الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٧

نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً » إسراء : ٥٩ فإن مفاد الآية إما أنا لا نرسل بالآيات إلى هذه الأمة لأن الأمم السابقة كذبوا بها وهؤلاء يماثلونهم في طباعهم فيكذبون بها ، ولا فائدة في الإرسال مع عدم ترتب أثر عليه أو المفاد أنا لا نرسل بها لأنا أرسلنا إلى أوليهم فكذبوا بها فعذبوا وأهلكوا ولو أرسلنا إلى هؤلاء لكذبوا بها وعذبوا عذاب الاستئصال لكنا لا نريد أن نعاجلهم بالعذاب ، وعلى أي حال لا يرسل بالآيات إلى هذه الأمة كما كانت ترسل إلى الأمم الدارجة.

نعم هذا في الآيات المرسلة باقتراح من الناس دون الآيات التي تؤيد بها الرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكآيتي العصا واليد لموسى عليه‌السلام وآية إحياء الموتى وغيرها لعيسى عليه‌السلام ، وكذا الآيات النازلة لطفا منه سبحانه كالخوارق الصادرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا عن اقتراح منهم.

ومثل الآية السابقة قوله تعالى : « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ـ إلى أن قال ـ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً » إسراء : ٩٣ وغير ذلك من الآيات.

والجواب عن هذا الاعتراض يحتاج إلى تقديم مقدمة هي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث رسولا إلى أهل الدنيا كافة بنبوة خاتمة كما يدل عليه قوله تعالى : « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً » الأعراف : ١٥٨ ، وقوله : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » الأنعام : ١٩ ، وقوله : « وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ » الأحزاب : ٤٠ إلى غير ذلك من الآيات.

وقد بدأ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بمكة بدعوة قومه من أهل مكة وحواليها فقابلوه بما استطاعوا من الشقاق والإيذاء والاستهزاء وهموا بإخراجه أو إثباته أو قتله حتى أمره ربه بالهجرة غير أنه آمن به وهو بمكة جمع كثير منهم وإن كانت عامتهم على الكفر والمؤمنون وإن كانوا قليلين بالنسبة إلى المشركين مضطهدين مفتنين لكنهم كانوا في أنفسهم جمعا ذا عدد كما يدل عليه قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » النساء : ٧٧ فقد استجازوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقاتلوا المشركين فلم يأذن الله لهم في ذلك على ما روي في سبب نزول الآية وهذا يدل على أنهم كانوا ذوي عدة وعدة في الجملة ولم يزالوا يزيدون جمعا.

٦١

ثم هاجر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة وبسط هنالك الدعوة ونشر الإسلام فيها وفي حواليها وفي القبائل وفي اليمن وسائر أقطار الجزيرة ما عدا مكة وحواليها ثم بسط الدعوة على غير الجزيرة فكاتب الملوك والعظماء من فارس والروم ومصر سنة ست من الهجرة ثم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وقد أسلم ما بين الهجرة والفتح جمع من أهلها وحواليها.

ثم ارتحل صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان من انتشار الإسلام ما كان ، ولم يزل الإسلام يزيد جمعا وينتشر صيتا إلى يومنا هذا وقد بلغوا خمس أهل الأرض عددا.

إذا تمهد هذا فنقول : كانت آية انشقاق القمر آية اقتراحية تستعقب العذاب لو كذبوا بها وقد كذبوا وقالوا سحر مستمر وما كان الله ليهلك بها جميع من أرسل إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم أهل الأرض جميعا لعدم تمام الحجة عليهم يومئذ وقد كان الانشقاق سنة خمس قبل الهجرة، وقد قال تعالى : « لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ » الأنفال : ٤٢.

وما كان الله ليهلك جميع أهل مكة وحواليها خاصة وبينهم جمع من المسلمين كما قال تعالى : « وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً » الفتح : ٢٥.

وما كان الله سبحانه لينجي المؤمنين ويهلك كفارهم وقد آمن جمع كثير منهم فيما بين سنة خمس قبل الهجرة وسنة ثمان بعد الهجرة عام فتح مكة ثم آمنت عامتهم يوم الفتح والإسلام كان يكتفي منهم بظاهر الشهادتين.

ولم تكن عامة أهل مكة وحواليها أهل عناد وجحود وإنما كان أهل الجحود والعناد عظماؤهم وصناديدهم المستهزئين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المعذبين للمؤمنين، المقترحين عليه بالآيات وهم الذين يقول تعالى فيهم : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » البقرة : ٦ ، وقد أوعد الله هؤلاء الجاحدين المقترحين بتحريم الإيمان والهلاك في مواضع من كلامه فلم يؤمنوا وأهلكهم الله يوم بدر وتمت كلمة الرب صدقا وعدلا.

وأما التمسك لنفي إرسال الآيات مطلقا بقوله تعالى : « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ » فالآية لا تشمل قطعا الآيات المؤيدة للرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا الآيات النازلة لطفا كالخوارق الصادرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الإخبار بالمغيبات وشفاء المرضى بدعائه وغير ذلك.

فلو كانت مطلقة فإنما تشمل الآيات الاقتراحية وتفيد أن الله سبحانه لم يرسل الآيات

٦٢

التي اقترحتها قريش ـ أو لم (١) يرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالآيات التي اقترحوها ـ لأن الأمم السابقة كذبوا بها وطباع هؤلاء المقترحين طباعهم يكذبون بها ولازمها نزول العذاب والله لا يريد أن يعذبهم عاجلا.

وقد أوضح سبحانه سبب عدم معاجلتهم بالعذاب بقوله : « وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » الأنفال : ٣٣ ، واستبان بذلك أن المانع من عذابهم وجود الرسول فيهم كما يفيده أيضا قوله تعالى : « وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً » إسراء : ٧٦.

ثم قال تعالى : « وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » الأنفال : ٣٥ والآيات نزلت عقيب غزوة بدر.

والآيات تبين أنه لم يكن من قبلهم مانع من نزول العذاب غير وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم فإذا زال المانع بخروجه من بينهم فليذوقوا العذاب وهو ما أصابهم في وقعة بدر من القتل الذريع.

وبالجملة كان المانع من إرسال الآيات تكذيب الأولين ومماثلتهم لهم في خصيصة التكذيب ووجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم المانع من معاجلة العذاب فإذا وجد مقتض للعذاب كالصد والمكاء والتصدية وزال أحد ركني المانع وهو كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم فلا مانع من العذاب ولا مانع من نزول الآية وإرسالها ليحق عليهم القول فيعذبوا بسبب تكذيبهم لها وبسبب مقتضيات أخر كالصد ونحوه.

فتحصل أن قوله تعالى : « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ » إلخ ، إنما يفيد الإمساك عن إرسال الآيات ما دام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم وأما إرسالها وتأخير العذاب إلى خروجه من بينهم فلا دلالة فيه عليه وقد صرح سبحانه بأن وقعة بدر كانت آية وما أصابهم فيها كان عذابا ، وكذا لو كان مفاد الآية هو الامتناع عن الإرسال لكونه لغوا بسبب كونهم مجبولين على التكذيب فإن إرسالها مع تأخير العذاب والنكال إلى خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من

__________________

(١) أول شقي الترديد مبني على كون الباء في قوله : « نرسل بالآيات » زائدة والآيات مفعول نرسل ، والثاني مبني على كونها بمعنى المصاحبة والمفعول محذوفا.

٦٣

بينهم من الفائدة ليحق الله الحق ويبطل الباطل فلتكن آية انشقاق القمر من الآيات النازلة التي من فائدتها نزول العذاب عليهم بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بينهم.

وأما قوله تعالى : « قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً » فليس مدلوله نفي تأييد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالآيات المعجزة وإنكار نزولها من أصلها كيف؟ وهو ينفيها عن نفسه بما أنه بشر رسول ، ولو كان المراد ذلك لأفاد إنكار معجزات الأنبياء جميعا لكون كل منهم بشرا رسولا ، وصريح القرآن فيما حدث من قصص الأنبياء وأخبر عن آياتهم يناقض ذلك ، وأوضح من الجميع في مناقضة ذلك نفس الآية التي هي من القرآن المتحدي بالإعجاز.

بل مدلوله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشر رسول غير قادر من حيث نفسه على شيء من الآيات التي يقترحون عليه ، وإنما الأمر إلى الله سبحانه إن شاء أنزلها وإن لم يشأ لم يفعل قال تعالى : « وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ » الأنعام : ١٠٩ ، وقال حاكيا عن قوم نوح : « قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ » هود : ٣٣ ، وقال : « وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ » المؤمن : ٧٨ ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

ومن الاعتراض على آية الانشقاق ما قيل : إن القمر لو انشق كما يقال لرآه جميع الناس ولضبطه أهل الأرصاد في الشرق والغرب لكونه من أعجب الآيات السماوية ولم يعهد فيما بلغ إلينا من التاريخ والكتب الباحثة عن الأوضاح السماوية له نظير والدواعي متوفرة على استماعه ونقله.

وأجيب بما حاصله أن من الممكن أولا : أن يغفل عنه فلا دليل على كون كل حادث أرضي أو سماوي معلوما للناس محفوظا عندهم يرثه خلف عن سلف.

وثانيا : أن الحجاز وما حولها من البلاد العربية وغيرها لم يكن بها مرصد للأوضاع السماوية ، وإنما كان ما كان من المراصد بالهند والمغرب من الروم واليونان وغيرهما ولم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت ـ وهو على ما في بعض الروايات أول الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة سنة خمس قبل الهجرة ـ.

على أن بلاد الغرب التي كانوا معتنين بهذا الشأن بينها وبين مكة من اختلاف الأفق ما

٦٤

يوجب فصلا زمانيا معتدا به وقد كان القمر ـ على ما في بعض الروايات ـ بدرا وانشق في حوالي غروب الشمس حين طلوعه ولم يبق على الانشقاق إلا زمانا يسيرا ثم التأم فيقع طلوعه على بلاد الغرب وهو ملتئم ثانيا.

على أنا نتهم غير المسلمين من أتباع الكنيسة والوثنية في الأمور الدينية التي لها مساس نفع بالإسلام.

ومن الاعتراض عليها ما قيل : إن الانشقاق لا يقع إلا ببطلان التجاذب بين الشقتين وحينئذ يستحيل الالتيام فلو كان منشقا لم يلتئم أبدا.

والجواب عنه أن الاستحالة العقلية ممنوعة ، والاستحالة العادية بمعنى اختراق العادة لو منعت عن الالتيام بعد الانشقاق لمنعت أولا عن الانشقاق بعد الالتيام ولم تمنع وأصل الكلام مبني على جواز خرق العادة.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠)

٦٥

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢).

٦٦

( بيان )

إشارة إلى بعض ما فيه مزدجر من أنباء الأمم الدارجة خص بالذكر من بينهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فذكرهم بأنبائهم وأعاد عليهم إجمال ما قص عليهم سابقا من قصصهم وما آل إليه تكذيبهم بآيات الله ورسله من أليم العذاب وهائل العقاب تقريرا لقوله : « وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ».

ولتوكيد التقرير وتمثيل ما في هذه القصص الزاجرة من الزجر القارع للقلوب عقب كل واحدة من القصص بقوله خطابا لهم : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » ثم ثناه بذكر الغرض من الإنذار والتخويف فقال : « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ».

قوله تعالى : « كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ » التكذيب الأول منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب ، وقوله : « فَكَذَّبُوا عَبْدَنا » إلخ ، تفسيره كما في قوله : « وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ » الخ ، هود : ٤٥.

وقيل : المراد بالتكذيب الأول التكذيب المطلق وهو تكذيبهم بالرسل وبالثاني التكذيب بنوح خاصة كقوله في سورة الشعراء : « كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ » الشعراء : ١٠٥ ، والمعنى : كذبت قوم نوح المرسلين فترتب عليه تكذيبهم لنوح ، وهو وجه حسن.

وقيل : المراد بتفريع التكذب على التكذيب الإشارة إلى كونه تكذيبا إثر تكذيب بطول زمان دعوته فكلما انقرض قرن منهم مكذب جاء بعدهم قرن آخر مكذب ، وهو معنى بعيد.

ومثله قول بعضهم : إن المراد بالتكذيب الأول قصده وبالثاني فعله.

وقوله : « فَكَذَّبُوا عَبْدَنا » في التعبير عن نوح عليه‌السلام بقوله : « عَبْدَنا » في مثل المقام تجليل لمقامه وتعظيم لأمره وإشارة إلى أن تكذيبهم له يرجع إليه تعالى لأنه عبد لا يملك شيئا وما له فهو لله.

وقوله : « وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ » المراد بالازدجار زجر الجن له أثر الجنون ، والمعنى : ولم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وازدجره الجن فلا يتكلم إلا عن زجر وليس كلامه من الوحي السماوي في شيء.

٦٧

وقيل : الفاعل المحذوف للازدجار هو القوم ، والمعنى : وازدجره القوم عن الدعوة والتبليغ بأنواع الإيذاء والتخويف ، ولعل المعنى الأول أظهر.

قوله تعالى : « فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ » الانتصار الانتقام ، وقوله : « أَنِّي مَغْلُوبٌ » أي بالقهر والتحكم دون الحجة ، وهذا الدعاء تلخيص لتفصيل دعائه ، وتفصيل دعائه مذكور في سورة نوح وتفصيل حججه في سورة هود وغيرها.

قوله تعالى : « فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ » قال في المجمع : الهمر صب الدمع والماء بشدة ، والانهمار الانصباب ، انتهى. وفتح أبواب السماء وهي الجو بماء منصب استعارة تمثيلية عن شدة انصباب الماء وجريان المطر متواليا كأنه مدخر وراء باب مسدود يمنع عن انصبابه ففتح الباب فانصب أشد ما يكون.

قوله تعالى : « وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ » قال في المجمع : التفجير تشقيق الأرض عن الماء ، والعيون جمع عين الماء وهو ما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة عين الحيوان. انتهى.

والمعنى : جعلنا الأرض عيونا منفجرة عن الماء تجري جريانا متوافقا متتابعا.

وقوله : « فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ » أي فالتقى الماءان ماء السماء وماء الأرض مستقرا على أمر قدره الله تعالى أي حسب ما قدر من غير نقيصة ولا زيادة ولا عجل ولا مهل.

فالماء اسم جنس أريد به ماء السماء وماء الأرض ولذلك لم يثن ، والمراد بأمر قد قدر الصفة التي قدرها الله لهذا الطوفان.

قوله تعالى : « وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ » المراد بذات الألواح والدسر السفينة ، والألواح جمع لوح وهو الخشبة التي يركب بعضها على بعض في السفينة ، والدسر جمع دسار ودسر وهو المسمار الذي تشد بها الألواح في السفينة ، وقيل فيه معان أخر لا تلائم الآية تلك الملاءمة.

قوله تعالى : « تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ » أي تجري السفينة على الماء المحيط بالأرض بأنواع من مراقبتنا وحفظنا وحراستنا ، وقيل : المراد تجري بأعين أوليائنا ومن وكلناه بها من الملائكة.

وقوله : « جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ » أي جريان السفينة كذلك وفيه نجاة من فيها من الهلاك ليكون جزاء لمن كان كفر به وهو نوح عليه‌السلام كفر به وبدعوته قومه ، فالآية في معنى

٦٨

قوله : « وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ـ إلى أن قال ـ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » الصافات : ٨٠.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ » ضمير « تَرَكْناها » للسفينة على ما يفيده السياق واللام للقسم ، والمعنى : أقسم لقد أبقينا تلك السفينة التي نجينا بها نوحا والذين معه ، وجعلناها آية يعتبر بها من اعتبر فهل من متذكر يتذكر بها وحدانيته تعالى وأن دعوة أنبيائه حق ، وأن أخذه أليم شديد؟ ولازم هذا المعنى بقاء السفينة إلى حين نزول هذه الآيات علامة دالة على واقعة الطوفان مذكرة لها ، وقد قال بعضهم في تفسير الآية على ما نقل : أبقى الله سفينة نوح على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة (١) ، انتهى. وقد أوردنا في تفسير سورة هود في آخر الأبحاث حول قصة نوح خبر أنهم عثروا في بعض قلل جبل آراراط وهو الجودي قطعات أخشاب من سفينة متلاشية وقعت هناك ، فراجع.

وقيل : ضمير « تَرَكْناها » لما مر من القصة بما أنها فعله.

قوله تعالى : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » النذر جمع نذير بمعنى الإنذار ، وقيل :

مصدر بمعنى الإنذار. والظاهر أن « كانَ » ناقصة واسمها « عَذابِي » وخبرها « فَكَيْفَ » ، ويمكن أن تكون تامة فاعلها قوله : « عَذابِي » وقوله : « فَكَيْفَ » حالا منه.

وكيف كان فالاستفهام للتهويل يسجل به شدة العذاب وصدق الإنذار.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ » التيسير التسهيل وتيسير القرآن للذكر هو إلقاؤه على نحو يسهل فهم مقاصده للعامي والخاصي والأفهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه.

ويمكن أن يراد به تنزيل حقائقه العالية ومقاصده المرتفعة عن أفق الأفهام العادية إلى مرحلة التكليم العربي تناله عامة الأفهام كما يستفاد من قوله تعالى : « إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ » الزخرف : ٤.

والمراد بالذكر ذكره تعالى بأسمائه أو صفاته أو أفعاله ، قال في المفردات : الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ

__________________

(١) رواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.

٦٩

إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه ، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول ، ولذلك قيل : الذكر ذكران : ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان : ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ ، وكل قول يقال له ذكر. انتهى.

ومعنى الآية : وأقسم لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به ، فيذكر الله تعالى وشئونه ، فهل من متذكر يتذكر به فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه من الدين الحق؟.

فالآية دعوة عامة إلى التذكر بالقرآن بعد تسجيل صدق الإنذار وشدة العذاب الذي أنذر به.

قوله تعالى : « كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » شروع في قصة أخرى من القصص التي فيها الازدجار ولم يعطف على ما قبلها ـ ومثلها القصص الآتية ـ لأن كل واحدة من هذه القصص مستقلة كافية في الزجر والردع والعظة لو اتعظوا بها.

وقوله : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » مسوق لتوجيه قلوب السامعين إلى ما يلقى إليهم من كيفية العذاب الهائل بقوله : « إِنَّا أَرْسَلْنا » إلخ ، وليس مسوقا للتهويل وتسجيل شدة العذاب وصدق الإنذار كسابقه وإلا لتكرر قوله بعد : « فَكَيْفَ كانَ » إلخ ، كذا قيل وهو وجه حسن.

قوله تعالى : « إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ » بيان لما استفهم عنه في قوله : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » والصرصر ـ على ما في المجمع ـ الريح الشديدة الهبوب ، والنحس بالفتح فالسكون مصدر كالنحوسة بمعنى الشؤم ، و مُسْتَمِرٍّ صفة لنحس ، ومعنى إرسال الريح في يوم نحس مستمر إرسالها في يوم متلبس بالنحوسة والشأمة بالنسبة إليهم المستمرة عليهم لا يرجى فيه خير لهم ولا نجاة.

والمراد باليوم قطعة من الزمان لا اليوم الذي يساوي سبع الأسبوع لقوله تعالى في موضع آخر من كلامه : « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ » حم السجدة ١٦ ، وفي موضع آخر : « سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً » الحاقة : ٧.

وفسر بعضهم النحس بالبرد.

قوله تعالى : « تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ » فاعل « تَنْزِعُ » ضمير راجع إلى

٧٠

الريح أي تنزع الريح الناس من الأرض ، وأعجاز النخل أسافله ، والمنقعر المقلوع من أصله ، والمعنى ظاهر ، وفي الآية إشعار ببسطة القوم أجساما.

قوله تعالى : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ـ إلى قوله ـ مُدَّكِرٍ » تقدم تفسير الآيتين.

( كلام في سعادة الأيام ونحوستها والطيرة والفأل في فصول )

١ ـ في سعادة الأيام ونحوستها : نحوسة اليوم أو أي مقدار من الزمان أن لا يعقب الحوادث الواقعة فيه إلا الشر ولا يكون الأعمال أو نوع خاص من الأعمال فيه مباركة لعاملها ، وسعادته خلافه.

ولا سبيل لنا إلى إقامة البرهان على سعادة يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة ولا نحوسته وطبيعة الزمان المقدارية متشابهة الأجزاء والأبعاض ، ولا إحاطة لنا بالعلل والأسباب الفاعلة المؤثرة في حدوث الحوادث وكينونة الأعمال حتى يظهر لنا دوران اليوم أو القطعة من الزمان من علل وأسباب تقتضي سعادته أو نحوسته ، ولذلك كانت التجربة الكافية غير متأتية لتوقفها على تجرد الموضوع لأثره حتى يعلم أن الأثر أثره وهو غير معلوم في المقام.

ولما مر بعينه لم يكن لنا سبيل إلى إقامة البرهان على نفي السعادة والنحوسة كما لم يكن سبيل إلى الإثبات وإن كان الثبوت بعيدا فالبعد غير الاستحالة. هذا بحسب النظر العقلي.

وأما بحسب النظر الشرعي ففي الكتاب ذكر من النحوسة وما يقابلها ، قال تعالى : « إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ » القمر : ١٩ ، وقال : « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ » حم السجدة : ١٦ ، لكن لا يظهر من سياق القصة ودلالة الآيتين أزيد من كون النحوسة والشؤم خاصة بنفس الزمان الذي كانت تهب عليهم فيه الريح عذابا وهو سبع ليال وثمانية أيام متوالية يستمر عليهم فيها العذاب من غير أن تدور بدوران الأسابيع وهو ظاهر وإلا كان جميع الزمان نحسا ، ولا بدوران الشهور والسنين.

وقال تعالى : « وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ » الدخان : ٣ ، والمراد بها ليلة القدر التي يصفها الله تعالى بقوله : « لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ » القدر : ٣ ، وظاهر

٧١

أن مباركة هذه الليلة وسعادتها إنما هي بمقارنتها نوعا من المقارنة لأمور عظام من الإفاضات الباطنية الإلهية وأفاعيل معنوية كإبرام القضاء ونزول الملائكة والروح وكونها سلاما ، قال تعالى : « فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ » الدخان : ٤ ، وقال : « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ » القدر : ٥.

ويئول معنى مباركتها وسعادتها إلى فضل العبادة والنسك فيها وغزارة ثوابها وقرب العناية الإلهية فيها من المتوجهين إلى ساحة العزة والكبرياء.

وأما السنة فهناك روايات كثيرة جدا في السعد والنحس من أيام الأسبوع ومن أيام الشهور العربية ومن أيام شهور الفرس ومن أيام الشهور الرومية ، وهي روايات بالغة في الكثرة مودعة في جوامع الحديث (١) أكثرها ضعاف من مراسيل ومرفوعات وإن كان فيها ما لا يخلو من اعتبار من حيث إسنادها.

أما الروايات العادة للأيام النحسة كيوم الأربعاء والأربعاء لا تدور (٢) وسبعة أيام من كل شهر عربي ويومين من كل شهر رومي ونحو ذلك ، ففي كثير منها وخاصة فيما يتعرض لنحوسة أيام الأسبوع وأيام الشهور العربية تعليل نحوسة اليوم بوقوع حوادث مرة غير مطلوبة بحسب المذاق الديني كرحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشهادة الحسين عليه‌السلام وإلقاء إبراهيم عليه‌السلام في النار ونزول العذاب بأمة كذا وخلق النار وغير ذلك.

ومعلوم أن في عدها نحسة مشئومة وتجنب اقتراب الأمور المطلوبة وطلب الحوائج التي يلتذ الإنسان بالحصول عليها فيها تحكيما للتقوى وتقوية للروح الدينية وفي عدم الاعتناء والاهتمام بها والاسترسال في الاشتغال بالسعي في كل ما تهواه النفس في أي وقت كان إضرابا عن الحق وهتكا لحرمة الدين وإزراء لأوليائه فتئول نحوسة هذه الأيام إلى جهات من الشقاء المعنوي منبعثة عن علل وأسباب اعتبارية مرتبطة نوعا من الارتباط بهذه الأيام تفيد نوعا من الشقاء الديني على من لا يعتني بأمرها.

وأيضا قد ورد في عدة من هذه الروايات الاعتصام بالله بصدقة أو صوم أو دعاء أو قراءة شيء من القرآن أو غير ذلك لدفع نحوسة هذه الأيام كما عن مجالس ابن الشيخ ، بإسناده

__________________

(١) أوردت منها في الجزء الرابع عشر من كتاب البحار أحاديث جمة.

(٢) أربعاء لا تدور هي آخر أربعاء في الشهر.

٧٢

عن سهل بن يعقوب الملقب بأبي نواس عن العسكري عليه‌السلام في حديث : قلت : يا سيدي في أكثر هذه الأيام قواطع عن المقاصد ـ لما ذكر فيها من النحس والمخاوف ـ فتدلني على الاحتراز من المخاوف فيها ـ فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها؟ فقال لي : يا سهل إن لشيعتنا بولايتنا لعصمة ـ لو سلكوا بها في لجة البحار الغامرة ـ وسباسب (١) البيداء الغائرة بين سباع وذئاب ـ وأعادي الجن والإنس ـ لآمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا ، فثق بالله عز وجل وأخلص في الولاء لأئمتك الطاهرين ـ وتوجه حيث شئت واقصد ما شئت. الحديث.

ثم أمره عليه‌السلام بشيء من القرآن والدعاء أن يقرأه ـ ويدفع به النحوسة والشأمة ويقصد ما شاء.

وفي الخصال ، بإسناده عن محمد بن رياح الفلاح قال : رأيت أبا إبراهيم عليه‌السلام يحتجم يوم الجمعة فقلت : جعلت فداك تحتجم يوم الجمعة؟ قال : أقرأ آية الكرسي فإذا هاج بك الدم ليلا كان أو نهارا فاقرأ آية الكرسي واحتجم.

وفي الخصال ، أيضا بإسناده عن محمد بن أحمد الدقاق قال : كتبت إلى أبي الحسن الثاني عليه‌السلام أسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا تدور ، فكتب عليه‌السلام : من خرج يوم الأربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة وعوفي من كل عاهة وقضى الله له حاجته. وكتب إليه مرة أخرى يسأله عن الحجامة يوم الأربعاء لا تدور ، فكتب عليه‌السلام : من احتجم في يوم الأربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة عوفي من كل آفة ، ووقي من كل عاهة ، ولم (٢) تخضر محاجمه.

وفي معناها ما في تحف العقول : قال الحسين بن مسعود : دخلت على أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام وقد نكبت إصبعي وتلقاني راكب وصدم كتفي ، ودخلت في زحمه فخرقوا علي بعض ثيابي فقلت : كفاني الله شرك من يوم فما أيشمك. فقال عليه‌السلام لي : يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له؟.

قال الحسن : فأثاب إلى عقلي وتبينت خطئي فقلت : يا مولاي أستغفر الله. فقال :

__________________

(١) السباسب جمع سبسب : المفازة.

(٢) هذه الجملة إشارة إلى نفي ما في عدة من الروايات أن من احتجم في يوم الأربعاء أو يوم الأربعاء لا تدور اخضرت محاجمه ، وفي بعضها خيف عليه أن تخضر محاجمه.

٧٣

يا حسن ما ذنب الأيام ـ حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟ قال الحسن : أنا أستغفر الله أبدا ، وهي توبتي يا بن رسول الله.

قال : ما ينفعكم ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه. أما علمت يا حسن ـ أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟ قلت : بلى يا مولاي. قال : لا تعد ولا تجعل للأيام صنعا في حكم الله. قال الحسن : بلى يا مولاي.

والروايات السابقة ـ ولها نظائر في معناها ـ يستفاد منها أن الملاك في نحوسة هذه الأيام النحسات هو تطير عامة الناس بها وللتطير تأثير نفساني كما سيأتي ، وهذه الروايات تعالج نحوستها التي تأتيها من قبل الطيرة بصرف النفس عن الطيرة إن قوي الإنسان على ذلك ، وبالالتجاء إلى الله سبحانه والاعتصام به بقرآن يتلوه أو دعاء يدعو به إن لم يقو عليه بنفسه.

وحمل بعضهم هذه الروايات المسلمة لنحوسة بعض الأيام على التقية، وليس بذاك البعيد فإن التشاؤم والتفاؤل بالأزمنة والأمكنة والأوضاع والأحوال من خصائص العامة يوجد منه عندهم شيء كثير عند الأمم والطوائف المختلفة على تشتتهم وتفرقهم منذ القديم إلى يومنا وكان بين الناس حتى خواصهم في الصدر الأول في ذلك روايات دائرة يسندونها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يسع لأحد أن يردها كما في كتاب المسلسلات، بإسناده عن الفضل بن الربيع قال : كنت يوما مع مولاي المأمون فأردنا الخروج يوم الأربعاء فقال المأمون : يوم مكروه سمعت أبي الرشيد يقول : سمعت المهدي يقول : سمعت المنصور يقول : سمعت أبي محمد بن علي يقول : سمعت أبي عليا يقول : سمعت أبي عبد الله بن عباس يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إن آخر الأربعاء في الشهر يوم نحس مستمر.

وأما الروايات الدالة على الأيام السعيدة من الأسبوع وغيرها فالوجه فيها نظير ما تقدمت إليه الإشارة في الأخبار الدالة على نحوستها من الوجه الأول فإن في هذه الأخبار تعليل بركة ما عده من الأيام السعيدة بوقوع حوادث متبركة عظيمة في نظر الدين كولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثته وكما ورد : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا فقال : اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم سبتها وخميسها ، وما ورد : أن الله ألان الحديد لداود عليه‌السلام يوم الثلاثاء ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخرج للسفر يوم الجمعة ، وأن الأحد من أسماء الله تعالى.

فتبين مما تقدم على طوله أن الأخبار الواردة في سعادة الأيام ونحوستها لا تدل على أزيد

٧٤

من ابتنائهما على حوادث مرتبطة بالدين توجب حسنا وقبحا بحسب الذوق الديني أو بحسب تأثير النفوس ، وأما اتصاف اليوم أو أي قطعة من الزمان بصفة الميمنة أو المشأمة واختصاصه بخواص تكوينية عن علل وأسباب طبيعية تكوينية فلا ، وما كان من الأخبار ظاهرا في خلاف ذلك فإما محمول على التقية أو لا اعتماد عليه.

٢ ـ في سعادة الكواكب ونحوستها وتأثير الأوضاع السماوية في الحوادث الأرضية سعادة ونحوسة. الكلام في ذلك من حيث النظر العقلي كالكلام في سعادة الأيام ونحوستها فلا سبيل إلى إقامة البرهان على شيء من ذلك كسعادة الشمس والمشتري وقران السعدين ونحوسة المريخ وقران النحسين والقمر في العقرب.

نعم كان القدماء من منجمي الهند يرون للحوادث الأرضية ارتباطا بالأوضاع السماوية مطلقا أعم من أوضاع الثوابت والسيارات ، وغيرهم يرى ذلك بين الحوادث وبين أوضاع السيارات السبع دون الثوابت وأوردوا لأوضاعها المختلفة خواص وآثارا تسمى بأحكام النجوم يرون عند تحقق كل وضع أنه يعقب وقوع آثاره.

والقوم بين قائل بأن الأجرام الكوكبية موجودات ذوات نفوس حية مريدة تفعل أفاعيلها بالعلية الفاعلية ، وقائل بأنها أجرام غير ذات نفس تؤثر أثرها بالعلية الفاعلية ، أو هي معدات لفعله تعالى وهو الفاعل للحوادث أو أن الكواكب وأوضاعها علامات للحوادث من غير فاعلية ولا إعداد ، أو أنه لا شيء من هذه الارتباطات بينها وبين الحوادث حتى على نحو العلامية وإنما جرت عادة الله على أن يحدث حادثة كذا عند وضع سماوي ، كذا.

وشيء من هذه الأحكام ليس بدائمي مطرد بحيث يلزم حكم كذا وضعا كذا فربما تصدق وربما تكذب لكن الذي بلغنا من عجائب القصص والحكايات في استخراجاتهم يعطي أن بين الأوضاع السماوية والحوادث الأرضية ارتباطا ما إلا أنه في الجملة لا بالجملة كما أن بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام يصدق ذلك كذلك.

وعلى هذا لا يمكن الحكم البتي بكون كوكب كذا أو وضع كذا سعدا أو نحسا وأما أصل ارتباط الحوادث والأوضاع السماوية والأرضية بعضها ببعض فليس في وسع الباحث الناقد إنكار ذلك.

وأما القول بكون الكواكب أو الأوضاع السماوية ذوات تأثير فيما دونها سواء قيل

٧٥

بكونها ذوات نفوس ناطقة أو لم يقل فليس مما يخالف شيئا من ضروريات الدين إلا أن يقال بكونها خالقة موجدة لما دونها من غير أن ينتهي ذلك إليه تعالى فيكون شركا لكنه لا قائل به حتى من وثنية الصابئة التي تعبد الكواكب ، أو أن يقال بكونها مدبرة للنظام الكوني مستقلة في التدبير فيكون ربوبية تستعقب المعبودية فيكون شركا كما عليه الصابئة عبدة الكواكب.

وأما الروايات الواردة في تأثير النجوم سعدا ونحسا وتصديقا وتكذيبا فهي كثيرة جدا على أقسام :

منها : ما يدل بظاهره على تسليم السعادة والنحوسة فيها كما في الرسالة الذهبية ، عن الرضا عليه‌السلام : اعلم أن جماعهن والقمر في برج الحمل ـ أو الدلو من البروج أفضل ـ وخير من ذلك أن يكون في برج الثور ـ لكونه شرف القمر.

وفي البحار ، عن النوادر بإسناده عن حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم ير الحسنى الخبر ، وفي كتاب النجوم ، لابن طاووس عن علي عليه‌السلام : يكره أن يسافر الرجل في محاق الشهر ـ وإذا كان القمر في العقرب.

ويمكن حمل أمثال هذه الروايات على التقية على ما قيل ، أو على مقارنة الطيرة العامة كما ربما يشعر به ما في عدة من الروايات من الأمر بالصدقة لدفع النحوسة

كما في نوادر الراوندي ، بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده في حديث : إذا أصبحت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم ، وإذا أمسيت فتصدق بصدقة ـ تذهب عنك نحس تلك الليلة الخبر ، ويمكن أن يكون ذلك لارتباط خاص بين الوضع السماوي والحادثة الأرضية بنحو الاقتضاء.

ومنها : ما يدل على تكذيب تأثيرات النجوم في الحوادث والنهي الشديد عن الاعتقاد بها والاشتغال بعلمها كما في نهج البلاغة : المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر ـ والساحر كالكافر والكافر في النار. ويظهر من أخبار أخر تصدقها وتجوز النظر فيها أن النهي عن الاشتغال بها والبناء عليها إنما هو فيما اعتقد لها استقلال في التأثير لتأديته إلى الشرك كما تقدم.

ومنها : ما يدل على كونه حقا في نفسه غير أن قليله لا ينفع وكثيره لا يدرك كما في الكافي ، بإسناده عن عبد الرحمن بن سيابة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك

٧٦

إن الناس يقولون : إن النجوم لا يحل النظر فيها وهو يعجبني فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شيء يضر بديني ، وإن كانت لا تضر بديني فو الله إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها. فقال : ليس كما يقولون لا يضر بدينك ثم قال : إنكم تنظرون في شيء منها كثيرة لا يدرك وقليله لا ينتفع به. الخبر.

وفي البحار عن كتاب النجوم لابن طاوس عن معاوية بن حكيم عن محمد بن زياد عن محمد بن يحيى الخثعمي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن النجوم حق هي؟ قال لي : نعم فقلت له : وفي الأرض من يعلمها؟ قال : نعم وفي الأرض من يعلمها ، وفي عدة من الروايات : ما يعلمها إلا أهل بيت من الهند وأهل بيت من العرب وفي بعضها : من قريش.

وهذه الروايات تؤيد ما قدمناه من أن بين الأوضاع والأحكام ارتباطا ما في الجملة.

نعم ورد في بعض هذه الروايات : أن الله أنزل المشتري على الأرض في صورة رجل فلقي رجلا من العجم فعلمه النجوم حتى ظن أنه بلغ ثم قال له : انظر أين المشتري؟ فقال : ما أراه في الفلك وما أدري أين هو؟ فنحاه وأخذ بيد رجل من الهند فعلمه حتى ظن أنه قد بلغ وقال : انظر إلى المشتري أين هو؟ فقال : إن حسابي ليدل على أنك أنت المشتري قال : فشهق شهقة فمات وورث علمه أهله فالعلم هناك. الخبر ، وهو أشبه بالموضوع.

٣ ـ في التفاؤل والتطير وهما الاستدلال بحادث من الحوادث على الخير وترقبه وهو التفاؤل أو على الشر وهو التطير وكثيرا ما يؤثران ويقع ما يترقب منهما من خير أو شر وخاصة في الشر وذلك تأثير نفساني.

وقد فرق الإسلام بين التفاؤل والتطير فأمر بالتفاؤل ونهى عن التطير ، وفي ذلك تصديق لكون ما فيهما من التأثير تأثيرا نفسانيا.

أما التفاؤل ففيما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : تفاءلوا بالخير تجدوه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله كثير التفاؤل نقل عنه ذلك في كثير من مواقفه (١).

وأما التطير فقد ورد في مواضع من الكتاب نقله عن أمم الأنبياء في دعواتهم لهم حيث كانوا يظهرون لأنبيائهم أنهم اطيروا بهم فلا يؤمنون ، وأجاب عن ذلك أنبياؤهم

__________________

(١) كما ورد في قصة الحديبية : جاء سهيل بن عمرو فقال صلى الله عليه وآله : قد سهل عليكم أمركم. وكما في قصة كتابه الى خسرو برويز يدعوه الى الإسلام فمزق كتابه وأرسل إليه قبضة من تراب فتفاءل صلى الله عليه وآله منه أن المؤمنين سيملكون أرضهم.

٧٧

بما حاصله أن التطير لا يقلب الحق باطلا ولا الباطل حقا ، وأن الأمر إلى الله سبحانه لا إلى الطائر الذي لا يملك لنفسه شيئا فضلا عن أن يملك لغيره الخير والشر والسعادة والشقاء قال تعالى : « قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ » يس : ١٩ ، أي ما يجر إليكم الشر هو معكم لا معنا ، وقال : « قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ » النمل : ٤٧ ، أي الذي يأتيكم به الخير أو الشر عند الله فهو الذي يقدر فيكم ما يقدر لا أنا ومن معي فليس لنا من الأمر شيء.

وقد وردت أخبار كثيرة في النهي عن الطيرة وفي دفع شؤمها بعدم الاعتناء أو بالتوكل والدعاء ، وهي تؤيد ما قدمناه من أن تأثيرها من التأثيرات النفسانية ففي الكافي ، بإسناده عن عمرو بن حريث قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت ، وإن شددتها تشددت ، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا. ودلالة الحديث على كون تأثيرها من التأثيرات النفسانية ظاهرة ، ومثله الحديث المروي من طرق أهل السنة : ثلاث لا يسلم منها أحد : الطيرة والحسد والظن. قيل : فما نصنع؟ قال : إذا تطيرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقق.

وفي معناه ما في الكافي ، عن القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كفارة الطيرة التوكل.

الخبر وذلك أن في التوكل إرجاع أمر التأثير إلى الله تعالى ، فلا يبقى للشيء أثر حتى يتضرر به ، وفي معناه ما ورد من طرق أهل السنة على ما في نهاية ابن الأثير : الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل.

وفي المعنى السابق ما روي عن موسى بن جعفر عليه‌السلام أنه قال : الشؤم للمسافر في طريقه سبعة أشياء : الغراب الناعق عن يمينه ، والكلب الناشر لذنبه ، والذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل وهو مقع على ذنبه ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا ، والظبي السانح عن يمين إلى شمال ، والبومة الصارخة ، والمرأة الشمطاء تلقى فرجها ، والأتان العضبان يعني الجدعاء ، فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل : اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فيعصم من ذلك (١).

__________________

(١) الخبر على ما في البحار مذكور في الكافي والخصال والمحاسن والفقيه وما في المتن مطابق لبعض نسخ الفقيه.

٧٨

ويلحق بهذا البحث الكلامي في نحوسة سائر الأمور المعدودة عند العامة مشئومة نحسة كالعطاس مرة واحدة عند العزم على أمر وغير ذلك وقد وردت في النهي عن التطير بها والتوكل عند ذلك روايات في أبواب متفرقة ، وفي النبوي المروي من طرق الفريقين : لا عدوى (١) ، ولا طيرة ، ولا هامة ، ولا شؤم ، ولا صفر ، ولا رضاع بعد فصال ، ولا تعرب بعد هجرة ، ولا صمت يوما إلى الليل ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك ، ولا يتم بعد إدراك.

* * *

قوله تعالى : « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ » النذر إما مصدر كما قيل والمعنى : كذبت ثمود بإنذار نبيهم صالح عليه‌السلام ، وإما جمع نذير بمعنى المنذر ، والمعنى : كذبت ثمود بالأنبياء لأن تكذيبهم بالواحد منهم تكذيب منهم بالجميع لأن رسالتهم واحدة لا اختلاف فيها فيكون في معنى قوله : « كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ » الشعراء : ١٤١ ، وإما جمع نذير بمعنى الإنذار ومرجعه إلى أحد المعنيين السابقين.

قوله تعالى : « فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ » تفريع على التكذيب والسعر جمع سعير بمعنى النار المشتعلة ، واحتمل أن يكون بمعنى الجنون وهو أنسب للسياق ، والظاهر أن المراد بالواحد الواحد العددي ، والمعنى : كذبوا به فقالوا : أبشرا من نوعنا وهو شخص واحد لا عدة له ولا جموع معه نتبعه إنا إذا مستقرون في ضلال عجيب وجنون.

فيكون هذا القول توجيها منهم لعدم اتباعهم لصالح لفقده العدة والقوة وهم قد اعتادوا على اتباع من عنده ذلك كالملوك والعظماء وقد كان صالح عليه‌السلام يدعوهم إلى طاعة نفسه ورفض طاعة عظمائهم كما يحكيه الله سبحانه عنه بقوله : « فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ » الشعراء : ١٥١.

__________________

(١) العدوى مصدر كالأعداء بمعنى تجاوز مرض المريض منه الى غيره كما يقال في الجرب والوباء والجدري وغيرها ، والمراد بنفي العدوى كما يفيده مورد الرواية أن يكون العدوى مقتضى المرض من غير انتساب الى مشية الله تعالى ، والهامة ما كان أهل الجاهلية يزعمون أن روح القتيل تصير طائراً يأوي الى قبره ويصيح ويشتكي العطش حتى يؤخذ بثأره ، والصفر هو التصغير عند سقاية الحيوان وغيره.

٧٩

ولو أخذ الواحد واحدا نوعيا كان المعنى : أبشرا هو واحد منا أي هو مثلنا ومن نوعنا نتبعه؟ وكانت الآية التالية مفسرة لها.

قوله تعالى : « أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ » الاستفهام كسابقه للإنكار والمعنى : أأنزل الوحي عليه واختص به من بيننا ولا فضل له علينا؟ لا يكون ذلك أبدا ، والتعبير بالإلقاء دون الإنزال ونحوه للإشعار بالعجلة كما قيل.

ومن المحتمل أن يكون المراد نفي أن يختص بإلقاء الذكر من بينهم وهو بشر مثلهم فلو كان الوحي حقا وجاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر كلهم فما باله اختص بما من شأنه أن يرزقه الجميع؟ فتكون الآية في معنى قولهم له كما في سورة الشعراء : « ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا » الشعراء : ١٥٤.

وقوله : « بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ » أي شديد البطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بهذا الطريق.

قوله تعالى : « سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ » حكاية قوله سبحانه لصالح عليه‌السلام كالآيتين بعدها.

والمراد بالغد العاقبة من قولهم : إن مع اليوم غدا ، يشير سبحانه به إلى ما سينزل عليهم من العذاب فيعلمون عند ذلك علم عيان من هو الكذاب الأشر صالح أو هم؟.

قوله تعالى : « إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ » في مقام التعليل لما أخبر من أنهم سينزل عليهم العذاب والمفاد أنهم سينزل عليهم العذاب لأنا فاعلون كذا وكذا ، والفتنة الامتحان والابتلاء ، والمعنى : أنا مرسلون ـ على طريق الإعجاز ـ الناقة التي يسألونها امتحانا لهم فانتظرهم واصبر على أذاهم.

قوله تعالى : « وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ » ضمير الجمع الأول للقوم والثاني للقوم والناقة على سبيل التغليب ، والقسمة بمعنى المقسوم ، والشرب النصيب من شرب الماء ، والمعنى : وخبرهم بعد إرسال الناقة أن الماء مقسوم بين القوم وبين الناقة كل نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه فيحضر القوم عند شربهم والناقة عند شربها قال تعالى : « قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » الشعراء : ١٥٥.

قوله تعالى : « فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ » المراد بصاحبهم عاقر الناقة ، والتعاطي التناول والمعنى : فنادى القوم عاقر الناقة لعقرها فتناول عقرها فعقرها وقتلها.

٨٠