الميزان في تفسير القرآن - ج ١٨

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

وانتظر يوما ينادي فيه المنادي ملقيا سمعك لاستماع ندائه ، والمراد بنداء المنادي نفخ صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.

وكون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب والبعد فإنما هو نداء البعث وكلمة الحياة.

قوله تعالى : « يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ » بيان ليوم ينادي المنادي ، وكون الصيحة بالحق لأنها مقضية قضاء محتوما كما مر في قوله : « وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ » الآية.

وقوله : « ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ » أي يوم الخروج من القبور كما قال تعالى : « يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً » المعارج : ٤٣.

قوله تعالى : « إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ » المراد بالإحياء إفاضة الحياة على الأجساد الميتة في الدنيا ، وبالإماتة الإماتة في الدنيا وهي النقل إلى عالم القبر ، وبقوله : « وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ » الإحياء بالبعث في الآخرة على ما يفيده السياق.

قوله تعالى : « يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ » أصل « تَشَقَّقُ » تتشقق أي تتصدع عنهم فيخرجون منها مسارعين إلى الداعي.

وقوله : « ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ » أي ما ذكرنا من خروجهم من القبور المنشقة عنهم سراعا جمع لهم علينا يسير.

قوله تعالى : « نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » في مقام التعليل لقوله : « فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ » الآية ، والجبار المتسلط الذي يجبر الناس على ما يريد.

والمعنى : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك وانتظر البعث فنحن أعلم بما يقولون سنجزيهم بما عملوا ولست أنت بمتسلط جبار عليهم حتى تجبرهم على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر وإذا كانت حالهم هذه الحال فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي.

٣٦١

بحث روائي

في الدر المنثور ، أخرج الطبراني في الأوسط ، وابن عساكر عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوله : « وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ـ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ » قبل طلوع الشمس صلاة الصبح ، وقبل الغروب صلاة العصر.

وفي المجمع ، روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن قوله : « وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ـ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ » فقال : تقول حين تصبح وحين تمسي عشر مرات : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ـ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

أقول : هو مأخوذ من إطلاق التسبيح في الآية وإن كان خصوص مورده صلاتي الصبح والعصر فلا منافاة.

وفي الكافي ، بإسناده عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت : « وَأَدْبارَ السُّجُودِ » قال : ركعات بعد المغرب.

أقول : ورواه القمي في تفسيره ، بإسناده عن ابن أبي نصر عن الرضا عليه‌السلام ولفظه قال : أربع ركعات بعد المغرب.

وفي الدر المنثور ، أخرج مسدد في مسنده ، وابن المنذر وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أدبار النجوم والسجود ـ فقال : أدبار السجود الركعتان بعد المغرب ، وأدبار النجوم الركعتان قبل الغداة.

أقول : وروي مثله عن ابن عباس وعمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسنده في مجمع البيان ، إلى الحسن بن علي عليه‌السلام أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » قال : ذكر يا محمد ما وعدناه من العذاب.

٣٦٢

(سورة الذاريات مكية ، وهي ستون آية)

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ـ ١. فَالْحامِلاتِ وِقْراً ـ ٢. فَالْجارِياتِ يُسْراً ـ ٣. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ـ ٤. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ـ ٥. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ـ ٦. وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ـ ٧. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ـ ٨. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ـ ٩. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ـ ١٠. الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ ـ ١١. يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ـ ١٢. يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ـ ١٣. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ـ ١٤. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ـ ١٥. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ـ ١٦. كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ـ ١٧. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ـ ١٨. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ـ ١٩. )

بيان

كانت الدعوة النبوية تدعو الوثنية إلى توحيد الربوبية وإن الله تعالى هو ربهم ورب كل شيء ، وكانت الدعوة من طريق الإنذار والتبشير وخاصة بالإنذار وكان

٣٦٣

الإنذار بعذاب الله في الدنيا للمكذبين عذاب الاستئصال ، وفي الآخرة بالعذاب الخالد يوم القيامة وهو العمدة في نجاح الدعوة إذ لو لا الحساب والجزاء يوم القيامة كان الإيمان بالوحدانية والنبوة لغي لا أثر له.

والمشركون باتخاذهم آلهة دون الله سبحانه شددوا الإنكار لأصول التوحيد والنبوة والمعاد ، وكانوا يتعنتون بإنكار المعاد والإصرار على نفيه والاستهزاء به من أي طريق ممكن لما يرون أن في بطلانه بطلان الأصلين الآخرين.

والسورة تذكر المعاد وإنكارهم له فتبدأ به وتختم عليه لكن لا من حيث نفسه كما جرى عليه الكلام في مواضع من كلامه بل من حيث إنه يوم الجزاء وإن الله الذي وعدهم به هو ربهم وهو الذي وعدهم به ووعده صدق لا ريب فيه.

ولذلك لما انساق الكلام إلى الاحتجاج عليه احتجت بأدلة التوحيد من آيات الأرض والسماء والأنفس وما عاقب الله به الأمم الماضين إثر دعوتهم إلى التوحيد وتكذيبهم لرسله ، وليس إلا ليثبت بها التوحيد فيثبت به يوم الجزاء الذي وعده الله والله لا يخلف الميعاد وأخبرت به الدعوة النبوية فيندفع بذلك إنكارهم للجزاء وقد توسلوا بذلك إلى إبطال دين التوحيد ورسالة الرسول لصيرورة الإيمان به لغوا لا أثر له كما تقدمت الإشارة إليه.

والسورة مكية لشهادة سياق آياتها عليه ولم يختلف في ذلك أحد ، ومن غرر آياتها قوله تعالى : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ».

والفصل الذي أوردناه من الآيات مفتتح الكلام يذكر فيه أن الجزاء الذي وعدوه صدق وإنكارهم له وتعنتهم بذلك تخرص ثم يصف يوم الجزاء وحال المتقين والمنكرين فيه.

قوله تعالى : « وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً » الذاريات جمع الذارية من قولهم : ذرت الريح التراب تذروه ذروا إذا أطارته والوقر بالكسر فالسكون ثقل الحمل في الظهر أو في البطن.

وفي الآيات إقسام بعد إقسام يفيد التأكيد بعد التأكيد للمقسم عليه وهو الجزاء على الأعمال فقوله : « وَالذَّارِياتِ ذَرْواً » إقسام بالرياح المثيرة للتراب ، وقوله :

٣٦٤

« فَالْحامِلاتِ وِقْراً » بالفاء المفيدة للتأخير والترتيب معطوف على الذاريات وإقسام بالسحب الحاملة لثقل الماء ، وقوله : « فَالْجارِياتِ يُسْراً » عطف عليه وإقسام بالسفن الجارية في البحار بيسر وسهولة.

وقوله : « فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً » عطف على ما سبقه وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم فإن أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر وتقسم بتقسمهم ثم إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأولى تقسم ثانيا بتقسمهم وهكذا حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.

والآيات الأربع ـ كما ترى ـ تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت أنموذجا مما يدبر به الأمر في البر وهو الذاريات ذروا ، وأنموذجا مما يدبر به الأمر في البحر وهو الجاريات يسرا وأنموذجا مما يدبر به الأمر في الجو وهو الحاملات وقرا ، وتمم الجميع بالملائكة الذين هم وسائد التدبير وهم المقسمات أمرا.

فالآيات في معنى أن يقال : أقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير في العالم أن كذا كذا ، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي عليه أفضل السلام تفسير الآيات الأربع بما تقدم.

وعن الفخر الرازي في التفسير الكبير ، أن الأقرب حمل الآيات الأربع جميعا على الرياح فإنها كما تذرو التراب ذروا تحمل السحب الثقال وتجري في الجو بيسر وتقسم السحب على الأقطار من الأرض.

والحق أن ما استقربه بعيد ، وما تقدم من المعنى أبلغ مما ذكره.

قوله تعالى : « إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ » « ما » موصولة ، والضمير العائد إليها محذوف أي الذين توعدونه ، أو مصدرية ، و « تُوعَدُونَ » من الوعد كما يؤيده قوله : « وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ » الشامل لمطلق الجزاء ، وقيل : من الإيعاد كما يؤيده قوله : « فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » ق ـ ٤٥.

وعد الوعد صادقا من المجاز في النسبة كما في قوله : « فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ » الحاقة : ٢١ أو الصادق بمعنى ذو صدق كما قيل بمثله في قوله : « فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ » والدين الجزاء.

٣٦٥

وكيف كان فقوله : « إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ » جواب القسم ، وقوله : « وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ » معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى أقسم بكذا وكذا أن الذي توعدونه ـ وهو الذي يعدهم القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أنزل إليه ـ من يوم البعث وأن الله سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا لصادق ، وإن الجزاء لواقع.

قوله تعالى : « وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ » الحبك بمعنى الحسن والزينة ، وبمعنى الخلق المستوي ، ويأتي جمعا لحبيكة أو حباك بمعنى الطريقة كالطرائق التي تظهر على الماء إذا تثنى وتكسر من مرور الرياح عليه.

والمعنى على الأول : أقسم بالسماء ذات الحسن والزينة نظير قوله تعالى : « إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ » الصافات : ٦ ، وعلى الثاني : أقسم بالسماء ذات الخلق المستوي نظير قوله : « وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ » الآية ٤٧ من السورة وعلى الثالث أقسم بالسماء ذات الطرائق نظير قوله : « وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ » المؤمنون : ١٧.

ولعل المعنى الثالث أظهر لمناسبته لجواب القسم الذي هو اختلاف الناس والتشتت طرائقهم كما أن الأقسام السابقة : « وَالذَّارِياتِ ذَرْواً » إلخ كانت مشتركة في معنى الجري والسير مناسبة لجوابها : « إِنَّما تُوعَدُونَ » إلخ المتضمن لمعنى الرجوع إلى الله والسير إليه.

قوله تعالى : « إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ » القول المختلف ما يتناقض ويدفع بعضه بعضا وحيث إن الكلام في إثبات صدق القرآن أو الدعوة أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما وعدهم من أمر البعث والجزاء فالمراد بالقول المختلف ـ على الأقرب ـ قولهم المختلف في أمر القرآن لغرض إنكار ما يثبته فتارة يقولون : إنه سحر والجائي به ساحر ، وتارة يقولون : زجر والجائي به مجنون ، وتارة يقولون : إلقاء شياطين الجن والجائي به كاهن ، وتارة يقولون : شعر والجائي به شاعر ، وتارة أنه افتراء ، وتارة يقولون إنما يعلمه بشر ، وتارة يقولون : أساطير الأولين اكتتبها.

وقوله : « يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ » الإفك الصرف ، وضمير « عَنْهُ » إلى الكتاب

٣٦٦

من حيث اشتماله على وعد البعث والجزاء ، والمعنى : يصرف عن القرآن من صرف ، وقيل : الضمير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعنى : يصرف عن الإيمان به من صرف ، وقد عرفت أن المعنى السابق أوفق للسياق وإن كان مآل المعنيين واحدا.

وحكي عن بعضهم أن ضمير « عَنْهُ » لما توعدون أو للدين أقسم تعالى أولا بالذاريات وغيرها على أن البعث والجزاء حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد ثم قال تعالى : يؤفك عن الإقرار بأمر البعث والجزاء من هو مأفوك. وهذا الوجه قريب من الوجه السابق.

وعن بعضهم : أن الضمير لقول مختلف و « عن » للتعليل كما في قوله تعالى : « وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ » هود : ٥٣ فيكون الجملة صفة لقول والمعنى : أنكم لفي قول مختلف يؤفك بسببه من أفك ، وهو وجه حسن.

وقيل : الضمير في « إِنَّكُمْ » للمسلم والكافر جميعا فيكون المراد بالقول المختلف قول المسلمين بوقوع البعث والجزاء وقول الكفار بعدم الوقوع. ولعل السياق لا يلائمه وقيل : بعض وجوه أخر رديئة لا جدوى في التعرض له.

قوله تعالى : « قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ » أصل الخرص القول بالظن والتخمين من غير علم ، ولكون القول بغير علم في خطر من الكذب يسمى الكذاب خراصا ، والأشبه أن يكون المراد بالخراصين في الآية القوالين من غير علم ودليل وهم الخائضون في أمر البعث والجزاء المنكرون له بغير علم.

وفي قوله : « قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ » دعاء عليهم بالقتل وهو كناية عن نوع من الطرد والحرمان من الفلاح وإليه يئول قول من فسره باللعن.

وقوله : « الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ » الغمرة ـ كما ذكر الراغب ـ معظم الماء الساتر لمقرها ، وجعل مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها ، والمراد بالسهو ـ كما قيل ـ مطلق الغفلة.

ومعنى الآية وهي تصف الخراصين : الذين هم في جهالة أحاطت بهم غافلون عن حقيقة ما أخبروا به.

وقوله : « يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ » ضمير الجمع للخراصين قول قالوه على طريق الاستعجال استهزاء كقولهم : « مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » يس ـ ٤٨.

٣٦٧

والسؤال بأيان ـ الموضوعة للسؤال عن زمان مدخولها ـ عن يوم الدين وهو ظاهر في الزمان إنما هو بعناية أن يوم الدين لكونه موعودا ملحق بالزمانيات فيسأل عنه كما يسأل عن الزمانيات بأيان ومتى كما يقال : متى يوم العيد لكونه ذا شأن ملحقا لذلك بالزمانيات كذا قيل.

ويمكن أن يكون من التوسع في معنى الظرفية بأن يعد أوصاف الظرف الخاصة به ظرفا توسعا فيكون السؤال عن زمان الزمان سؤالا عن أنه بعد أي زمان أو قبل أي زمان؟ كما يقال : متى يوم العيد؟ فيجاب بأنه بعد عشرة أيام مثلا أو قبل يوم كذا ، وهو توسع جار في العرف غير مختص بكلام العرب ، وفي القرآن منه شيء كثير.

قوله تعالى : « يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ » ضمير الجمع للخراصين ، والفتن في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق الإحراق والتعذيب ، والظرف متعلق بفعل محذوف أو مبتدأ ، والآية جواب عن سؤالهم عدل فيه عن بيان وقت يوم الدين إلى بيان صفته والإشارة إلى حالهم فيه لما أن وقته من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله قال تعالى : « لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ».

وتقدير الآية ومعناها : يقع يوم الدين أو هو واقع يوم هم أي الخراصون في النار يعذبون أو يحرقون.

قوله تعالى : « ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ » حكاية خطاب منه تعالى أو من الملائكة بأمره للخراصين وهم يفتنون على النار يومئذ.

والمعنى : يقال لهم ذوقوا العذاب الذي يخصكم. هذا العذاب هو الذي كنتم تستعجلون به إذ تقولون استعجالا واستهزاء : أيان يوم الدين.

قوله تعالى : « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ » بيان لحال المتقين يوم الدين بعد وصف حال أولئك الخراصين.

وتنكير جنات وعيون للإشارة إلى عظم قدرها كأنها بحيث لا يقدر الواصفون على وصفها ، وقد ألحقت العيون بالجنات في ظرفيتها توسعا.

قوله تعالى : « آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ » أي قابلين ما

٣٦٨

أعطاهم ربهم الرءوف بهم راضين عنه وبما أعطاهم كما يفيده خصوص التعبير بالأخذ والإيتاء ونسبة الإيتاء إلى ربهم.

وقوله : « إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ » تعليل لما تقدمه أي إن حالهم تلك الحال لأنهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا ذوي إحسان في أعمالهم أي ذوي أعمال حسنة.

قوله تعالى : « كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ » الآيات تفسير لإحسانهم ، والهجوع النوم في الليل وقيل : النوم القليل.

ويمكن أن تكون : ما زائدة و « يَهْجَعُونَ » خبر كانوا ، و « قَلِيلاً » ظرفا متعلقا به أي في زمان قليل أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعا قليلا و « مِنَ اللَّيْلِ » متعلقا بقليلا والمعنى : كانوا ينامون في زمان قليل من الليل أو ينامون الليل نوما قليلا.

وأن تكون موصولة والضمير العائد إليها محذوفا و « قَلِيلاً » خبر كانوا والموصول فاعله والمعنى : كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون فيه.

وأن تكون مصدرية والمصدر المسبوك منها ومن مدخولها فاعلا لقوله : « قَلِيلاً » وهو خبر « كانُوا ».

وعلى أي حال فالقليل من الليل إما مأخوذ بالقياس إلى مجموع زمان كل ليلة فيفيد أنهم يهجعون كل ليلة زمانا قليلا منها ويصلون أكثرها ، وإما مأخوذ بالقياس إلى مجموع الليالي فيفيد أنهم يهجعون في قليل من الليالي ويقومون للصلاة في أكثرها أي لا يفوتهم صلاة الليل إلا في قليل من الليالي.

قوله تعالى : « وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » أي يسألون الله المغفرة لذنوبهم ، وقيل : المراد بالاستغفار الصلاة وهو كما ترى.

قوله تعالى : « وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ » الآيتان السابقتان تبينان خاصة سيرتهم في جنب الله سبحانه وهي قيام الليل والاستغفار بالأسحار وهذه الآية تبين خاصة سيرتهم في جنب الناس وهي إيتاء السائل والمحروم.

وتخصيص حق السائل والمحروم بأنه في أموالهم ـ مع أنه لو ثبت فإنما يثبت في كل مال ـ دليل على أن المراد أنهم يرون بصفاء فطرتهم أن في أموالهم حقا لهما فيعملون بما يعملون نشرا للرحمة وإيثارا للحسنة.

٣٦٩

والسائل هو الذي يسأل العطية بإظهار الفاقة والمحروم هو الذي حرم الرزق فلم ينجح سعيه في طلبه ولا يسأل تعففا.

بحث روائي

في تفسير القمي ، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : « وَالذَّارِياتِ ذَرْواً » فقال : إن ابن الكوا سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ عن « الذَّارِياتِ ذَرْواً » قال : الريح ، وعن « فَالْحامِلاتِ وِقْراً » فقال : هي السحاب ، وعن « فَالْجارِياتِ يُسْراً » فقال : هي السفن ، وعن « فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً » فقال : الملائكة.

أقول : والحديث مروي من طرق أهل السنة أيضا كما في روح المعاني.

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد الرزاق والفاريابي وسعيد بن منصور والحارث بن أبي أسامة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان ، من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله : « وَالذَّارِياتِ ذَرْواً » قال : الرياح « فَالْحامِلاتِ وِقْراً » قال : السحاب « فَالْجارِياتِ يُسْراً » قال : السفن « فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً » قال : الملائكة.

وفي المجمع ، قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليه‌السلام : لا يجوز لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى ، والله يقسم بما شاء من خلقه.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن منيع عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن قوله : « وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ » قال : ذات الخلق الحسن.

أقول : وروي مثله في المجمع ، ولفظه : وقيل : ذات الحسن والزينة : عن علي عليه‌السلام وفي جوامع الجامع ، ولفظه : وعن علي عليه‌السلام : حسنها وزينتها.

وفي بعض الأخبار : في قوله تعالى : « إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ـ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ » تطبيقه على الولاية.

وفي المجمع في قوله تعالى : « كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ » وقيل معناه : كانوا أقل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها : وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٣٧٠

وفيه ، في قوله تعالى : « وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرة في السحر.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله ـ لأن الله يقول : « وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ».

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : « وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » قال : يصلون.

أقول : لعل تفسير الاستغفار بالصلاة من جهة اشتمال الوتر عليه كإرادة الصلاة من القرآن في قوله : « وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً » إسراء : ٧٨.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ » قال : السائل الذي يسأل ، والمحروم الذي قد منع كده.

وفي التهذيب ، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الآية قال : المحروم المحارف ـ الذي قد حرم كد يده في الشراء والبيع.

قال : وفي رواية أخرى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قال : المحروم الرجل ليس بعقله بأس ـ ولا يبسط له في الرزق وهو محارف.

* * *

( وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ـ ٢٠. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ـ ٢١. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ـ ٢٢. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ـ ٢٣. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ـ ٢٤. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ـ ٢٥. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ـ ٢٦. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ ـ ٢٧. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ

٣٧١

وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ـ ٢٨. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ـ ٢٩. قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ـ ٣٠. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ـ ٣١. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ـ ٣٢. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ـ ٣٣. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ـ ٣٤. فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ـ ٣٥. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ـ ٣٦. وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ـ ٣٧. وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ـ ٣٨. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ـ ٣٩. فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ـ ٤٠. وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ـ ٤١. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ـ ٤٢. وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ـ ٤٣. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ـ ٤٤. فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ـ ٤٥. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ـ ٤٦. وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ـ ٤٧. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ـ ٤٨. وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ـ ٤٩. فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ

٣٧٢

مُبِينٌ ـ ٥٠. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ـ ٥١. )

بيان

تشير الآيات إلى عدة من آيات الله الدالة على وحدانيته في الربوبية ورجوع أمر التدبير في الأرض والسماء والناس وأرزاقهم إليه ، ولازمه إمكان نزول الدين الإلهي من طريق الرسالة بل وجوبه ، ولازمه صدق الدعوة النبوية فيما تضمنته من وعد البعث والجزاء وإن ما يوعدون لصادق وإن الدين لواقع ، وقد مرت إشارة إلى خصوصية سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.

قوله تعالى : « وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ » الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله : « فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ـ إلى أن قال ـ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ » الآية ، يشهد على أن سوق هذه الآيات والدلائل لإثبات وحدانيته تعالى في الربوبية لا لإثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه ونحو ذلك.

وفي الآية إشارة إلى ما تتضمنه الأرض من عجائب الآيات الدالة على وحدة التدبير القائمة بوحدانية مدبره من بر وبحر وجبال وتلال وعيون وأنهار ومعادن ومنافعها المتصلة بعضها ببعض الملاءمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات والحيوان في نظام واحد مستمر من غير اتفاق وصدفة ، لائح عليها آثار القدرة والعلم والحكم دال على أن خلقها وتدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبر قادر عليم حكيم.

فأي جانب قصد من جوانبها وأية وجهة وليت من جهات التدبير العام الجاري فيها كانت آية بينة وبرهانا ساطعا على وحدانية ربها لا شريك له ينجلي فيه الحق لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.

قوله تعالى : « وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ » معطوف على قوله : « فِي الْأَرْضِ » أي وفي أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها وركز النظر فيها أفلا تبصرون.

٣٧٣

والآيات التي في النفوس منها ما هي في تركب الأبدان من أعضائها وأعضاء أعضائها حتى ينتهي إلى البسائط وما لها من عجائب الأفعال والآثار المتحدة في عين تكثرها المدبرة جميعا لمدبر واحد ، وما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينية والطفولية والرهاق والشباب والشيب.

ومنها ما هي من حيث تعلق النفوس أعني الأرواح بها كالحواس من البصر والسمع والذوق والشم واللمس التي هي الطرق الأولية لاطلاع النفوس على الخارج لتميز بذلك الخير من الشر والنافع من الضار لتسعى إلى ما فيه كمالها وتهرب مما لا يلائمها ، وفي كل منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع بنظامه الجاري فيه وهكذا ، والجميع مع هذا الانفصال والتقطع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبر واحد هو النفس المدبرة والله من ورائهم محيط.

ومن هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوة الغضبية والقوة الشهوية وما لها من اللواحق والفروع فإنها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة وانفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبر واحد تتعاضد جميع شعبها وتأتلف لخدمته.

ونظام التدبير الذي لكل من هذه المدبرات إنما وجد له حينما وجد وأول ما ظهر من غير فصل فليس مما عملت فيه خيرته وأوجده هو لنفسه عن فكر وروية أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه وألزمه نظامه بتدبيره.

ومنها الآيات الروحانية الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها وراقب الله سبحانه فيها من آيات الله التي لا يسعها وصف الواصفين وينفتح بها باب اليقين وتدرج المتطلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات والأرض كما قال تعالى : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » الأنعام : ٧٥.

قوله تعالى : « وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ » قيل : المراد بالسماء جهة العلو فإن كل ما علاك وأظلك فهو سماء لغة ، والمراد بالرزق المطر الذي ينزله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه ويلبسونه وينتفعون به وقد قال تعالى : « وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها » الجاثية : ٥ ، فسمي المطر رزقا فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.

٣٧٤

وقيل : المراد أسباب الرزق السماوية من الشمس والقمر والكواكب واختلاف المطالع والمغارب الراسمة للفصول الأربعة وتوالي الليل والنهار وهي جميعا أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوز بدعوى أن وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.

وقيل : المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها ، أو أن الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.

ويمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإن الأشياء ومنها الأرزاق تنزل من عند الله سبحانه وقد صرح بذلك في أشياء كقوله تعالى : « وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ » الزمر : ٦ ، وقوله : « وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ » الحديد : ٢٥ ، وقوله على نحو العموم : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » الحجر : ٢١ ، والمراد بالرزق كل ما ينتفع به الإنسان في بقائه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح وولد وعلم وقوة وغير ذلك.

وقوله : « وَما تُوعَدُونَ » عطف على « رِزْقُكُمْ » الظاهر أن المراد به الجنة لقوله تعالى : « عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى » النجم : ١٥ ، وقول بعضهم : إن المراد به الجنة والنار أو الثواب والعقاب لا يلائمه قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ » الأعراف : ٤٠.

نعم تكرر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيوي إلى السماء كقوله : « فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ » البقرة : ٥٩ ، وغير ذلك.

وعن بعضهم أن قوله : « وَما تُوعَدُونَ » مبتدأ خبره قوله : « فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ » والواو للاستئناف وهو معنى بعيد عن الفهم.

قوله تعالى : « فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ » النطق التكلم وضمير « إِنَّهُ » راجع إلى ما ذكر من كون الرزق وما توعدون في السماء والحق هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهي دون أن يكون أمرا تبعيا أو اتفاقيا.

والمعنى : أقسم برب السماء والأرض أن ما ذكرناه من كون رزقكم وما توعدونه من الجنة ـ وهو أيضا من الرزق فقد تكرر في القرآن تسمية الجنة رزقا كقوله : « لَهُمْ

٣٧٥

مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ » الأنفال : ٧٤ ، وغير ذلك ـ في السماء لثابت مقضي مثل نطقكم وتكلمكم الذي هو حق لا ترتابون فيه.

وجوز بعضهم أن يكون ضمير « إِنَّهُ » راجعا إلى « ما تُوعَدُونَ » فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله : « وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ » أو إلى اليوم في قوله : « أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ » أو إلى جميع ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا ، ولعل الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله : « وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ » كما قدمنا.

(كلام في تكافؤ الرزق والمرزوق)

الرزق بمعنى ما يرتزق به هو ما يمد شيئا آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأي معنى كان كالغذاء الذي يمد الإنسان في حياته وبقائه بصيرورته جزء من بدنه وكالزوج يمد زوجه في إرضاء غريزته وبقاء نسله وعلى هذا القياس.

ومن البين : أن الأشياء المادية يرتزق بعضها ببعض كالإنسان بالحيوان والنبات مثلا فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة ومختلف الأحوال كما أنها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه وإن كان ربما تغيرت الأسماء فكما أن الإنسان يصير بالتغذي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزءا جديدا من بدنه اسمه كذا.

ومن البين أيضا : أن القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعين به ما يجري على كل شيء في نفسه وأطوار وجوده ، وبعبارة أخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلفة من علل تامة ومعلولات ضرورية.

ومن هنا يظهر أن الرزق والمرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرأ عليه طور جديد في وجوده بانضمام شيء أو لحوقه إلا مع وجود الشيء المنضم أو اللاحق المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمد في بقائه ولا رزق له ، ولا معنى لرزق متحقق ولا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق ، وكذا

٣٧٦

لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإلهي دخولا أوليا لا بالعرض ولا بالتبع وهو المعنى بكون الرزق حقا.

قوله تعالى : « هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ » إشارة إلى قصة دخول الملائكة المكرمين على إبراهيم عليه‌السلام وتبشيرهم له ولزوجه ثم إهلاكهم قوم لوط ، وفيها آية على وحدانية الربوبية كما تقدمت الإشارة إليه.

وفي قوله : « هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ » تفخيم لأمر القصة و « الْمُكْرَمِينَ » ـ وهم الملائكة الداخلون على إبراهيم ـ صفة « ضَيْفِ » وإفراده لكونه في الأصل مصدرا لا يثنى ولا يجمع.

قوله تعالى : « إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ » الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة : « حَدِيثُ » و « سَلاماً » مقول القول والعامل فيه محذوف أي قالوا : نسلم عليك سلاما.

وقوله : « قالَ سَلامٌ » قول ومقول و « سَلامٌ » مبتدأ محذوف الخبر والتقدير سلام عليكم ، وفي إتيانه بالجواب جملة اسمية دالة على الثبوت تحية منه عليه‌السلام بما هو أحسن من تحيتهم بقولهم : سلاما فإنه جملة فعليه دالة على الحدوث.

وقوله : « قَوْمٌ مُنْكَرُونَ » الظاهر أنه حكاية قول إبراهيم في نفسه ، ومعناه أنه لما رآهم استنكرهم وحدث نفسه أن هؤلاء قوم منكرون ، ولا ينافي ذلك ما وقع في قوله تعالى : « فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ » هود : ٧٠ حيث ذكر نكره بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإن ما في هذه السورة حديث نفسه به وما في سورة هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.

وهذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسرين : إنه حكاية قوله عليه‌السلام لهم والتقدير أنتم قوم منكرون.

قوله تعالى : « فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ » الروغ الذهاب على سبيل

٣٧٧

الاحتيال على ما قاله الراغب وقال غيره : هو الذهاب إلى الشيء في خفية ، والمعنى الأول يرجع إلى الثاني.

والمراد بالعجل السمين المشوي منه بدليل قوله : « فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ » أو الفاء فصيحة والتقدير فجاء بعجل سمين فذبحه وشواه وقربه إليهم.

قوله تعالى : « فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ » عرض الأكل على الملائكة وهو يحسبهم بشرا.

قوله تعالى : « فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إلخ » الفاء فصيحة والتقدير فلم يمدوا إليه أيديهم فلما رأى ذلك نكرهم وأوجس منهم خيفة ، والإيجاس الإحساس في الضمير والخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعا من الخوف.

وقوله : « قالُوا لا تَخَفْ » جيء بالفصل لا بالعطف لأنه في معنى جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فما ذا كان بعد إيجاس الخيفة فقيل : قالوا : لا تخف وبشروه بغلام عليم فبدلوا خوفه أمنة وسرورا والمراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق وقد تقدم الخلاف فيه.

قوله تعالى : « فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ » في المجمع ، الصرة شدة الصياح وهو من صرير الباب ويقال للجماعة صرة أيضا. قال : والصك الضرب باعتماد شديد انتهى.

والمعنى فأقبلت امرأة إبراهيم عليه‌السلام ـ لما سمعت البشارة ـ في ضجة وصياح فلطمت وجهها وقالت : أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاما؟ وقيل : المراد بالصرة الجماعة وأنها جاءت إليهم في جماعة فصكت وجهها وقالت ما قالت ، والمعنى الأول أوفق للسياق.

قوله تعالى : « قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ » الإشارة بكذلك إلى ما بشروها به بما لها ولزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم وبعلها شيخ مسه الكبر فربها حكيم لا يريد ما يريد إلا بحكمه ، عليم لا يخفى عليه وجه الأمر.

قوله تعالى : « قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ـ إلى قوله ـلِلْمُسْرِفِينَ » الخطب

٣٧٨

الأمر الخطير الهام ، والحجارة من الطين الطين المتحجر ، والتسويم تعليم الشيء بمعنى جعله ذا علامة من السومة بمعنى العلامة.

والمعنى : « قالَ » إبراهيم عليه‌السلام « فَما خَطْبُكُمْ » والشأن الخطير الذي لكم « أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ » من الملائكة « قالُوا » أي الملائكة لإبراهيم « إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ » وهم قوم لوط « لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ » طينا متحجرا سماه الله سجيلا « مُسَوَّمَةً » معلمة « عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ » تختص بهم لإهلاكهم ، والظاهر أن اللام في المسرفين للعهد.

قوله تعالى : « فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ـ إلى قوله ـ الْعَذابَ الْأَلِيمَ » الفاء فصيحة وقد أوجز بحذف ما في القصة من ذهاب الملائكة إلى لوط وورودهم عليه وهم القوم بهم حتى إذا أخرجوا آل لوط من القرية ، وقد فصلت القصة في غير موضع من كلامه تعالى.

فقوله : « فَأَخْرَجْنا » إلخ بيان إهلاكهم بمقدمته ، وضمير « فِيها » للقرية المفهومة من السياق ، و « بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ » بيت لوط ، وقوله : « وَتَرَكْنا فِيها آيَةً » إشارة إلى إهلاكهم وجعل أرضهم عاليها سافلها ، والمراد بالترك الإبقاء كناية وقد بينت هذه الخصوصيات في سائر كلامه تعالى.

والمعنى : فلما ذهبوا إلى لوط وكان من أمرهم ما كان « فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها » في القرية « مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ » واحد « مِنَ الْمُسْلِمِينَ » وهم آل لوط « وَتَرَكْنا فِيها » في أرضهم بقلبها وإهلاكهم « آيَةً » دالة على ربوبيتنا وبطلان الشركاء « لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ » من الناس.

قوله تعالى : « وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ » عطف على قوله : « وَتَرَكْنا فِيها آيَةً » والتقدير وفي موسى آية ، والمراد بسلطان مبين الحجج الباهرة التي كانت معه من الآيات المعجزة.

قوله تعالى : « فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ » التولي الإعراض والباء في قوله : « بِرُكْنِهِ » للمصاحبة ، والمراد بركنه جنوده كما يؤيده الآية التالية ، والمعنى : أعرض مع جنوده ، وقيل : الباء للتعدية ، والمعنى : جعل ركنه متولين معرضين.

وقوله : « وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ » أي قال تارة هو مجنون كقوله : « إِنَّ رَسُولَكُمُ

٣٧٩

الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ » الشعراء : ٢٧ ، وقال أخرى : هو ساحر كقوله : « إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ » الشعراء : ٣٤.

قوله تعالى : « فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ » النبذ طرح الشيء من غير أن يعتد به ، واليم البحر ، والمليم الآتي بما يلام عليه من ألام بمعنى أتى بما يلام عليه كأغرب إذا أتى بأمر غريب.

والمعنى : فأخذناه وجنوده وهم ركنه وطرحناهم في البحر والحال أنه أتى من الكفر والجحود والطغيان بما يلام عليه ، وإنما خص فرعون بالملامة مع أن الجميع يشاركونه فيها لأنه إمامهم الذي قادهم إلى الهلاك ، قال تعالى : « يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ » هود : ٩٨.

وفي الكلام من الإيماء إلى عظمة القدرة وهول الأخذ وهو أن أمر فرعون وجنوده ما لا يخفى.

قوله تعالى : « وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ » عطف على ما تقدمه أي وفي عاد أيضا آية إذ أرسلنا عليهم أي أطلقنا عليهم الريح العقيم.

والريح العقيم هي الريح التي عقمت وامتنعت من أن يأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح كتنشئة سحاب أو تلقيح شجر أو تذرية طعام أو نفع حيوان أو تصفية هواء كما قيل وإنما أثرها الإهلاك كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى : « ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ » « ما تَذَرُ » أي ما تترك » ، والرميم الشيء الهالك البالي كالعظم البالي السحيق ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ـ إلى قوله ـ مُنْتَصِرِينَ » عطف على ما تقدمه أي وفي ثمود أيضا آية إذ قيل لهم : تمتعوا حتى حين ، والقائل نبيهم صالح عليه‌السلام إذ قال لهم : « تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » هود : ٦٥ قال لهم ذلك لما عقروا الناقة فأمهلهم ثلاثة أيام ليرجعوا فيها عن كفرهم وعتوهم لكن لم ينفعهم ذلك وحق عليهم كلمة العذاب.

وقوله : « فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ » العتو ـ على ما ذكره الراغب ـ النبوء عن الطاعة فينطبق على التمرد ، والمراد بهذا العتو العتو عن

٣٨٠