الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٩

قوله تعالى : « أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث والجزاء وتحقق هذا النبإ العظيم ولازم ثبوته صحة ما في قوله : « سَيَعْلَمُونَ » من الإخبار بأنهم سيشاهدونه فيعلمون.

تقرير الحجة : أن العالم المشهود بأرضه وسمائه وليله ونهاره والبشر المتناسلين والنظام الجاري فيها والتدبير المتقن الدقيق لأمورها من المحال أن يكون لعبا باطلا لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروري أن يستعقب هذا النظام المتحول المتغير الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق ، وأن يظهر فيه أثر الصلاح الذي تدعو إليه الفطرة الإنسانية والفساد الذي ترتدع عنه ، ولم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتقين وشقاء المفسدين ، ومن المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزية أو ردعا غريزيا بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج ولا حظ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الإنسان ويجزي فيه على عمله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.

فالآيات في معنى قوله تعالى « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » ص : ٢٨.

وبهذا البيان يثبت أن هناك يوما يلقاه الإنسان ويجزي فيه بما عمل إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشك فيه بعضهم ويستبعده طائفة ، ويحيله قوم ، ولا يؤمن به مع العلم به عنادا آخرون ، فاليوم ضروري الوقوع والجزاء لا ريب فيه.

ويظهر من بعضهم أن الآيات مسوقة لإثبات القدرة وأن العود يماثل البدء والقادر على الإبداء قادر على الإعادة ، وهذه الحجة وإن كانت تامة وقد وقعت في كلامه تعالى لكنها حجة على الإمكان دون الوقوع والسياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الإمكان فالأنسب في تقريرها ما تقدم.

وكيف كان فقوله : « أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » الاستفهام للإنكار ، والمهاد الوطاء والقرار الذي يتصرف فيه ، ويطلق على البساط الذي يجلس عليه والمعنى قد جعلنا الأرض قرارا لكم تستقرون عليها وتتصرفون فيها.

١٦١

قوله تعالى : « وَالْجِبالَ أَوْتاداً » الأوتاد جمع وتد وهو المسمار إلا أنه أغلظ منه كما في المجمع ، ولعل عد الجبال أوتادا مبني على أن عمدة جبال الأرض من عمل البركانات بشق الأرض فتخرج منه مواد أرضية مذابة تنتصب على فم الشقة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان الذي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب والميدان.

وعن بعضهم : أن المراد بجعل الجبال أوتادا انتظام معاش أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت الأرض بهم أي لما تهيأت لانتفاعهم. وفيه أنه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة.

قوله تعالى : « وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً » أي زوجا زوجا من ذكر وأنثى لتجري بينكم سنة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله.

وقيل : المراد به الإشكال أي كل منكم شكل للآخر. وقيل : المراد به الأصناف أي أصنافا مختلفة كالأبيض والأسود والأحمر والأصفر إلى غير ذلك ، وقيل : المراد به خلق كل منهم من منيين مني الرجل ومني المرأة وهذه وجوه ضعيفة.

قيل : الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الإلزام والتبكيت.

قوله تعالى : « وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً » السبات الراحة والدعة فإن في المنام سكوتا وراحة للقوى الحيوانية البدنية مما اعتراها في اليقظة من التعب والكلال بواسطة تصرفات النفس فيها.

وقيل : السبات بمعنى القطع وفي النوم قطع التصرفات النفسانية في البدن ، وهو قريب من سابقه.

وقيل : المراد بالسبات الموت ، وقد عد سبحانه النوم من الموت حيث قال : « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ » الأنعام : ٦٠ وهو بعيد ، وأما الآية فإنه تعالى عد النوم توفيا ولم يعده موتا بل القرآن يصرح بخلافه قال تعالى : « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها » الزمر : ٤٢.

قوله تعالى : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً » أي ساترا يستر الأشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن وهذا سبب إلهي يدعو إلى ترك التقلب والحركة والميل إلى السكن والدعة والرجوع إلى الأهل والمنزل.

١٦٢

وعن بعضهم أن المراد بكون الليل لباسا كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه وهو كما ترى.

قوله تعالى : « وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً » العيش هو الحياة ـ على ما ذكره الراغب ـ غير أن العيش يختص بحياة الحيوان فلا يقال : عيشه تعالى وعيش الملائكة ويقال حياته تعالى وحياة الملائكة ، والمعاش مصدر ميمي واسم زمان واسم مكان ، وهو في الآية بأحد المعنيين الأخيرين ، والمعنى وجعلنا النهار زمانا لحياتكم أو موضعا لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربكم ، وقيل : المراد به المعنى المصدري بحذف مضاف ، والتقدير وجعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش.

قوله تعالى : « وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً » أي سبع سماوات شديدة في بنائها.

قوله تعالى : « وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً » الوهاج شديد النور والحرارة والمراد بالسراج الوهاج : الشمس.

قوله تعالى : « وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً » المعصرات السحب الماطرة وقيل : الرياح التي تعصر السحب لتمطر والثجاج الكثير الصب للماء ، والأولى على هذا المعنى أن تكون « مِنَ » بمعنى الباء.

قوله تعالى : « لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً » أي حبا ونباتا يقتات بهما الإنسان وسائر الحيوان.

قوله تعالى : « وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً » معطوف على قوله : « حَبًّا » وجنات ألفاف أي ملتفة أشجارها بعضها ببعض.

قيل : إن الألفاف جمع لا واحد له من لفظه.

( بحث روائي )

في بعض الأخبار : أن النبأ العظيم علي عليه‌السلام وهو من البطن.

عن الخصال ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون.

١٦٣

في تفسير القمي في قوله تعالى : « أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » قال : يمهد فيها الإنسان ـ « وَالْجِبالَ أَوْتاداً » أي أوتاد الأرض.

وفي نهج البلاغة ، قال عليه‌السلام : ووتد بالصخور ميدان أرضه.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً » قال : يلبس على النهار.

أقول : ولعل المراد به أنه يخفي ما يظهره النهار ويستر ما يكشفه.

وفيه في قوله تعالى : « وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً » قال : الشمس المضيئة « وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ » قال : من السحاب « ماءً ثَجَّاجاً » قال : صبا على صب.

وعن تفسير العياشي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ » بالياء يمطرون.

ثم قال : أما سمعت قوله : « وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ».

أقول : المراد أن « يَعْصِرُونَ » بضم الياء بصيغة المجهول والمراد به أنهم يمطرون واستشهاده عليه‌السلام بقوله : « وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ » دليل على أنه عليه‌السلام أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت.

وروى العياشي مثل الحديث عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام وروى القمي في تفسيره مثله عن أمير المؤمنين.

* * *

( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩)

١٦٤

فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠) ).

( بيان )

تصف الآيات يوم الفصل الذي أخبر به إجمالا بقوله : « كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » ثم تصف ما يجري فيه على الطاغين والمتقين ، وتختتم بكلمة في الإنذار وهي كالنتيجة.

قوله تعالى : « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً » قال في المجمع : الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الأمور وهو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد والمقدار من القدر ، انتهى.

شروع في وصف ما تضمنه النبأ العظيم الذي أخبر بوقوعه وهددهم به في قوله : « كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » ثم أقام الحجة عليه بقوله : « أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » إلخ ، وقد سماه يوم الفصل ونبه به على أنه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كل طائفة ما يستحقه بعمله فهو ميقات وحد مضروب لفصل القضاء بينهم والتعبير بلفظ « كانَ » للدلالة على ثبوته وتعينه في العلم الإلهي على ما ينطق به الحجة السابقة الذكر ، ولذا أكد الجملة بإن.

١٦٥

والمعنى : أن يوم فصل القضاء الذي نبأه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات والأرض وحكم فيها النظام الجاري حدا مضروبا ينتهي إليه هذا العالم فإنه تعالى كان يعلم أن هذه النشأة التي أنشأها لا تتم إلا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم.

قوله تعالى : « يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً » قد تقدم الكلام في معنى نفخ الصور كرارا ، والأفواج جمع فوج وهي الجماعة المارة المسرعة على ما ذكره الراغب.

وفي قوله : « فَتَأْتُونَ أَفْواجاً » جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاء لحق الوعيد الذي يتضمنه قوله : « كَلَّا سَيَعْلَمُونَ » وكان الآية ناظرة إلى قوله تعالى : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » إسراء : ٧١.

قوله تعالى : « وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً » فاتصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة.

وقيل : التقدير فكانت ذات أبواب ، وقيل : صار فيها طرق ولم يكن كذلك من قبل ، ولا يخلو الوجهان من تحكم فليتدبر.

قوله تعالى : « وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » السراب هو الموهوم من الماء اللامع في المفاوز ويطلق على كل ما يتوهم ذا حقيقة ولا حقيقة له على طريق الاستعارة.

ولعل المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني.

بيان ذلك : أن تسيير الجبال ودكها ينتهي بالطبع إلى تفرق أجزائها وزوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة وآثارها إذ قال : « وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً » الطور : ١٠ وقال : « وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً » الحاقة : ١٤ ، وقال : « وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً » المزمل ١٤ ، وقال : « وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ » القارعة : ٥ ، وقال : « وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا » الواقعة : ٥ ، وقال : « وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ » المرسلات : ١٠.

فتسيير الجبال ودكها ينتهي بها إلى بسها ونسفها وصيرورتها كثيبا مهيلا وكالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى وأما صيرورتها سرابا بمعنى ما يتوهم ماء لامعا فلا نسبة بين التسيير وبين السراب بهذا المعنى.

نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها وبطلان كينونتها وحقيقتها بمعنى كونها جبلا فالجبال الراسيات التي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قوية لا تحركه العواصف تتبدل بالتسيير

١٦٦

سرابا باطلا لا حقيقة له ، ونظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم وقطع دابرهم ، « فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ » سبأ : ١٩ وقوله : « فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ » المؤمنون : ٤٤ ، وقوله في الأصنام « إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ » النجم : ٢٣.

فالآية بوجه كقوله تعالى « وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ » النمل : ٨٨ ـ بناء على كونه ناظرا إلى صفة زلزلة الساعة ـ.

قوله تعالى : « إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً » قال في المفردات : الرصد الاستعداد للترقب ـ إلى أن قال ـ والمرصد موضع الرصد قال تعالى : « وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ » والمرصاد نحوه لكن يقال للمكان الذي اختص بالرصد قال تعالى : « إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً » تنبيها على أن عليها مجاز الناس ، وعلى هذا قوله تعالى : « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » انتهى.

قوله تعالى : « لِلطَّاغِينَ مَآباً » الطاغون الملتبسون بالطغيان وهو الخروج عن الحد ، والمآب اسم مكان من الأوب بمعنى الرجوع ، والعناية في عدها مآبا للطاغين أنهم هيئوها مأوى لأنفسهم وهم في الدنيا ثم إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا ورجعوا إليها.

قوله تعالى : « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً » الأحقاب الأزمنة الكثيرة والدهور الطويلة من غير تحديد.

وهو جمع اختلفوا في واحده فقيل : واحده حقب بالضم فالسكون أو بضمتين ، وقد وقع في قوله تعالى : « أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً » الكهف : ٦٠ ، وقيل : حقب بالفتح فالسكون وواحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب : والحق أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة. انتهى.

وحد بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع وثمانين سنة وزاد آخرون أن السنة منها ثلاثمائة وستون يوما كل يوم يعدل ألف سنة ، وعن بعضهم أن الحقب أربعون سنة وعن آخرين أنه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك ولا دليل من الكتاب يدل على شيء من هذه التحديدات ولم يثبت من اللغة شيء منها.

وظاهر الآية أن المراد بالطاغين المعاندون من الكفار ويؤيده قوله ذيلا : « إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً ».

١٦٧

وقد فسروا « أَحْقاباً » في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حال كون الطاغين لابثين في جهنم حقبا بعد حقب بلا تحديد ولا نهاية فلا تنافي الآية ما نص عليه القرآن من خلود الكفار في النار.

وقيل : إن قوله : « لا يَذُوقُونَ فِيها » إلخ صفة « أَحْقاباً » والمعنى لابثين فيها أحقابا هي على هذه الصفة وهي أنهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ، ثم يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية.

وهو حسن لو ساعد السياق.

قوله تعالى : « لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً » ظاهر المقابلة بين البرد والشراب أن المراد بالبرد مطلق ما يتبرد به غير الشراب كالظل الذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذوق مطلق النيل والمس.

قوله تعالى : « إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً » الحميم الماء الحار شديد الحر ، والغساق صديد أهل النار.

قوله تعالى : « جَزاءً وِفاقاً ـ إلى قوله ـ كِتاباً » المصدر بمعنى اسم الفاعل والمعنى يجزون جزاء موافقا لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاء ذا وفاق أو إطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل.

وقوله : « إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً » أي تكذيبا عجيبا يصرون عليه ، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم ، وذلك أنهم لم يرجوا الحساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة وكذبوا بالآيات الدالة عليها فأنكروا التوحيد والنبوة وتعدوا في أعمالهم طور العبودية فنسوا الله تعالى فنسيهم وحرم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلا الشقاء ولا يجدون فيها إلا ما يكرهون ، ولا يواجهون إلا ما يتعذبون به وهو قوله : « فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ».

وفي الآية أعني قوله : « جَزاءً وِفاقاً » دلالة على المطابقة التامة بين الجزاء والعمل فالإنسان لا يريد بعمله إلا الجزاء الذي بإزائه والتلبس بالجزاء تلبس بالعمل بالحقيقة قال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » التحريم : ٧.

وقوله : « وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً » أي كل شيء ومنه الأعمال ضبطناه وبيناه في

١٦٨

كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى : « وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ » يس : ١٣.

أو المراد وكل شيء حفظناه حال كونه مكتوبا أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال ، وجوز أن يكون الإحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الإحصاء فإن الإحصاء والكتابة يتشاركان في معنى الضبط والمعنى كل شيء أحصيناه إحصاء أو كل شيء كتبناه كتابا.

والآية على أي حال متمم للتعليل السابق ، والمعنى الجزاء موافق لأعمالهم لأنهم كانوا على حال كذا وكذا وقد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاء وفاقا.

قوله تعالى : « فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً » تفريع على ما تقدم من تفصيل عذابهم مسوق لإيئاسهم من أن يرجو نجاة من الشقوة وراحة ينالونها.

والالتفات إلى خطابهم بقوله : « فَذُوقُوا » تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ والتقريع بلا واسطة.

والمراد بقوله : « فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً » أن ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب وعذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئا مما تطلبون وتحبون.

والآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله : « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً » الخلود دون الانقطاع.

قوله تعالى : « إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ـ إلى قوله ـ كِذَّاباً » الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة ـ على ما قاله الراغب ـ ففيه معنى النجاة والتخلص من الشر والحصول على الخير ، والمفاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الفوز والآية تحتمل الوجهين جميعا.

وقوله : « حَدائِقَ وَأَعْناباً » الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحوط ، والأعناب جمع عنب وهو ثمر شجرة الكرم وربما يطلق على نفس الشجرة.

وقوله : « وَكَواعِبَ » جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير ، والترائب جمع ترب وهي المماثلة لغيرها من اللذات.

وقوله : « وَكَأْساً دِهاقاً » أي ممتلئة شرابا مصدر بمعنى اسم الفاعل.

١٦٩

وقوله : « لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً » أي لا يسمعون في الجنة لغوا من القول لا يترتب عليه أثر مطلوب ولا تكذيبا من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حق له أثره المطلوب وصدق مطابق للواقع.

قوله تعالى : « جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً » أي فعل بالمتقين ما فعل حال كونه جزاء من ربك عطية محسوبة فقوله : « جَزاءً » حال وكذا « عَطاءً » و « حِساباً » بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء ، ويحتمل أن يكون عطاء تمييزا أو مفعولا مطلقا.

قيل : إضافة الجزاء إلى الرب مضافا إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وآله تشريف له ، ولم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزها منه تعالى فليس يغشاهم شر إلا من عند أنفسهم قال تعالى : « ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » الأنفال : ٥١.

ووقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين والمتقين معا لتثبيت ما يلوح إليه يوم الفصل الواقع في أول الكلام.

قوله تعالى : « رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ » بيان لقوله : « رَبِّكَ » أريد به أن ربوبيته تعالى عامة لكل شيء وأن الرب الذي يتخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ربا ويدعو إليه رب كل شيء لا كما كان يقول المشركون : إن لكل طائفة من الموجودات ربا والله سبحانه رب الأرباب أو كما كان يقول بعضهم : أنه رب السماء.

وفي توصيف الرب بالرحمن ـ صيغة مبالغة من الرحمة ـ إشارة إلى سعة رحمته وأنها سمة ربوبية لا يحرم منها شيء إلا أن يمتنع منها شيء بنفسه لقصوره وسوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنهم حرموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية.

قوله تعالى : « لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً » وقوع صدر الآية في سياق قوله : « رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ » ـ وشأن الربوبية هو التدبير وشأن الرحمانية بسط الرحمة ـ دليل على أن المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كان يقال : لم فعلت هذا؟ ولم لم تفعل كذا؟ كما يسأل الفاعل منا عن فعله فتكون الجملة « لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً » في معنى قوله تعالى : « لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ » الأنبياء : ٢٣ وقد تقدم الكلام في معنى الآية.

١٧٠

لكن وقوع قوله : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » بعد قوله : « لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً » الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافا إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين والمتقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي ويفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكن الملائكة ـ وهم ممن لا يملكون منه خطابا ـ منزهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى وقد قال فيهم : « عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » الأنبياء : ٢٧ وكذلك الروح الذي هو (١) كلمته وقوله ، وقوله (٢) حق ، وهو تعالى (٣) الحق المبين والحق لا يعارض الحق ولا يناقضه.

ومن هنا يظهر أن المراد بالخطاب الذي لا يملكونه هو الشفاعة وما يجري مجراها من وسائل التخلص من الشر كالعدل والبيع والخلة والدعاء والسؤال قال تعالى : « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ » البقرة : ٢٥٤ ، وقال : « وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ » البقرة : ١٢٣ ، وقال : « يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » هود : ١٠٥.

وبالجملة قوله : « لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً » ضمير الفاعل في « لا يَمْلِكُونَ » لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة والروح والإنس والجن كما هو المناسب للسياق الحاكي عن ظهور العظمة والكبرياء دون خصوص الملائكة والروح لعدم سبق الذكر ودون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل ، والمراد بالخطاب الشفاعة وما يجري مجراها كما تقدم.

وقوله : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » ظرف لقوله : « لا يَمْلِكُونَ » وقيل : لقوله : « لا يَتَكَلَّمُونَ » وهو بعيد مع صلاحية ظرفيته لما سبقه.

والمراد بالروح المخلوق الأمري الذي يشير إليه قوله تعالى : « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » إسراء : ٨٥.

وقيل : المراد به أشراف الملائكة ، وقيل حفظة الملائكة وقيل : ملك موكل على الأرواح. ولا دليل على شيء من هذه الأقوال.

__________________

(١) النحل : ٤٠.

(٢) الأنعام : ٧٣.

(٣) النور : ٢٥.

١٧١

وقيل : المراد به جبريل ، وقيل : أرواح الناس وقيامها مع الملائكة صفا إنما هو بين النفختين قبل أن تلج الأجساد ، وقيل : القرآن والمراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به وشقاوة الكافرين.

ويدفعها أن هذه الثلاثة وإن أطلق على كل منها الروح في كلامه تعالى لكنه مع التقييد كقوله : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » الحجر : ٢٩ ، وقوله : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ » الشعراء : ١٩٣ ، وقوله : « قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ » النحل : ١٠٢ ، وقوله : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا » مريم : ١٧ ، وقوله : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » الشورى : ٥٢ والروح في الآية التي نحن فيها مطلق ، على أن في القولين الأخيرين تحكما ظاهرا.

و « صَفًّا » حال من الروح والملائكة وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي حال كونهم صافين ، وربما استفيد من مقابلة الروح للملائكة أن الروح وحده صف والملائكة جميعا صف.

وقوله : « لا يَتَكَلَّمُونَ » بيان لقوله : « لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً » وضمير الفاعل لأهل الجمع من الروح والملائكة والإنس والجن على ما يفيده السياق.

وقيل : الضمير للروح والملائكة ، وقيل : للناس ووقوع « لا يَمْلِكُونَ » بما مر من معناه و « لا يَتَكَلَّمُونَ » في سياق واحد لا يلائم شيئا من القولين.

وقوله : « إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ » بدل من ضمير الفاعل في « لا يَتَكَلَّمُونَ » أريد به بيان من له أن يتكلم منهم يومئذ بإذن الله فالجملة في معنى قوله : « يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » هود : ١٠٥ على ظاهر إطلاقه.

وقوله : « وَقالَ صَواباً » أي قال قولا صوابا لا يشوبه خطأ وهو الحق الذي لا يداخله باطل ، والجملة في الحقيقة قيد للإذن كأنه قيل : إلا من أذن له الرحمن ولا يأذن إلا لمن قال صوابا فالآية في معنى قوله تعالى : « وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » الزخرف : ٨٦.

وقيل : « إِلَّا مَنْ أَذِنَ » إلخ استثناء ممن يتكلم فيه والمراد بالصواب التوحيد وقول لا إله إلا الله والمعنى لا يتكلمون في حق أحد إلا في حق شخص أذن له الرحمن وقال

١٧٢

ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي أقر بالوحدانية وشهد أن لا إله إلا الله فالآية في معنى قوله تعالى : « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى » الأنبياء : ٢٨.

ويدفعه أن العناية الكلامية في المقام متعلقة بنفي أصل الخطاب والتكلم يومئذ من كل متكلم لا بنفي التكلم في كل أحد مع تسليم جواز أصل التكلم فالمستثنون هم المتكلمون المأذون لهم في أصل التكلم من دون تعرض لمن يتكلم فيه.

( كلام فيما هو الروح في القرآن )

تكررت كلمة الروح ـ والمتبادر منه ما هو مبدأ الحياة ـ في كلامه تعالى ولم يقصرها في الإنسان أو في الإنسان والحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا » مريم : ١٧ ، وقوله : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » الشورى : ٥٢ إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان ومصداق في غيره.

والذي يصلح أن يكون معرفا لها في كلامه تعالى ما في قوله : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » إسراء : ٨٥ حيث أطلقها إطلاقا وذكر معرفا لها أنها من أمره وقد عرف أمره بقوله : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ » يس : ٨٣ فبين أنه كلمة الإيجاد التي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى وقيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل والأسباب الظاهرية.

وبهذه العناية عد المسيح عليه‌السلام كلمة له وروحا منه إذ قال : « وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ » النساء : ١٧١ لما وهبه لمريم عليه‌السلام من غير الطرق العادية ويقرب منه في العناية قوله تعالى : « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » آل عمران : ٥٩.

وهو تعالى وإن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة والتقيد كقوله : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » الحجر ٢٩ ، وقوله : « وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ » السجدة : ٩ ، وقوله : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا » مريم : ١٧ ، وقوله : « وَرُوحٌ مِنْهُ » النساء : ١٧١ وقوله : « وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » البقرة ٨٧ إلى غير ذلك إلا أنه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله : « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » القدر :

١٧٣

٤ وظاهر الآية أنها موجود مستقل وخلق سماوي غير الملائكة ، ونظير الآية بوجه قوله تعالى : « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ » المعارج : ٤.

وأما الروح المتعلقة بالإنسان فقد عبر عنها بمثل قوله : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » « وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ » وأتي بكلمة « مِنْ » الدالة على المبدئية وسماه نفخا وعبر عن الروح التي خصها بالمؤمنين بمثل قوله : « وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » المجادلة : ٢٢ فأتى بالباء الدالة على السببية وسماه تأييدا وتقوية ، وعبر عن الروح التي خصها بالأنبياء بمثل قوله : « وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » البقرة : ٨٧ فأضاف الروح إلى القدس وهو النزاهة والطهارة وسماه أيضا تأييدا.

وبانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أن نسبة الروح المضافة التي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض والظل إلى ذي الظل بإذن الله.

وكذلك الروح المتعلقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله ، وإنما لم يعبر في روح الملك بالنفخ والتأييد كالإنسان بل سماه روحا كما في قوله تعالى : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا » ، وقوله : « قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ » النحل : ١٠٢ ، وقوله : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ » الشعراء : ١٩٣ لأن الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب والبعد من ربهم ، وما يتراءى من الأجسام لهم تمثلات كما يشير إليه قوله تعالى : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » مريم : ١٧ وقد تقدم الكلام في معنى التمثل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلفا من جسم ميت وروح حية فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » الحجر : ٢٩.

وكما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك والإنسان اختلاف التعبير بالنفخ وعدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها وهو الحياة شرفا وخسة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ والتأييد وعد الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة.

فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ».

ومن الروح الروح المؤيد بها المؤمن قال : « أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » المجادلة : ٢٢ وهي أشرف وجودا وأعلى مرتبة وأقوى أثرا من الروح

١٧٤

الإنسانية العامة كما يفيده قوله تعالى وهو في معنى هذه الآية : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » الأنعام : ١٢٢ فقد عد المؤمن حيا ذا نور يمشي به وهو أثر الروح والكافر ميتا وهو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه.

ومن ذلك يظهر أن من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدل على ذلك الآيات المتضمنة لإحياء الأرض بعد موتها.

ومن الروح الروح المؤيد بها الأنبياء قال : « وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » البقرة ٨٧ وسياق الآيات يدل على كون هذه الروح أشرف وأعلى مرتبة من غيرها مما في الإنسان.

وأما قوله : « يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ » المؤمن : ١٥ ، وقوله : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » الشورى ٥٢ فيقبل الانطباق على روح الإيمان وعلى روح القدس والله أعلم.

وقد تقدم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة.

قوله تعالى : « ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ » إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مر من الأوصاف وهو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة وما بعده أعني قوله : « فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً » إلخ فضل تفريع على البيان السابق.

والإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره والمراد بكونه حقا ثبوته حتما مقضيا لا يتخلف عن الوقوع.

قوله تعالى : « فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً » أي مرجعا إلى ربه ينال به ثواب المتقين وينجو به من عذاب الطاغين ، والجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدم من الإخبار بيوم الفصل والاحتجاج عليه ووصفه ، والمعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربه فليرجع.

قوله تعالى : « إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً » إلخ المراد به عذاب الآخرة ، وكونه قريبا لكونه حقا لا ريب في إتيانه وكل ما هو آت قريب.

على أن الأعمال التي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه.

وقوله : « يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ » أي ينتظر المرء جزاء أعماله التي قدمتها يداه بالاكتساب ، وقيل : المعنى ينظر المرء إلى ما قدمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال

١٧٥

تعالى : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ » آل عمران : ٣٠.

وقوله : « وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً » أي يتمنى من شدة اليوم أن لو كان ترابا فاقدا للشعور والإرادة فلم يعمل ولم يجز.

( بحث روائي )

في تفسير القمي : وقوله : « وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً » قال : تفتح أبواب الجنان ، وقوله : « وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » قال : تصير الجبال مثل السراب الذي يلمع في المفازة.

وفيه : وقوله : « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً » قال : الأحقاب السنين والحقب سنة ـ والسنة عددها ثلاثمائة وستون يوما ـ واليوم كألف سنة مما تعدون.

وفي المجمع ، روى نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا ـ والحقب بضع وستون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما ـ كل يوم كألف سنة مما تعدون ـ فلا يتكلن أحد على أن يخرج من النار.

أقول : وأورد الرواية في الدر المنثور ، وفيها ثمانون مكان ستون ولفظ آخرها ، قال ابن عمر : فلا يتكلن أحد إلخ ، وأورد أيضا رواية أخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الحقب أربعون سنة.

وفيه ، وروى العياشي بإسناده عن حمران قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : هذه في الذين يخرجون من النار ، وروي عن الأحول مثله.

وفي تفسير القمي وقوله : « إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً » قال : يفوزون ، قوله « وَكَواعِبَ أَتْراباً » قال : جوار وأتراب لأهل الجنة ، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام قال في قوله : « إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً » قال : هي الكرامات « وَكَواعِبَ أَتْراباً » أي الفتيات النواهد.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الروح جند من جنود الله ـ ليسوا بملائكة لهم رءوس وأيد وأرجل ـ ثم قرأ : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند.

أقول : وقد تقدمت الرواية في ذيل الآيات المشتملة على الروح عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام أن الروح خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل ، وتقدمت الرواية أيضاعن علي عليه‌السلام : أن الروح غير الملائكة ـ واستدل عليه‌السلام عليه بقوله تعالى : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » الآية.

١٧٦

نعم في رواية القمي عن حمران أنه ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل وكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مع الأئمة عليهم‌السلام ، ولعل المراد بالملك مطلق الموجود السماوي أو هو من وهم بعض الرواة في النقل بالمعنى ولا دليل على انحصار الموجودات الأمرية السماوية في الملائكة بل الدليل على خلافه كما يستفاد من قوله تعالى لإبليس حين أبى عن السجود لآدم وقد سجد له الملائكة كلهم أجمعون : « يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ » ص : ٧٥ وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية.

وفي أصول الكافي ، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال قلت : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ » الآية ـ قال نحن والله المأذون لهم يوم القيامة ـ والقائلون صوابا. قلت : ما تقولون إذا تكلمتم؟ قال : نمجد ربنا ونصلي على نبينا ـ ونشفع لشيعتنا ولا يردنا ربنا الحديث.

أقول : ورواه في المجمع ، عن العياشي مرفوعا عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

والرواية من قبيل ذكر بعض المصاديق فهناك شفعاء أخر من الملائكة والأنبياء والمؤمنين مأذون لهم في التكلم ، وهناك شهداء من الأمم مأذون لهم في التكلم على ما ينص عليه القرآن والحديث.

* * *

( سورة النازعات مكية وهي ست وأربعون آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما

١٧٧

هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) ).

( بيان )

في السورة أخبار مؤكد بوقوع البعث والقيامة ، واحتجاج عليه من طريق التدبير

١٧٨

الربوبي المنتج أن الناس سينقسمون يومئذ طائفتين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم وتختتم السورة بالإشارة إلى سؤالهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن وقت قيام الساعة والجواب عنه.

والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى : « وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً » اختلف المفسرون في تفسير هذه الآيات الخمس اختلافا عجيبا مع اتفاقهم على أنها إقسام ، وقول أكثرهم بأن جواب القسم محذوف ، والتقدير أقسم بكذا وكذا لتبعثن.

فقوله : « وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً » قيل : المراد بها ملائكة الموت تنزع الأرواح من الأجساد ، و « غَرْقاً » مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا وتشديدا في النزع.

وقيل : المراد بها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم بشدة ، وقيل : هو الموت ينزع الأرواح من الأبدان نزعا بالغا.

وقيل : المراد بها النجوم تنزع من أفق لتغيب في أفق أي تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها ، وقيل : المراد بها القسي تنزع بالسهم أي تمد بجذب وترها إغراقا في المد فالإقسام بقسي المجاهدين في سبيل الله أو بالمجاهدين أنفسهم ، وقيل : المراد بها الوحش تنزع إلى الكلإ.

وقوله : « وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً » النشط الجذب والخروج والإخراج برفق وسهولة وحل العقدة ، قيل : المراد بها الملائكة الذين يخرجون الأرواح من الأجساد ، وقيل المراد بها خصوص الملائكة يخرجون أرواح المؤمنين من أجسادهم برفق وسهولة ، كما أن المراد بالنازعات غرقا الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم.

وقيل : هم الملائكة الذين ينشطون أرواح الكفار من أجسادهم ، وقيل : المراد بها أرواح المؤمنين أنفسهم ، وقيل : هي النجوم تنشط وتذهب من أفق إلى أفق ، وقيل : هي السهام تنشط من قسيها في الغزوات ، وقيل : هو الموت ينشط ويخرج الأرواح من الأجساد ، وقيل : هي الوحش تنشط من قطر إلى قطر.

وقوله : « وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً » قيل : المراد بها الملائكة تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار ، والسبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح

١٧٩

إذا أسرع في جريه ، وقيل : المراد بها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها من الأبدان سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح كالسابح بالشيء في الماء يرمي ، وقيل : هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين ، وقيل : هي النجوم تسبح في فلكها كما قال تعالى : « وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ».

وقيل : هي خيل الغزاة تسبح في عدوها وتسرع ، وقيل : هي المنايا تسبح في نفوس الحيوان ، وقيل : هي السفن تسبح في المياه ، وقيل : السحاب ، وقيل : دواب البحر.

وقوله : « فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً » قيل المراد بها مطلق الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير والإيمان والعمل الصالح ، وقيل ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار ، وقيل الملائكة القابضون لروح المؤمن تسبق بها إلى الجنة ، وقيل ، ملائكة الوحي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ، وقيل أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة التي يقبضونها شوقا إلى لقاء الله سبحانه ، وقيل هي النجوم تسبق بعضها بعضا في السير ، وقيل هي خيل الغزاة تسبق بعضها بعضا في الحرب ، وقيل هي المنايا تسبق الآمال.

وقوله : « فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً » قيل : المراد بها مطلق الملائكة المدبرين للأمور ، كذا فسر الأكثرون حتى ادعى بعضهم اتفاق المفسرين عليه ، وقيل المراد بها الملائكة الأربعة المدبرون لأمور الدنيا : جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ، فجبرائيل يدبر أمر الرياح والجنود والوحي ، وميكائيل يدبر أمر القطر والنبات ، وعزرائيل موكل بقبض الأرواح ، وإسرافيل يتنزل بالأمر عليهم وهو صاحب الصور ، وقيل : إنها الأفلاك يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا.

وهناك قول بأن الإقسام في الآيات بمضاف محذوف والتقدير ورب النازعات نزعا إلخ.

وأنت خبير بأن سياق الآيات الخمس سياق واحد متصل متشابه الأجزاء لا يلائم كثيرا من هذه الأقوال القاضية باختلاف المعاني المقسم بها ككون المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفار ، وبالناشطات الوحش ، وبالسابحات السفن ، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال وبالمدبرات الأفلاك.

مضافا إلى أن كثيرا منها لا دليل عليها من جهة السياق إلا مجرد صلاحية اللفظ

١٨٠