يحيى الشهير بثعلب من زعماء الكوفيين وتقدم ذكره ، وقد يذكره الرضى باسمه ؛

(٣) من أبيات قالها عبد الله بن الزبير الأسدي : الزبير بفتح الزاي وكسر الباء ، قالها حين قدم الحجاج الكوفة ، وحث الناس على قتال المهلب بن أبي صفرة وتوعدهم بقتل من يتأخر ، والحديث في البيت عن شخص يصفه الشاعر بأنه لما سمع كلام الحجاج اهتم بالامتثال حتى إنه أصبح يرى أن مكان الحرب وهو خراسان مثل مكان السوق ، أو هو أقرب منه ؛

(٤) المراد به صيغة الضمير الذي يسمونه فصلا وعمادا.

(٥) أحد بيتين قالتهما خرفة ، ابنة النعمان بن المنذر بعد أن ضاع مجدهم ، والبيت الثاني : ـ ـ

١٩٥

ولا يجيئ بعد «إذ» المفاجأة إلا الفعل الماضي ، وبعد «إذا» المفاجأة الا الاسمية ، وكان الأصمعي (١) ، لا يستفصح إلا تركهما في جواب بينا وبينما ، لكثرة مجيء جوابهما بدونهما ؛ والكثرة لا تدل على أن المكثور غير فصيح ، بل تدل على أن الأكثر أفصح ، ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي ، رضي الله عنه ، وهو من الفصاحة بحيث هو : «بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته» ؛ (٢)

ولما قصد إلى إضافة «بين» اللازم إضافته إلى مفرد ، إلى جملة ، والإضافة إلى الجملة كلا إضافة ، على ما تقدم ، زادوا عليه «ما» الكافة ، لأنها التي تكف المقتضى عن الاقتضاء ، أو أشبعوا الفتحة فتولدت ألف ، ليكون الألف دليل عدم اقتضائه للمضاف إليه ، لأنه كأنه وقف عليه ، والألف قد يؤتى به للوقف ، كما في : أنا ، والظنونا ؛ (٣)

وأصل «بين» أن يكون مصدرا بمعنى الفراق ، فتقدير : جلست بينكما ، أي مكان فراقكما ، وتقدير : فعلت ، بين خروجك ودخولك : أي زمان فراق خروجك ودخولك ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبين ، كما تبيّن ، مستعمل في الزمان ، والمكان ، وأمّا إذا كفّ بما ، أو الألف وأضيف إلى الجمل ، فلا يكون إلا للزمان ، لما تقدم من أنه لا يضاف من المكان إلى الجمل إلا «حيث» ؛

و «بين» في الحقيقة ، مضاف إلى زمان مضاف إلى الجملة ، فحذف الزمان المضاف ، والتقدير : بين أوقات زيد قائم ، أي بين أوقات قيام زيد ، فحذف الوقت لقيام القرينة عليه ، وهي غلبة إضافة الأزمنة إلى الجمل ، دون الأمكنة وغيرها ، فيتبادر الفهم في كل مضاف إليها ، إلى الزمان ، فصار «بين» المضاف إلى الزمان زمانا ، لأن «بين» ان أضيف

__________________

فأف لدنيا لا يدوم نعيمها

تقلّب تارات بنا وتصرّف

وقولها نتنصف أي نخدم الناس ، وتقلب. وتصرف ، كلاهما بحذف التاء الأولى ؛

(١) عبد الملك بن قريب الأصمعي ، تقدم ذكره في هذا الجزء.

(٢) جاء هذا الكلام في إحدى الخطب التي تضمنها نهج البلاغة المنسوب لسيدنا علي رضي الله عنه ، ص ٣٤ طبع دار الشعب بالقاهرة ؛

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) الآية ١٠ سورة الأحزاب.

١٩٦

إلى الأمكنة أو جثث (١) غيرها ، فهو للمكان نحو : بين الدار ، وبين زيد وعمرو ، وان أضيف إلى الأزمنة فهو للزمان ، نحو : بين يومي الجمعة والأحد ، وكذا ان أضيف إلى الأحداث ، نحو : بين قيام زيد وقعوده ، الّا أن يراد به مجازا : المكان ، نحو قولك : زيد بين الخوف والرجاء ، استعرت لما بين الحدثين مكانا ، فلهذا وقع «بين» خبرا عن الجثة ،

فبينما ، المضاف تقديرا إلى زمان محذوف ، وظاهرا إلى جملة مقدرة بحدث ، لا بدّ أن يكون بمعنى الزمان ، فلهذا جاز إضافته إلى الجمل ؛

وكل ما قلناه في «بينما» يطرد في «كلّما» ، من مجيئ «ما» الكافة ، لتكفه عن طلب مضاف إليه مفرد ، ومن تقدير زمان مضاف إلى الجمل ؛

فكلّما ، إذن ، زمان مضاف إلى الجملة ، لأن كلّا ، وبعضا ، من جنس ما يضافان إليه ، زمانا كان أو مكانا أو غيرهما ؛

ولما (٢) في «كلما» من معنى العموم والاستغراق ، الذي يكون في كلمات الشرط ، نحو : من ، وما ، ومتى ؛ شابهها أكثر من مشابهة «بينما» فلم يدخل إلا على الفعلية بخلاف بينا وبينما ، ولهذا جاز ، أيضا ، وقوع الماضي بعد «كلما» بمعنى المستقبل ، لكنه ليس ذلك بحتم في كل ماض ، كما كان في كلمات الشرط المتضمنة لمعنى «ان» ،

وكذلك كل ماض وقع بعد «حيث» ، احتمل الماضي والمستقبل ، للعموم الذي فيه ، ككلمات الشرط ، ففيه وفي «كلما» رائحة الشرط ؛

وأمّا «حيثما» ، فهي كلمة شرط تجزم وتقلب الماضي مستقبلا ، كمن ، وما ، ومتى ، فالعامل في : كلما ، وحيث ، ما هو في محل الجزاء ، لا الذي في محل الشرط ، كما في «إذا» ، لأنهما في الأغلب ، يستعملان في الفعل المقطوع بوقوعه نحو : كلما طلعت

__________________

(١) المراد ما ليس زمانا ولا حدثا معنويا ؛

(٢) جار ومجرور متعلق بقوله : شابهها أكثر .. الآتي ؛

١٩٧

الشمس أتيتك ، وكلما أصبحت فسبّح الله ، وجلست حيث جلس زيد ؛ وقد يستعملان في غير المقطوع به نحو : كلما جئتني أعطيتك وحيث لقيت زيدا فأكرمه ، كما تستعمل الأسماء المتضمنة لمعنى «إن» في المقطوع بوجوده ، نحو : متى طلعت الشمس أتيتك ، وكل ذلك على خلاف الأصل ؛ ويدخل بينا ، وبينما ، وكلما ، في الماضي والمستقبل ؛

ولنا أن نرتكب بناء بينا وبينما وكلما ، على الفتح ، لكون إضافتهما كلا إضافة ، كما ذكرنا في «حيث» إلا أنها (١) بنيت على الفتح الذي كانت تستحقه حالة الإعراب ، بخلاف «حيث» فإنه لم يثبت لها حالة إعراب هي منصوبة فيها حتى تراعى حركتها الإعرابية ؛

وإنما رتّب بينا ، وبينما ، وكلّما ، مع جملتيها ترتيب كلمات الشرط ، مع الشرط والجزاء ، لما ذكرنا من بيان لزوم مضمون الثانية للأولى ، لزوم الجزاء للشرط ، ولهذا أدخل «إذا» و «إذ» للمفاجأة في جواب بينا وبينما ، ليدلّا على اقتران مضمون الأول بالثاني مفاجأة بلا تراخ فيكون آكد في معنى اللزوم ؛

وقيل في «كلما» : انه معرب ، وما ، مصدرية ، والزمان المضاف إلى «ما» مقدر ، فيجوز ادعاء مثله في «بينما» ، فإن دخل «إذ» و «إذا» للمفاجأة في جواب بينا وبينما ، فإن قلنا ، كما هو مذهب المبرد ، ان «إذا» المفاجأة ظرف مكان ، وكذا ينبغي أن نقول في «إذ» المفاجأة ، فإذ ، وإذا ، منصوبان على أنهما ظرفا مكان لما بعدهما ، وبينا وبينما ، ظرفا زمان له ،

فمعنى بينا زيد قائم إذ رأى هندا : رأى زيد هندا بين أوقات قيامه ، في ذلك المكان ، أي في مكان قيامه ،

وإن قلنا انهما ظرفا زمان ، كما هو مذهب الزجاج ، فهما مضافان إلى الجملة التي بعدهما ، مخرجان عن الظرفية ، مبتدآن ، خبرهما بينا ، وبينما ، والمعنى : وقت رؤية زيد هندا : حاصل بين أوقات قيامه ؛

__________________

(١) أي الكلمات الثلاث : بينا ، وبينما ، وكلّما ؛

١٩٨

والأولى : القول بحرفيّة كلمتي المفاجأة ، كما هو مذهب ابن بري (١) ، فالعامل في بينا ، وبينما ، ما بعد كلمتي المفاجأة ، أو نقول : انهما زائدان ، وليستا للمفاجأة في جواب بينا وبينما ، كما قال الجوهري (٢) ، وابن قتيبة ، (٣) وأبو عبيدة ، (٤) بزيادة «إذ» في نحو قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا)(٥) وبزيادة «إذا» في قوله :

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة .... البيت (٦) ـ ٤٩٥

والكلام على مثل قوله تعالى : (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(٧) ، كالكلام على : بينما زيد قائم إذ رأى عمرا ، سواء ؛

ويجوز أن يكون «إذا» في جواب بينما ، وإذا ، ولمّا ، نحو قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ..)(٨) ظرف زمان ، بدلا من الظروف المذكورة ، ولا نجعلها مضافة إلى الجملة التي تليها ، بل نجعل تلك الجملة عاملة في الظروف المذكورة ، أي : وقت الإصابة في تلك الحال يستبشرون ، وكذا في الباقيين ، فالجملة المضاف إليها «إذا» محذوفة مدلول عليها بالجملة التي في موضع الشرط ، أي : إذا أصاب ... هم يستبشرون ، و : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ؛

وكذا نقول : إذا وقعت جوابا لإن ، في نحو قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)(٩) ، أي : إذا أصابتهم يقنطون ، أي في تلك الحالة يقنطون ؛

__________________

(١) ابن بري هو أبو محمد ، عبد الله بن بري المصري ، تقدم ذكره في الجزء الأول ،

(٢) الجوهري صاحب الصحاح تقدم ذكره ،

(٣) ابن قتيبة ، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، النحوي اللغوي ، صاحب مؤلفات كثيرة في اللغة والنحو والحديث وغيرها ، من علماء القرن الثالث الهجري ؛

(٤) أبو عبيدة بالتاء كما هو في المطبوعة ، معمر بن المثنى أستاذ أبي عبيد : القاسم بن سلام وتقدم ذكره ؛

(٥) الآية ٥١ من سورة البقرة ،

(٦) تقدم ذكره قريبا ؛

(٧) الآية ٤٨ سورة الروم ،

(٨) الآية ٧٧ سورة النساء ؛

(٩) الآية ٣٦ سورة الروم ؛

١٩٩

وإن قلنا انها ظرف مكان ، فلا نقدر لها جملة مضافا إليها ، لأن المكان لا يضاف إلى الجملة ، إلا «حيث» ، بل المعنى : في ذلك الموضع يقنطون ، وكذا في جواب إذا ، وبينما ، ولمّا ؛

وإن قلنا بحرفية «إذا» في جواب الأشياء الأربعة ، فلا اشكال ، لأنها ، إذن ، حرف ، كالفاء ، سواء ؛

وقد تجيئ «إذ» للمفاجأة في غير جواب بينا وبينما ، نحو قولك : كنت واقفا إذ جاءني عمرو ؛

ويجوز إضافة بينا ، دون بينما ، إلى المصدر ، قال :

٤٩٨ ـ بينا تعانقه الكماة وروغه

يوما أتيح له جريء سلفع (١)

بتقدير : بين أوقات تعانقه ؛ والأعرف : الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : تعانقه حاصل ،

قوله : «وإذ ، لما مضى ، ويقع بعدها الجملتان» ؛ وذلك بلا فصل ، لأنه لا يطرأ عليها معنى الشرط كما في «إذا» ، لأن جميع أسماء الشرط متضمنة لمعنى «ان» ، وان للشرط في المستقبل ، و «إذ» موضوعة للماضي فتنافيا ؛

و «إذ» إذا دخل على المضارع قلبه إلى الماضي كقوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٢) ، و : (إِذْ يَقُولُ)(٣) ، ويلزمها الظرفية ، إلا أن يضاف إليها زمان ، كقوله

__________________

(١) من قصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي رثى بها أبناءه والتي أولها :

أمن المنون وريبها تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

والبيت المستشهد به في وصفه للرجل الشجاع لا تنفعه شجاعته فقد يتاح له من هو أقوى منه ، وتعانقه ، روى : تعنقه بتشديد النون بمعنى ملاقاته لخصمه وإمساك كل منهما بالآخر ؛

(٢) الآية ٣٠ سورة الأنفال ؛

(٣) من الآية ٤٠ سورة التوبة ،

٢٠٠