الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٩

إن شاء ولن يدخل بما قدر أن لا يدخلها كافر.

قيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزءون بكلامه ، ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات.

وهذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرع صنعهم ذلك على ما مر من حرمان الناس من دخول الجنة إلا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أن اجتماعهم حوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإهطاعهم عليه إنما حملهم عليه إفراطهم في عداوته ومبالغتهم في إيذائه وإهانته ، وأن قولهم : سندخل الجنة قبل المؤمنين ـ وهم مشركون مصرون على إنكار المعاد غير معترفين بنار ولا جنة ـ إنما كان استهزاء وتهكما.

فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدم من حديث النار والجنة والسؤال ـ في سياق التعجيب ـ عن السبب الحامل لهم عليه ثم استفهام طمعهم في دخول الجنة وإنكاره عليهم.

فبما تقدم يتأيد أن يكون المراد بالذين كفروا في قوله : « فَما لِالَّذِينَ كَفَرُوا » قوما من المنافقين آمنوا به صلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهرا ولازموه ثم كفروا برد بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ » المنافقون ٣ ، وقوله : « لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ » التوبة ٦٦ ، وقوله : « فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ » التوبة ٧٧.

فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا ودخلوا في جماعة المؤمنين ولازموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مهطعين عليه عن اليمين وعن الشمال عزين ثم كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنهم لا ينتفعون بملازمته ولا لهم أن يطمعوا في دخول الجنة فليسوا ممن يدخلها وليسوا بسابقين ولا معجزين.

ويؤيده قوله الآتي : « إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ » إلخ على ما سنشير إليه.

قوله تعالى : « كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ » ردع لهم عن الطمع في دخول الجنة مع كفرهم.

وقوله : « إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ » المراد بما يعلمون النطفة فإن الإنسان مخلوق منها.

والكلام مرتبط بما بعده والمجموع تعليل للردع ، ومحصل التعليل أنا خلقناهم من النطفة

٢١

ـ وهم يعلمون به ـ فلنا أن نذهب بهم ونخلق مكانهم قوما آخرين يكونون خيرا منهم مؤمنين غير رادين لشيء من دين الله ، ولسنا بمسبوقين حتى يعجزنا هؤلاء الكفار ويسبقونا فندخلهم الجنة وينتقض به ما قدرنا أن لا يدخل الجنة كافر.

وقيل : « من » في قوله : « مِمَّا يَعْلَمُونَ » تفيد معنى لام التعليل ، والمعنى أنا خلقناهم لأجل ما يعلمون وهو الاستكمال بالإيمان والطاعة فمن الواجب أن يتلبسوا بذلك حتى ندخلهم الجنة فكيف يطمعون في دخولها وهم كفار؟ وإنما علموا بذلك من طريق إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقيل : « من » لابتداء الغاية ، والمعنى : أنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس والطهارة حتى تتطهر بالإيمان والطاعة وتتخلق بأخلاق الملائكة فتدخل وأنى لهم ذلك وهم كفار.

وقيل : المراد بما في « مِمَّا يَعْلَمُونَ » الجنس ، والمعنى أنا خلقناهم من جنس الآدميين الذين يعلمون أو من الخلق الذين يعلمون لا من جنس الحيوانات التي لا تعقل ولا تفقه فالحجة لازمة لهم تامة عليهم ، والوجوه الثلاثة سخيفة.

قوله تعالى : « فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ » المراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس ومغاربها فإن لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقا ومغربا لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة ، ومن المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.

وفي الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله : « فَلا أُقْسِمُ » التفات من التكلم مع الغير في « إِنَّا خَلَقْناهُمْ » إلى التكلم وحده ، والوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه.

وفي قوله : « بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ » التفات من التكلم وحده إلى الغيبة ، والوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيل وهي ربوبيته للمشارق والمغارب فإن الشروق بعد الشروق والغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلا تاما في تكون الإنسان جيلا بعد جيل وسائر الحوادث الأرضية المقارنة له.

وفي قوله : « إِنَّا لَقادِرُونَ » التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ، والوجه فيه الإشارة

٢٢

إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة ، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإن الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكونها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله عن شيء منها ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله خيرا منه وإلا شاركه المانع في أمر التدبير والله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته فافهم ذلك.

وقوله : « إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ » « عَلى » متعلق بقوله : « لَقادِرُونَ » والمفعول الأول لنبدل ضمير محذوف راجع إليهم وإنما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم وعدم الاهتمام بهم ، و « خَيْراً » مفعوله الثاني وهو صفة أقيمت مقام موصوفها ، والتقدير إنا لقادرون على أن نبدلهم قوما خيرا منهم ، وخيريتهم منهم أن يؤمنوا بالله ولا يكفروا به ويتبعوا الحق ولا يردوه.

وقوله : « وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ » المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة ، وكونه تعالى مسبوقا هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم ويأتي بدلهم بقوم خير منهم.

وسياق الآية لا يخلو من تأييد ما لما تقدم من كون المراد بالذين كفروا قوما من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإن ظاهر قوله : « خَيْراً مِنْهُمْ » لا يخلو من دلالة أو إشعار بأن فيهم شائبة خيرية ولله أن يبدل خيرا منهم ، والمشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفظهم على ظواهر الدين مما آمنوا به ولم يردوه من خير للإسلام.

فقد بان بما تقدم أن قوله : « إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ » إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله : « كَلَّا » ، وأن محصل مضمون الآيات الثلاث أنهم مخلوقون من نطفة ـ وهم يعلمون ذلك ـ وهي خلقة جارية والله الذي هو رب الحوادث الجارية التي منها خلق الإنسان جيلا بعد جيل والمدبر لها قادر أن يذهب بهم ويبدلهم خيرا منهم يعتنون بأمر الدين ويستأهلون لدخول الجنة ، ولا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدلهم خيرا منهم ويدخلهم الجنة بكمال إيمانهم من غير أن يضطر إلى إدخال هؤلاء الجنة فلا ينتقض تقديره أن الجنة للصالحين من أهل الإيمان.

قوله تعالى : « فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ » أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتركهم وما هم فيه ، ولا يلح عليهم بحجاج ولا يتعب نفسه فيهم بعظة ، وقد سمي ما هم عليه بالخوض واللعب دلالة على أنهم لا ينتفعون به انتفاعا حقيقيا على ما لهم

٢٣

فيه من الإمعان والإصرار كاللعب الذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون وهو يوم القيامة.

وفي إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم وهو الاختصاص بعذابهم.

قوله تعالى : « يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ » بيان ليومهم الذي يوعدون وهو يوم القيامة.

والأجداث جمع جدث وهو القبر ، وسراعا جمع سريع ، والنصب ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به ، وقيل : هو الصنم المنصوب للعبادة وهو بعيد من كلامه تعالى ، والإيفاض الإسراع والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ » الخشوع تأثر خاص في القلب عن مشاهدة العظمة والكبرياء ، ويناظره الخضوع في الجوارح ، ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها ، والرهق غشيان الشيء بقهر.

وقوله : « ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ » الإشارة إلى ما مر من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعا وخشوع الأبصار ورهق الذلة.

( بحث روائي )

في الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد فقال : ما لي أراكم عزين حلقا حلق الجاهلية قعد رجل خلف أخيه.

أقول : ورواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة ولفظه خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه جلوس حلقا حلقا فقال : ما لي أراكم عزين ، وروي هذا المعنى أيضا عن جابر بن سمرة.

وفي تفسير القمي : وقوله : « كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ » قال : من نطفة ثم علقة ، وقوله : « فَلا أُقْسِمُ » أي أقسم « بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ » قال : مشارق الشتاء ومشارق الصيف ـ ومغارب الشتاء ومغارب الصيف.

وفي المعاني ، بإسناده إلى عبد الله بن أبي حماد رفعه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : لها ثلاثمائة وستون مشرقا وثلاثمائة وستون مغربا فيومها الذي تشرق فيه لا تعود فيه إلا من قابل.

وفي تفسير القمي : وقوله : « يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً » قال : من القبر « كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ » قال : إلى الداعي ينادون ، وقوله : « تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ » قال : تصيبهم ذلة.

٢٤

( سورة نوح مكية وهي ثمان وعشرون آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ

٢٥

إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) ).

( بيان )

تشير السورة إلى رسالة نوح عليه‌السلام إلى قومه وإجمال دعوته وعدم استجابتهم له ثم شكواه إلى ربه منهم ودعائه عليهم واستغفاره لنفسه ولوالديه ولمن دخل بيته مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ثم حلول العذاب بهم وإهلاكهم بالإغراق والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى : « إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » « أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ » إلخ ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر « إلخ ».

وفي الكلام دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم ومعاصيهم كما يدل عليه ما حكي من قوله عليه‌السلام في الآية التالية : « اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ » وذلك أن الإنذار تخويف والتخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له لو لا التحذر ، وقد أفاد قوله : « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » إنه متوجه إليهم غير تاركهم لو لا تحذرهم منه.

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ » بيان لتبليغه رسالته إجمالا بقوله : « إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ » وتفصيلا بقوله : « أَنِ اعْبُدُوا اللهَ » إلخ.

وفي إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق ورحمة أي أنكم قومي يجمعكم وإياي مجتمعنا القومي تسوؤني ما أساءكم فلست أريد إلا ما فيه خيركم وسعادتكم إني لكم نذير إلخ.

وفي قوله : « أَنِ اعْبُدُوا اللهَ » دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإن القوم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام ، والوثنية لا تجوز عبادة الله سبحانه لا وحده ولا مع غيره ، وإنما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله ، ولو جوزوا

٢٦

عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.

وفي قوله : « وَاتَّقُوهُ » دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم وصغائره وهي الشرك فما دونه ، وفعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية.

وفي قوله : « وَأَطِيعُونِ » دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته وأخذ معالم دينهم مما يعبد به الله سبحانه ويستن به في الحياة منه عليه‌السلام ففي قوله : « اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ » ندب إلى أصول الدين الثلاثة : التوحيد المشار إليه بقوله : « اعْبُدُوا اللهَ » والمعاد الذي هو أساس التقوى (١) والتصديق بالنبوة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.

قوله تعالى : « يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ » مجزوم في جواب الأمر وكلمة « مِنْ » للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق ، والمعنى أن تعبدوه وتتقوه وتطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم وهي الذنوب التي قبل الإيمان : الشرك فما دونه ، وأما الذنوب التي لم تقترف بعد مما سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحققها ، ولا معنى أيضا للوعد بمغفرتها إن تحققت في المستقبل أو كلما تحققت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينية بإلغاء المجازاة على مخالفتها.

ويؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى : « يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ » الأحقاف ٣١ ، وقوله : « يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ » إبراهيم ١٠ وقوله : « قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ » الأنفال ٣٨.

وأما قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الأمة : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ » الصف ١٢ فهو وإن كان ظاهرا في مغفرة جميع الذنوب لكن رتبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان والعمل الصالح وإدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلقة بما لم يتحقق بعد من المعاصي والذنوب المستقبلة ولا وعد بمغفرتها كلما تحققت.

وقد مال بعضهم اعتمادا على عموم المغفرة في آية الصف إلى القول بأن المغفور بسبب الإيمان في هذه الأمة جميع الذنوب وفي سائر الأمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لأمته :

__________________

(١) إذ لو لا المعاد بما فيه من الحساب والجزاء لم يكن للتقوى الديني وجه ، منه.

٢٧

« يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ » وقول الرسل : كما في سورة إبراهيم « يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ » وقول الجن كما في سورة الأحقاف لقومهم : « يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ».

وفيه أن آية الصف موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه. على أن آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف ، والمخاطب به كفار هذه الأمة.

وذهب بعضهم إلى كون « مِنْ » في قوله : « مِنْ ذُنُوبِكُمْ » زائدة ، ولم تثبت زيادة « من » في الإثبات فهو ضعيف ومثله في الضعف قول من ذهب إلى أن « مِنْ » بيانية ، وقول من ذهب إلى أنها لابتداء الغاية.

قوله تعالى : « وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمى على عبادة الله والتقوى وطاعة الرسول يدل على أن هناك أجلين أجل مسمى يؤخرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة ، وأجل غيره يعجل إليهم لو بقوا على الكفر ، وإن الأجل المسمى أقصى الأجلين وأبعدهما.

ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا وفي قوله : « إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ » تعليل للتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضي المتحتم أعم من الأجل المسمى وغير المسمى فلا راد لقضائه تعالى ولا معقب لحكمه.

والمعنى : أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعوني يؤخركم الله إلى أجل مسمى هو أقصى الأجلين فإنكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمى بكفركم ولم تؤخروا فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، ففي الكلام مضافا إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا ، تهديد بعذاب معجل إن لم يؤمنوا.

وقد ظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمى وأضعف منه تفسيره بالأجل المسمى.

وذكر بعضهم : أن المراد بأجل الله يوم القيامة والظاهر أنه يفسر الأجل المسمى أيضا بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا : إن لم تؤمنوا عجل الله إليكم بعذاب الدنيا وإن آمنتم أخركم إلى يوم القيامة أنه إذا جاء لا يؤخر.

وأنت خبير بأنه لا يلائم التبشير الذي في قوله : « يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ».

٢٨

وقوله : « لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » متعلق بأول الكلام أي لو كنتم تعلمون أن لله أجلين وأن أجله إذا جاء لا يؤخر استجبتم دعوتي وعبدتم الله واتقيتموه وأطعتموني هذا فمفعول « تَعْلَمُونَ » محذوف يدل عليه سابق الكلام.

وقيل : إن « تَعْلَمُونَ » منزل منزلة الفعل اللازم ، وجواب لو متعلق بأول الكلام ، والمعنى : لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي وآمنتم ، أو متعلق بآخر الكلام ، والمعنى : لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.

قوله تعالى : « قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً » القائل هو نوح عليه‌السلام والذي دعا إليه هو عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله ، والدعاء ليلا ونهارا كناية عن دوامه من غير فتور ولا توان.

وقوله : « فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً » أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرد والتأبي عن القبول استعارة ، وإسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة السببية لأن الخير إذا وقع في محل غير صالح قاومه المحل بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شرا ، وقد قال تعالى في صفة القرآن : « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً » إسراء ٨٢.

قوله تعالى : « وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ » إلخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته والأصل ( دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم ) » لأن الغرض الإشارة إلى أنه كان ناصحا لهم في دعوته ولم يرد إلا ما فيه خير دنياهم وعقباهم.

وقوله : « جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ » كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته ، وقوله : « وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ » أي غطوا بها رءوسهم ووجوههم لئلا يروني ولا يسمعوا كلامي وهو كناية عن التنفر وعدم الاستماع إلى قوله.

وقوله : « وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً » أي وألحوا على الامتناع من الاستماع واستكبروا عن قبول دعوتي استكبارا عجيبا.

قوله تعالى : « ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً » « ثُمَ » للتراخي بحسب رتبة الكلام والجهار النداء بأعلى الصوت.

قوله تعالى : « ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً » الإعلان والإسرار متقابلان

٢٩

وهما الإظهار والإخفاء ، وظاهر السياق أن مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سرا وعلانية فتارة علانية وتارة سرا سالكا في دعوتي كل مذهب ممكن وسائرا في كل مسير مرجو.

قوله تعالى : « فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ـ إلى قوله ـ أَنْهاراً » علل أمرهم بالاستغفار بقوله : « إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً » دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة وهي مضافا إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى.

وقوله : « يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً » مجزوم في جواب الأمر ، والمراد بالسماء السحاب ، والمدرار كثير الدرور بالأمطار.

وقوله : « وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ » الأمداد إلحاق المدد وهو ما يتقوى به الممد على حاجته ، والأموال والبنون أقرب الأعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الإنساني على حوائجه الحيوية.

وقوله : « وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً » هما من قسم الأموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر.

والآيات ـ كما ترى ـ تعد النعم الدنيوية وتحكي عنه عليه‌السلام أنه يعد قومه توافر النعم وتواترها عليهم أن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب والنقمات العامة وانفتاح أبواب النعم من السماء والأرض أي إن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع الإنساني وفساده وبين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية وطيب عيشه ونكده.

كما يدل عليه قوله تعالى : « ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » الروم ٤١ ، وقوله : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » الشورى ٣٠ ، وقوله : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » الأعراف ٩٤ ، وقد تقدم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام.

قوله تعالى : « ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً » استفهام إنكاري والوقار ـ كما في المجمع ، ـ بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم ، والرجاء مقابل الخوف وهو الظن بما فيه مسرة ، والمراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل ، وقيل : المراد به الخوف للملازمة بينهما.

٣٠

والمعنى : أي سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أو لا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه.

والحق أن المراد بالرجاء معناه المعروف وهو ما يقابل الخوف ونفيه كناية عن اليأس فكثيرا ما يكنى به عنه يقال : لا أرجو فيه خيرا أي أنا آيس من أن يكون فيه خير ، والوقار الثبوت والاستقرار والتمكن وهو الأصل في معناه كما صرح به في المجمع ، ووقاره تعالى ثبوته واستقراره في الربوبية المستتبع لألوهيته ومعبوديته.

كان الوثنيين طلبوا ربا له وقار في الربوبية لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره وهو كذلك فإنهم يرون أنه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه ، والعبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الأمر وتدبير أمور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة والجن فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله ، وأما هو تعالى فليس له إلا الإيجاد إيجاد الأرباب ومربوبيهم جميعا دون التدبير.

والآية أعني قوله : « ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً » وما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لإثبات وقاره تعالى في الربوبية وحجة قاطعة في نفي ما لفقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة وغيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم ، ويتبين به إمكان التوجه العبادي إليه تعالى.

ومحصل الحجة : ما الذي دعاكم إلى نفي ربوبيته تعالى المستتبع للألوهية والمعبودية واليأس عن وقاره؟ وأنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم وخلق العالم الذي تعيشون فيه طورا من الخلق لا ينفك عن هذا النظام الجاري فيه ، وليس تدبير الكون ومن فيه من الإنسان إلا التطورات المخلوقة في أجزائه والنظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقا هو كونه مالكا مدبرا فهو الرب لا رب سواه فيجب أن يتخذ إلها معبودا.

ويتبين به صحة التوجه إليه تعالى بالعبادة فإنا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق والرزق والرحمة وسائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجه إليه بما نعرفه من صفاته (١).

__________________

(١) وإنما أخذناه بما نعرفه من صفاته الفعلية لأن من المنسوب إليهم أنهم ينكرون صفاته الذاتية ويفسرونها بسلب النقائص فمعنى كونه حيا قديرا عليما عندهم أنه ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل على أن الآيات أيضا تصفه بالصفات الفعلية ، منه.

٣١

قوله تعالى : « وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً » حال من فاعل « لا تَرْجُونَ » والأطوار جمع طور وهو حد الشيء وحاله التي هو عليها.

ومحصل المعنى ـ لا ترجون لله وقارا في ربوبية ـ والحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا وأنشأ جمعكم مختلفة الأفراد في الذكورة والأنوثة والألوان والهيئات والقوة والضعف إلى غير ذلك ، وهل هذا إلا التدبير فهو مدبر أمركم فهو ربكم.

قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً » مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهن وتماثلهن على الاحتمالين المتقدمين في تفسير أوائل سورة الملك.

والمراد بالرؤية العلم ، وتوصيف السماوات السبع ـ والكلام مسوق سوق الحجة ـ يدل على أنهم كانوا يرون كونها سبعا ويسلمون ذلك فاحتج عليهم بالمسلم عندهم.

وكيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثورا من الأنبياء ( عليه‌السلام ) من أقدم العهود.

قوله تعالى : « وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً » الآيات ـ كما يشهد به سياقها ـ مسوقة لبيان وقوع التدبير الإلهي على الإنسان بما يفيض عليه من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته.

وعلى هذا فكون الشمس سراجا هو كونها مضيئة لعالمنا ولولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء ، وكون القمر نورا هو كونه منورا لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منورا بنفسه حتى يعد سراجا.

وأما أخذ السماوات ظرفا للقمر في قوله : « وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً » فالمراد به كما قيل كونه في حيزهن وإن كان في واحدة منها كما تقول : إن في هذه الدور لبئرا وإن كانت في واحدة منها لأن ما كان في إحداهن كان فيهن وكما تقول : أتيت بني تميم وإنما أتيت بعضهم.

قوله تعالى : « وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً » أي أنبتكم إنبات النبات وذلك أن

٣٢

الإنسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضية تركبت تركبا خاصا به يغتذي وينمو ويولد المثل ، وهذه حقيقة النبات ، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه واستعارة.

قوله تعالى : « ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً » الإعادة فيها بالإماتة والإقبار ، والإخراج للجزاء يوم القيامة فالآية والتي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى : « فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ » الأعراف : ٢٥.

وفي قوله : « وَيُخْرِجُكُمْ » دون أن يقول : ثم يخرجكم إيماء إلى أن الإعادة والإخراج كالصنع الواحد والإعادة مقدمة للإخراج ، والإنسان في حالتي الإعادة والإخراج في دار الحق كما أنه في الدنيا في دار الغرور.

قوله تعالى : « وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً » أي كالبساط يسهل لكم التقلب من جانب إلى جانب ، والانتقال من قطر إلى قطر.

قوله تعالى : « لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً » السبل جمع سبيل بمعنى الطريق والفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسعة ، وقيل : الطريق الواقعة بين الجبلين.

قوله تعالى : « قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً » رجوع منه عليه‌السلام إلى شكواه من قومه إلى ربه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم وما ألقاه من القول إليهم من قوله : « ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً » إلى آخر الآيات.

وشكواه السابق له قوله : « فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً » بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله : « رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ».

وفي الآية دلالة على أن العظماء المترفين من قومه عليه‌السلام كانوا يصدون الناس عنه ويحرضونهم على مخالفته وإيذائه.

ومعنى قوله : « لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً » ـ وقد عد المال والولد في سابق كلامه من النعم ـ أن المال والولد اللذين هما من نعمك وكان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلا كفرا وأورثهم ذلك خسرانا من رحمتك.

قوله تعالى : « وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً » الكبار اسم مبالغة من الكبر.

قوله تعالى : « وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً » توصية منهم بالتمسك بآلهتهم وعدم ترك عبادتها.

٣٣

وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن ولذا خصوها بالذكر مع الوصية بمطلق الآلهة ، ولعل تصدير ود وذكر سواع ويغوث بلا المؤكدة للنفي لكونها أعظم أمرا عندهم من يعوق ونسر والله أعلم.

قوله تعالى : « وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً » ضمير « أَضَلُّوا » للرؤساء المتبوعين ويتأيد به أنهم هم المحدث عنهم في قوله : « وَمَكَرُوا » « وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ » وقيل : الضمير للأصنام فهم المضلون ، ولا يخلو من بعد.

وقوله : « وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً » دعاء من نوح على الظالمين بالضلال والمراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائي فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم وفسقهم مضافا إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك.

( بحث روائي )

في نهج البلاغة : وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق ـ ورحمة الخلق فقال سبحانه : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ـ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ » فرحم الله امرأ استقبل توبته ، واستقال خطيئته ، وبادر منيته

أقول : والروايات في استفادة سببية الاستغفار لسعة الرزق والأمداد بالأولاد من هذه الآيات كثيرة.

وفي الخصال ، عن علي عليه‌السلام في حديث الأربعمائة : أكثر الاستغفار تجلب الرزق.

وفي تفسير القمي ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : « لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً » قال؟ لا تخافون لله عظمة.

أقول : وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس.

وفيه ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : « سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً » يقول بعضها فوق بعض.

وفيه في قوله تعالى : « رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ـ وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً » قال : اتبعوا الأغنياء.

٣٤

وفي الدر المنثور ، أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : صارت الأصنام والأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد.

أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبإ ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع.

وكانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح ـ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم ـ أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا ـ وسموها بأسمائهم ففعلوا ـ فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.

أقول : لعل المراد بصيرورة تلك الأصنام التي كانت لقوم نوح إلى العرب مطابقة ما عند العرب لما كان عندهم في الأسماء أو في الأوصاف والأسماء ، وأما انتقال تلك الأصنام بأشخاصهن إلى العرب فبعيد غايته.

وروي القصة أيضا في علل الشرائع ، بإسناده عن جعفر بن محمد عليه‌السلام كما في الرواية.

وفي روضة الكافي ، بإسناده عن المفضل عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده ـ فأتي بالخشب من بعد حتى فرغ منها.

قال : فالتفت عن يساره ـ وأشار بيده إلى موضع دار الداريين ـ وهو موضع دار ابن حكيم ، وذاك فرات اليوم ، فقال لي يا مفضل وهنا نصبت أصنام قوم نوح : يغوث ويعوق ونسر.

* * *

( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨) ).

٣٥

( بيان )

تتضمن الآيات هلاك القوم وتتمة دعاء نوح عليه‌السلام عليهم.

قوله تعالى : « مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً » إلخ « مِنْ » لابتداء الغاية تفيد بحسب المورد التعليل و « مِمَّا » زائدة لتأكيد أمر الخطايا وتفخيمه ، والخطيئات المعاصي والذنوب ، وتنكير النار للتفخيم.

والمعنى : من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقوا بالطوفان فأدخلوا ـ أدخلهم الله ـ نارا لا يقدر عذابها بقدر ، ومن لطيف نظم الآية الجمع بين الإغراق بالماء وإدخال النار.

والمراد بالنار نار البرزخ التي يعذب بها المجرمون بين الموت والبعث دون نار الآخرة ، والآية من أدلة البرزخ إذ ليس المراد أنهم أغرقوا وسيدخلون النار يوم القيامة ، ولا يعبأ بما قيل : إن من الجائز أن يراد بها نار الآخرة.

وقوله : « فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً » أي ينصرونهم في صرف الهلاك والعذاب عنهم. تعريض لأصنامهم وآلهتهم.

قوله تعالى : « وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » الديار نازل الدار ، والآية تتمة دعائه عليه‌السلام عليهم ، وكان قوله : « مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا » إلخ معترضا واقعا بين فقرتي الدعاء للإشارة إلى أنهم أهلكوا لما عد نوح من خطيئاتهم ولتكون كالتمهيد لسؤاله الهلاك فيتبين أن إغراقهم كان استجابة لدعائه ، وأن العذاب استوعبهم عن آخرهم.

قوله تعالى : « إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » تعليل لسؤال إهلاكهم عن آخرهم مفاده أن لا فائدة في بقائهم لا لمن دونهم من المؤمنين فإنهم يضلونهم ، ولا فيمن يلدونه من الأولاد فإنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا ـ والفجور الفسق الشنيع والكفار المبالغ في الكفر.

وقد استفاد عليه‌السلام ما ذكره من صفتهم من الوحي الإلهي على ما تقدم في تفسير قصة نوح من سورة هود.

قوله تعالى : « رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ »

٣٦

« إلخ » المراد بمن دخل بيته مؤمنا المؤمنون به من قومه ، وبالمؤمنين والمؤمنات عامتهم إلى يوم القيامة.

وقوله : « وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً » التبار الهلاك ، والظاهر أن المراد بالتبار ما يوجب عذاب الآخرة وهو الضلال وهلاك الدنيا بالغرق ، وقد تقدما جميعا في دعائه ، وهذا الدعاء آخر ما نقل من كلامه عليه‌السلام في القرآن الكريم.

* * *

( سورة الجن مكية وهي ثمان وعشرون آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا

٣٧

طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) ).

( بيان )

تشير السورة إلى قصة نفر من الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وأقروا بأصول معارفه ، وتتخلص منها إلى تسجيل نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإشارة إلى وحدانيته تعالى في ربوبيته وإلى المعاد ، والسورة مكية بشهادة سياقها.

قوله تعالى : « قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ » أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقص القصة لقومه ، والموحي هو الله سبحانه ، ومفعول « اسْتَمَعَ » القرآن حذف لدلالة الكلام عليه ، والنفر الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور ، وقيل : بل إلى أربعين.

والعجب بفتحتين ما يدعو إلى التعجب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله ، وإنما وصفوا القرآن بالعجب لأنه كلام خارق للعادة في لفظه ومعناه أتى به رجل أمي ما كان يقرأ ولا يكتب.

والرشد إصابة الواقع وهو خلاف الغي ، وهداية القرآن إلى الرشد دعوته إلى عقائد وأعمال تتضمن للمتلبس بها سعادته الواقعية.

والمعنى : يا أيها الرسول قل للناس : ( أُوحِيَ ) ـ أي أوحى الله ـ إلي أنه استمع القرآن جماعة من الجن فقالوا ـ لقومهم لما رجعوا إليهم ـ إنا سمعنا كلاما مقروا خارقا للعادة يهدي إلى معارف من عقائد وأعمال في التلبس بها إصابة الواقع والظفر بحقيقة السعادة.

٣٨

( كلام في الجن )

الجن نوع من الخلق مستورون من حواسنا يصدق القرآن الكريم بوجودهم ويذكر أنهم بنوعهم مخلوقون قبل نوع الإنسان ، وأنهم مخلوقون من النار كما أن الإنسان مخلوق من التراب قال تعالى : « وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ » الحجر ٢٧.

وأنهم يعيشون ويموتون ويبعثون كالإنسان قال تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ » الأحقاف ١٨.

وأن فيهم ذكورا وإناثا يتكاثرون بالتوالد والتناسل قال تعالى : « وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ » الجن ٦.

وأن لهم شعورا وإرادة وأنهم يقدرون على حركات سريعة وأعمال شاقة كما في قصص سليمان عليه‌السلام وتسخير الجن له وقصة ملكة سبإ.

وأنهم مكلفون كالإنسان ، منهم مؤمنون ومنهم كفار ، ومنهم صالحون وآخرون طالحون ، قال تعالى : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » الذاريات ٥٤ وقال تعالى : « إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ » الجن : ٢ وقال : « وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ » الجن ١٤ وقال : « وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ » الجن ١١ وقال تعالى : « قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ » الأحقاف ٣١ إلى غير ذلك من خصوصيات أحوالهم التي تشير إليها الآيات القرآنية.

ويظهر من كلامه تعالى أن إبليس من الجن وأن له ذرية وقبيلا قال تعالى : « كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » الكهف ٥٠ وقال تعالى : « أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي » الكهف : ٥٠ وقال تعالى : « إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ » الأعراف ٢٧.

قوله تعالى : « فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً » إخبار عن إيمانهم بالقرآن وتصديقهم بأنه حق ، وقوله : « وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً » تأكيد لمعنى إيمانهم به أن إيمانهم بالقرآن إيمان بالله الذي أنزله فهو ربهم ، وأن إيمانهم به تعالى إيمان توحيد لا يشركون به أحدا أبدا.

٣٩

قوله تعالى : « وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً » فسر الجد بالعظمة وفسر بالحظ ، والآية في معنى التأكيد لقولهم : « وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ».

والقراءة المشهورة « أَنَّهُ » بالفتح ، وقرئ بالكسر في هذه الآية وفيما بعدها من الآيات ـ اثنا عشر موردا ـ إلى قوله : « وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا » فبالفتح وهو الأرجح لظهور سياق الآيات في أنها مقولة قول الجن.

وأما قراءة الفتح فوجهها لا يخلو من خفاء ، وقد وجهها بعضهم بأن الجملة « وَأَنَّهُ » « إلخ » معطوفة على الضمير المجرور في قوله « فَآمَنَّا بِهِ » والتقدير وآمنا بأنه تعالى جد ربنا إلخ فهو إخبار منهم بالإيمان بنفي الصاحبة والولد منه تعالى على ما يقول به الوثنيون.

وهذا إنما يستقيم على قول الكوفيين من النحاة بجواز العطف على الضمير المتصل المجرور ، وأما على قول البصريين منهم من عدم جوازه فقد وجهه بعضهم كما عن الفراء والزجاج والزمخشري بأنها معطوفة على محل الجار والمجرور وهو النصب فإن قوله : « فَآمَنَّا بِهِ » في معنى صدقناه ، والتقدير وصدقنا أنه تعالى جد ربنا إلخ ، ولا يخفى ما فيه من التكلف.

ووجهه بعضهم بتقدير حرف الجر في الجملة المعطوفة وذلك مطرد في أن وأن ، والتقدير آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا « إلخ ».

ويرد على الجميع أعم من العطف على الضمير المجرور أو على محله أو بتقدير حرف الجر أن المعنى إنما يستقيم حينئذ في قوله : « وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا » إلخ ، وقوله : « وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا » إلخ ، وأما بقية الآيات المصدرة بأن كقوله : « وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ » إلخ ، وقوله : « وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ » إلخ ، وقوله : « وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ » فلا يصح قطعا فلا معنى لأن يقال : آمنا أو صدقنا أنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله شططا ، أو يقال : آمنا أو صدقنا أنه كان رجال من الإنس يعوذون إلخ ، أو يقال : آمنا أو صدقنا أنا لمسنا السماء إلخ.

ولا يندفع الإشكال إلا بالمصير إلى ما ذكره بعضهم أنه إذا وجه الفتح في الآيتين الأوليين بتقدير الإيمان أو التصديق فليوجه في كل من الآيات الباقية بما يناسبها من التقدير.

ووجه بعضهم الفتح بأن قوله : « وَأَنَّهُ تَعالى » إلخ وسائر الآيات المصدرة بأن

٤٠