الميزان في تفسير القرآن - ج ١٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

كتبهم» والسورة من أوائل السور المكية النازلة قبل الهجرة ولم تبلغ عداوة اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مبلغها بعد الهجرة وكان من المرجو أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحق ولو بوجه كلي.

قوله تعالى : « وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ » قال في المفردات : ، العجمة خلاف الإبانة والإعجام الإبهام ـ إلى أن قال ـ والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم ، والأعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم ، ومنه قيل للبهيمة عجماء والأعجمي منسوب إليه قوله تعالى : « وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ » على حذف الياءات انتهى.

ومقتضى ما ذكره ـ كما ترى ـ أن أصل الأعجمين الأعجميين ثم حذفت ياء النسبة وبه صرح بعض آخر ، وذكر بعضهم أن الوجه أن أعجم مؤنثه عجماء وأفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكن الكوفيين من النحاة يجوزون ذلك وظاهر اللفظ يؤيد قولهم فلا موجب للقول بالحذف.

وكيف كان فظاهر السياق اتصال الآيتين بقوله : « بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » فتكونان في مقام التعليل له ويكون المعنى : نزلناه عليك بلسان عربي ظاهر العربية واضح الدلالة ليؤمنوا به ولا يتعللوا بعدم فهمهم مقاصده ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين وردوه بعدم فهم مقاصده.

فيكون المراد بنزوله على بعض الأعجمين نزوله أعجميا وبلسانه ، والآيتان والتي بعدهما في معنى قوله تعالى : « وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى » حم السجدة : ٤٤.

وقال بعضهم : إن المعنى ولو نزلناه قرآنا عربيا كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة.

٣٢١

قال : وأما قول بعضهم : إن المعنى ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد. انتهى ملخصا.

وفيه أن اتصال الآيتين بقوله : « بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » أقرب إليهما من اتصالهما بسياق تمادي الكفار في كفرهم وجحودهم وقد عرفت توضيحه.

ويمكن أن يورد على الوجه السابق أن الضمير في قوله : « وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ » راجع إلى هذا القرآن الذي هو عربي فلو كان المراد تنزيله بلسان أعجمي لكان المعنى ولو نزلنا العربي غير عربي ولا محصل له.

ويرده أنه من قبيل قوله تعالى : « إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » الزخرف : ٣ ، ولا معنى لقولنا : إنا جعلنا العربي عربيا فالمراد بالقرآن على أي حال الكتاب المقروء.

قوله تعالى : « كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ » الإشارة بقوله : « كَذلِكَ » إلى الحال التي عليها القرآن عند المشركين وقد ذكرت في الآيات السابقة وهي أنهم معرضون عنه لا يؤمنون به وإن كان تنزيلا من رب العالمين وكان عربيا مبينا غير أعجمي وكان مذكورا في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل.

والسلوك الإدخال في الطريق والإمرار ، والمراد بالمجرمين هم الكفار والمشركون وذكرهم بوصف الاجرام للإشارة إلى علة الحكم وهو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة والمنفورة وأن ذلك مجازاة إلهية جازاهم بها عن إجرامهم وليعم الحكم بعموم العلة.

والمعنى على هذه الحال ـ وهي أن يكون بحيث يعرض عنه ولا يؤمن به ـ ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين ونمره في نفوسهم جزاء لإجرامهم وكذلك كل مجرم.

وقيل : الإشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة والمعنى : ندخل القرآن ونمره في قلوب المجرمين بمثل ما بينا له الأوصاف فيرون أنه كتاب سماوي ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر وأنه مبشر به في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل وتتم الحجة به عليهم وهو بعيد من السياق.

٣٢٢

وقيل : الضمير في « سَلَكْناهُ » للتكذيب بالقرآن والكفر به المدلول عليه بقوله : « ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ » هذا وهو قريب من الوجه الأول لكن الوجه الأول ألطف وأدق ، وقد ذكره في الكشاف.

وقد تبين بما تقدم أن المراد بالمجرمين مشركو مكة غير أن عموم وصف الاجرام يعمم الحكم ، وقال بعضهم : إن المراد بالمجرمين غير مشركي مكة من معاصريهم ومن يأتي بعدهم ، والمعنى : كما سلكناه في قلوب مشركي مكة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين.

ولعل الذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتحاد المشبه والمشبه به على الوجه الأول مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله : « كَذلِكَ » السلوك في قلوب مشركي مكة وهو المشبه به وجعل المشبه غيرهم من المجرمين وفيه أن تشبيه الكلي ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الأفراد طريقة شائعة.

ومن هنا يظهر أن هناك وجها آخر وهو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعم مشركي مكة وغيرهم بجعل اللام فيه لغير العهد ولعل الوجه الأول أقرب من السياق.

قوله تعالى : « لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ـ إلى قوله ـ مُنْظَرُونَ » تفسير وبيان لقوله : « كَذلِكَ سَلَكْناهُ » إلخ هذا على الوجه الأول والثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة وأما على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبط بما قبله.

وقوله : « حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » أي حتى يشاهدوا العذاب الأليم فيلجئهم إلى الإيمان الاضطراري الذي لا ينفعهم ، والظاهر أن المراد بالعذاب الأليم ما يشاهدونه عند الموت واحتمل بعضهم أن يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل ، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكة وغيرهم لا يلائم ذلك.

وقوله : « فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » كالتفسير لقوله : « حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » إذ لو لم يأتهم بغتة وعلموا به قبل موعده لاستعدوا له وآمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه.

وقوله : « فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ » كلمة تحسر منهم.

قوله تعالى : « أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ » توبيخ وتهديد.

٣٢٣

قوله تعالى : « أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ـ إلى قوله ـ يُمَتَّعُونَ » متصل بقوله : « فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ » ومحصل المعنى أن تمني الإمهال والإنظار تمني أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنونه ولم يغن عنهم شيئا لو أجيبوا إلى ما سألوه فإن تمتيعهم أمدا محدودا طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الذي قضي في حقهم.

وهو قوله : « أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ » معدودة ستنقضي : « ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ » من العذاب بعد انقضاء سني الإنظار والإمهال « ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ » أي تمتيعهم أمدا محدودا.

قوله تعالى : « وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى » إلخ ، الأقرب أن يكون قوله : « لَها مُنْذِرُونَ » حالا من « قَرْيَةٍ » وقوله : « ذِكْرى » حالا من ضمير الجمع في « مُنْذِرُونَ » أو مفعولا مطلقا عامله « مُنْذِرُونَ » لكونه في معنى مذكرون والمعنى ظاهر ، وقيل غير ذلك مما لا جدوى في ذكره وإطالة البحث عنه.

وقوله : « وَما كُنَّا ظالِمِينَ » ورود النفي على الكون دون أن يقال : وما ظلمناهم ونحو ذلك يفيد نفي الشأنية أي وما كان من شأننا ولا المترقب منا أن نظلمهم.

والجملة في مقام التعليل للحصر السابق والمعنى : ما أهلكنا من قرية إلا في حال لها منذرون مذكرون تتم بهم الحجة عليهم لأنا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنا ظالمين لهم وليس من شأننا أن نظلم أحدا فالآية في معنى قوله تعالى : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » إسراء : ١٥.

كلام في معنى نفي الظلم عنه تعالى

من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل وتصرفه ما لا يملكه من الفعل والتصرف ، ويقابله العدل ولازمه أنه فعل الفاعل وتصرفه ما يملكه.

ومن هنا يظهر أن أفعال الفواعل التكوينية من حيث هي مملوكة لها تكوينا لا يتحقق فيها معنى الظلم لأن فرض صدور الفعل عن فاعله تكوينا مساوق لكونه مملوكا له بمعنى قيام وجوده به قياما لا يستقل دونه.

٣٢٤

ولله سبحانه ملك مطلق منبسط على الأشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه واستقلال دونه فأي تصرف تصرف به فيها مما يسرها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرها ليس من الظلم في شيء وإن شئت فقل : عدل بمعنى ما ليس بظلم فله أن يفعل ما يشاء وله أن يحكم ما يريد كل ذلك بحسب التكوين.

فله تعالى ملك مطلق بذاته ، ولغيره من الفواعل التكوينية ملك تكويني بالنسبة إلى فعله حسب الإعطاء والموهبة الإلهية وهو ملك في طول ملكه تعالى وهو المالك لما ملكها والمهيمن على ما عليه سلطها.

ومن جملة هذه الفواعل النوع الإنساني بالنسبة إلى أفعاله وخاصة ما نسميها بالأفعال الاختيارية والاختيار الذي يتعين به هذه الأفعال ، فالواحد منا يجد من نفسه عيانا أنه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل والترك معا ، فإن شاء فعل وإن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرا يملك الفعل والترك ، أي فعل وترك كانا ، بمعنى إمكان صدور كل منهما عنه.

ثم إن اضطرار الإنسان إلى الحياة الاجتماعية المدنية اضطر العقل أن يغمض عن بعض ما للإنسان من حرية العمل ويرفع اليد عن بعض الأفعال التي كان يرى أنه يملكها وهي التي يختل بإتيانها أمر المجتمع فيختل نظم حياته نفسه وهذه هي المحرمات والمعاصي التي تنهى عنها القوانين المدنية أو السنن القومية أو الأحكام الملوكية الدائرة في المجتمعات.

ومن الضروري لتحكيم هذه القوانين والسنن أن يجعل نوع من الجزاء السيئ على المتخلف عنها ـ بشرط العلم وتمام الحجة لأنه شرط تحقق التكليف ـ من ذم أو عقاب ، ونوع من الأجر الجميل للمطيع الذي يحترمها من مدح أو ثواب.

ومن الضروري أن ينتصب على المجتمع والقوانين الجارية فيها من يجريها على ما هي عليه وهو مسئول عما نصب له وخاصة بالنسبة إلى أحكام الجزاء ، فلو لم يكن مسئولا وجاز له أن يجازي وأن لا يجازي ويأخذ المحسن ويترك المسيء لغا وضع القوانين والسنن من رأس. هذه أصول عقلائية جارية في الجملة في المجتمعات الإنسانية منذ استقر هذا النوع على الأرض منبعثة عن فطرتهم الإنسانية.

٣٢٥

وقد دلت البراهين العقلية وأيدها تواتر الأنبياء والرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية وسنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى وهي أحكام ووظائف إنسانية تهدي إليها الفطرة الإنسانية وتضمن سعادة حياته وتحفظ مصالح مجتمعة.

وهذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه ومجريها من حيث الثواب والعقاب ـ وموطنهما موطن الرجوع إليه تعالى ـ هو الله سبحانه.

ومقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية واعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا ـ وليس بالتكويني ـ أن لا يناقض نفسه ولا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند ، وأخذ المظلوم بإثم الظالم وإلا كان ظلما منه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ولعل هذا معنى ما يقال : إن الظلم مقدور له تعالى لكنه ليس بواقع البتة لأنه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال وليس بفرض محال ، وهو المستفاد من ظاهر قوله تعالى : « وَما كُنَّا ظالِمِينَ » ، وقوله : الآية ٢٠٩ من السورة « إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً » يونس : ٤٤ ، وقوله : « وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » فصلت : ٤٦ ، وقوله : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » النساء : ١٦٥ ، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما يومئ إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما.

فإن قلت : ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لأنه من حق المعاقب ومن الجائز على صاحب الحق تركه وعدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لأنه من حق الغير وهو المطيع فلا يجوز تركه وإبطاله.

على أنه قيل : إن الإثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لأن العبد وعمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشيء.

قلت : ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لأنه من الفضل وأما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين وترتيب الجزاء على العمل.

٣٢٦

وأما كون ثواب الأعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله فلا ينافي فضلا آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكا له ، ثم جعل ما يثيبه عليه أجرا لعمله ، والقرآن مليء بحديث الأجر على الأعمال الصالحة ، وقد قال تعالى : « إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » براءة : ١١١.

قوله تعالى : « وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ـ إلى قوله ـ لَمَعْزُولُونَ » شروع في الجواب عن قول المشركين : إن لمحمد جنا يأتيه بهذا الكلام ، وقولهم : إنه شاعر ، وقدم الجواب عن الأول وقد وجه الكلام أولا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فبين له أن القرآن ليس من تنزيل الشياطين وطيب بذلك نفسه ثم وجه القول إلى القوم فبينه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه.

فقوله : « وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ » أي ما نزلته والآية متصلة بقوله : « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ » ووجه الكلام كما سمعت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدليل قوله تلوا : « فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ » إلى آخر الخطابات المختصة به صلى‌الله‌عليه‌وآله المتفرعة على قوله : « وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ » إلخ ، على ما سيجيء بيانه.

وإنما وجه الكلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون القوم لأنه معلل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله : « إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ » والشيطان الشرير وجمعه الشياطين والمراد بهم أشرار الجن.

وقوله : « وَما يَنْبَغِي لَهُمْ » أي للشياطين. قال في مجمع البيان : ، ومعنى قول العرب : ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب. انتهى.

والوجه في أنه لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به أنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والأخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله ، والقرآن كلام حق لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد.

وقوله : « وَما يَسْتَطِيعُونَ » أي وما يقدرون على التنزل به لأنه كلام سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى كما قال : « فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ

٣٢٧

بِما لَدَيْهِمْ » الجن : ٢٨ ، وإلى ذلك يشير قوله : « إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ » إلخ.

وقوله : « إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ » أي إن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في الملإ الأعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه.

قوله تعالى : « فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ » خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينهاه عن الشرك بالله متفرع على قوله : « وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ » إلخ ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلا من رب العالمين ولم تنزل به الشياطين وهو ينهى عن الشرك ويوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه وتدخل في زمرة المعذبين.

وكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوما بعصمة إلهية يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإن العصمة لا توجب بطلان تعلق الأمر والنهي بالمعصوم وارتفاع التكليف عنه بما أنه بشر مختار في الفعل والترك متصور في حقه الطاعة والمعصية بالنظر إلى نفسه ، وقد تكاثرت الآيات في تكليف الأنبياء عليهم‌السلام في القرآن الكريم كقوله في الأنبياء عليهم‌السلام : « وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » الأنعام : ٨٨ ، وقوله في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ » الزمر : ٦٥ ، والآيتان في معنى النهي.

وقول بعضهم : إن التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال وتحققه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإن الأعمال الصالحة التي يتعلق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب والكمال النفساني كما يجب أن يكتسب بالإتيان بآثاره ومزاولة الأعمال التي تناسبه والارتياض بها كذلك يجب أن يستبقي بذلك فما دام الإنسان بشرا له تعلق بالحياة الأرضية لا مناص له عن تحمل أعباء التكليف ، وقد تقدم كلام في هذا المعنى في بعض الأبحاث.

قوله تعالى : « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » في مجمع البيان : ، عشيرة الرجل قرابته سموا بذلك لأنه يعاشرهم وهم يعاشرونه انتهى. وخص عشيرته وقرابته الأقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك وإنذاره تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية

٣٢٨

ولا مداهنة ولا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكية فلا فرق في تعلق الإنذار بين النبي وأمته ولا بين الأقارب والأجانب ، فالجميع عبيد والله مولاهم.

قوله تعالى : « وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » أي اشتغل بالمؤمنين بك واجمعهم وضمهم إليك بالرأفة والرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها ، وهذا من الاستعارة بالكناية تقدم نظيره في قوله : « وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ » الحجر : ٨٨.

والمراد بالاتباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية : « فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ » فملخص معنى الآيتين : إن آمنوا بك واتبعوك فاجمعهم إليك بالرأفة واشتغل بهم بالتربية وإن عصوك فتبرأ من عملهم.

قوله تعالى : « وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ » أي ليس لك من أمر طاعتهم ومعصيتهم شيء وراء ما كلفناك فكل ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنه لعزته سيعذب العاصين وبرحمته سينجي المؤمنين المتبعين.

وفي اختصاص اسمي العزيز والرحيم إلفات للذهن إلى ما تقدم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين.

فهو في معنى أن يقال : توكل في أمر المتبعين والعاصين جميعا إلى الله فهو العزيز الرحيم الذي فعل بقوم نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وقوم فرعون ما فعل مما قصصناه فسنته أخذ العاصين وإنجاء المؤمنين.

قوله تعالى : « الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ » ظاهر الآيتين ـ على ما يسبق إلى الذهن ـ أن المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين وفيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته بهم جماعة ، والمراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى : الذي يراك وأنت بعينه في حالتي قيامك وسجودك متقلبا في الساجدين وأنت تصلي مع المؤمنين.

وفي معنى الآية روايات من طرق الشيعة وأهل السنة سنتعرض لها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

قوله تعالى : « إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » تعليل لقوله : « وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ »

٣٢٩

وفي الآيات ـ على ما تقدم من معناها ـ تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبشرى للمؤمنين بالنجاة وإيعاد للكفار بالعذاب.

قوله تعالى : « هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ـ إلى قوله ـ كاذِبُونَ » ، تعريف لمن تتنزل عليه الشياطين بما يخصه من الصفة ليعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس منهم ولا أن القرآن من إلقاء الشياطين ، والخطاب متوجه إلى المشركين.

فقوله : « هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ » في معنى هل أعرفكم الذين تتنزل عليهم شياطين الجن بالأخبار؟

وقوله : « تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ » قال في مجمع البيان : ، الأفاك الكذاب وأصل الإفك القلب والأفاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب ، والأثيم الفاعل للقبيح يقال : أثم يأثم إثما إذا ارتكب القبيح وتأثم إذا ترك الإثم انتهى.

وذلك أن الشياطين لا شأن لهم إلا إظهار الباطل في صورة الحق وتزيين القبيح في زي الحسن فلا يتنزلون إلا على أفاك أثيم.

وقوله : « يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ » الظاهر أن ضميري الجمع في « يُلْقُونَ » و « أَكْثَرُهُمْ » معا للشياطين ، والسمع مصدر بمعنى المسموع والمراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء ولو ناقصا فإنهم ممنوعون من الاستماع مرميون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلا ناقصا غير تام ولا كامل ولذا يتسرب إليه الكذب كثيرا.

وقوله : « وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ » أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلا وهذا هو الكثرة بحسب الأفراد ويمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث التنزل أي أكثر المتنزلين منهم كاذبون أي أكثر أخبارهم كاذبة.

ومحصل حجة الآيات الثلاث أن الشياطين لابتناء جبلتهم على الشر لا يتنزلون إلا على كل كذاب فاجر وأكثرهم كاذبون في أخبارهم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بأفاك أثيم ولا ما يوحى إليه من الكلام كذبا مختلقا فليس ممن تتنزل عليه الشياطين ولا الذي يتنزل عليه شيطانا ، ولا القرآن النازل عليه من إلقاء الشياطين.

قوله تعالى : « وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ـ إلى قوله ـ لا يَفْعَلُونَ » جواب عن رمي المشركين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه شاعر ، نبه عليه بعد الجواب عن قولهم إن له شيطانا يوحي إليه القرآن.

٣٣٠

وهذان أعني قولهم إن من الجن من يأتيه ، وقولهم إنه شاعر ، مما كانوا يكررونه في ألسنتهم بمكة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقة ، وهذا مما يؤيد نزول هذه الآيات بمكة خلافا لما قيل إنها نزلت بالمدينة.

على أن الآيات مشتملة على ختام السورة أعني قوله : « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » ولا معنى لبقاء سورة هي من أقدم السور المكية سنين على نعت النقص ثم تمامها بالمدينة ، ولا دلالة في الاستثناء على أن المستثنين هم شعراء المؤمنين بعد الهجرة.

وكيف كان فالغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع فالرشيد هو الذي لا يهتم إلا بما هو حق واقع والغوي هو السالك سبيل الباطل والمخطئ طريق الحق ، والغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخييل وتصوير غير الواقع في صورة الواقع ولذلك لا يهتم به إلا الغوي المشعوف بالتزيينات الخيالية والتصويرات الوهمية الملهية عن الحق الصارفة عن الرشد ، ولا يتبع الشعراء الذين يبتني صناعتهم على الغي والغواية إلا الغاوون وذلك قوله تعالى : « وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ».

وقوله : « أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ » يقال : هام يهيم هيمانا إذا ذهب على وجهه والمراد بهيمانهم في كل واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حد فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحق المحمود وربما هجوا الجميل كما يهجى القبيح الدميم وربما دعوا إلى الباطل وصرفوا عن الحق وفي ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الإنسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحق ، وكذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة.

وملخص حجة الآيات الثلاث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بشاعر لأن الشعراء يتبعهم الغاوون لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد لكن الذين يتبعونه إنما يتبعونه ابتغاء للرشد وإصابة الواقع وطلبا للحق لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحق والرشد دون الباطل والغي.

قوله تعالى : « إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً » إلخ ، استثناء من الشعراء المذمومين ، والمستثنون هم شعراء المؤمنين فإن الإيمان وصالحات الأعمال تردع الإنسان بالطبع عن ترك الحق واتباع الباطل ثم الذكر الكثير لله سبحانه

٣٣١

يجعل الإنسان على ذكر منه تعالى مقبلا إلى الحق الذي يرتضيه مدبرا عن الباطل الذي لا يحب الاشتغال به فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لأولئك.

وبهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالإيمان وعمل الصالحات ثم عطف قوله : « وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً » على ذلك.

وقوله : « وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا » الانتصار الانتقام ، قيل : المراد به رد الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو طعنوا فيها في الدين وقدحوا في الإسلام والمسلمين ، وهو حسن يؤيده المقام.

وقوله : « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » المنقلب اسم مكان أو مصدر ميمي ، والمعنى : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ـ وهم المشركون على ما يعطيه السياق ـ إلى أي مرجع ومنصرف يرجعون وينصرفون وهو النار أو ينقلبون أي انقلاب.

وفيه تهديد للمشركين ورجوع مختتم السورة إلى مفتتحها وقد وقع في أولها قوله : « فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ».

( بحث روائي )

في الكافي ، بإسناده عن الحجال عمن ذكره عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن قول الله عز وجل : « بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » قال : يبين الألسن ولا تبينه الألسن.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ » إلخ ، قال الصادق عليه‌السلام : لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب ـ وقد نزل على العرب فآمنت به العجم ـ فهذه فضيلة العجم.

وفي الكافي ، بإسناده عن علي بن عيسى القماط عن عمه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أمية ـ يصعدون على منبره من بعده ـ ويضلون الناس عن الصراط القهقرى ـ فأصبح كئيبا حزينا.

قال : فهبط جبرئيل فقال : يا رسول الله ما لي أراك كئيبا حزينا؟ قال :

٣٣٢

يا جبرئيل إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه ـ يصعدون منبري من بعدي ـ يضلون الناس عن الصراط القهقرى ، فقال : والذي بعثك بالحق نبيا إني ما اطلعت عليه ـ فعرج إلى السماء ـ فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها. قال : « أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ـ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ـ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ » وأنزل عليه : « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ـ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ـ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ » جعل الله ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خيرا من ألف شهر ملك بني أمية.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال : رئي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كأنه متحير فسألوه عن ذلك فقال : ولم ورأيت عدوي يلون أمر أمتي من بعدي ـ فنزلت « أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ـ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ـ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ » فطابت نفسه.

أقول : وقوله : ولم ورأيت إلخ ، فيه حذف والتقدير ولم لا أكون كذلك وقد رأيت « إلخ ».

وفيه ، أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وفي الدلائل عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشا وعم وخص فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ـ فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ـ فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار ـ فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ـ فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ـ فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار ـ فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا. ألا إن لكم رحما وسأبلها ببلالها.

وفيه ، أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » جعل يدعوهم قبائل قبائل.

وفيه ، أخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر

٣٣٣

وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما نزلت « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » ورهطك منهم المخلصين » خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى صعد على الصفا فنادى يا صباحاه ـ فقالوا : من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه ـ فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟

فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي ـ تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت : « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ ».

وفيه ، أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال : لما نزلت « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب ـ وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ـ ثم اطلع عليهم فقال : يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار ـ واسعوا في فكاك رقابكم وافتكوها بأنفسكم من الله ـ فإني لا أملك لكم من الله شيئا.

ثم أقبل على أهل بيته فقال : يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر ـ ويا أم سلمة ويا فاطمة بنت محمد ـ ويا أم الزبير عمة رسول الله ـ اشتروا (١) أنفسكم من الله واسعوا في فكاك رقابكم ـ فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني ، الحديث.

أقول : وفي معنى هذه الروايات بعض روايات أخر وفي بعضها أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله خص بني عبد مناف بالإنذار فيشمل بني أمية وبني هاشم جميعا.

والروايات الثلاث الأول لا تنطبق عليها الآية فإنها تعمم الإنذار قريشا عامة والآية تصرح بالعشيرة الأقربين وهم إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم وأبعد ما يكون من الآية الرواية الثانية حيث تقول : جعل يدعوهم قبائل قبائل.

على أن ما تقدم من معنى الآية وهو نفي أن تكون قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تغنيهم من تقوى الله وفي الروايات إشارة إلى ذلك ـ حيث تقول : لا أغني عنكم من الله

__________________

(١) كذا.

٣٣٤

شيئا ـ لا يناسب عمومه لغير الخاصة من قرابته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأما الرواية الرابعة فقوله تعالى : « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » آية مكية في سورة مكية ولم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة وأين كانت يوم نزولها عائشة وحفصة وأم سلمة ولم يتزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهن إلا في المدينة ) فالمعتمد من الروايات ما يدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله خص بالإنذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب ، ومن عجيب الكلام قول الآلوسي بعد نقل الروايات : وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار.

وفي المجمع ، عن تفسير الثعلبي بإسناده عن براء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا ـ الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس ـ فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال : ادنوا بسم الله فدنا القوم عشرة عشرة ـ فأكلوا حتى صدروا. ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعا ثم قال لهم : اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا ـ فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما سحركم به الرجل ـ فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ ولم يتكلم.

ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ـ ثم أنذرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم ـ من الله عز وجل فأسلموا وأطيعوني تهتدوا.

ثم قال : من يواخيني ويوازرني ـ ويكون وليي ووصيي بعدي ـ وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ ـ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم ـ ويقول علي أنا فقال في المرة الثالثة : أنت ـ فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أمر عليك.

قال الطبرسي : وروي عن أبي رافع هذه القصة وأنه جمعهم في الشعب ـ فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا ـ وسقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا. ثم قال : إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي ورهطي ، وإن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ـ ووزيرا ووارثا ووصيا وخليفة في أهله ـ فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ـ ووصيي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ فقال علي : أنا فقال : ادن مني ـ ففتح فاه ومج في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه ـ فقال أبو لهب : بئس ما

٣٣٥

حبوت به ابن عمك ـ أن أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقا ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله ملأته حكمة وعلما.

أقول : وروى السيوطي في الدر المنثور ، ما في معنى حديث البراء عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي في الدلائل من طرق عن علي رضي الله عنه وفيه : ثم تكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا بني عبد المطلب ـ إني والله ما أعلم أحدا في العرب ـ جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ـ إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ـ وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ـ فأيكم يوازرني على أمري هذا؟ فقلت وأنا أحدثهم سنا : إنه أنا ، فقام القوم يضحكون.

وفي علل الشرائع ، بإسناده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : لما نزلت « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » أي رهطك المخلصين ـ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبد المطلب ـ وهم إذ ذاك أربعون رجلا ـ يزيدون رجلا وينقصون رجلا فقال : أيكم يكون أخي ووارثي ووزيري ووصيي ـ وخليفتي فيكم بعدي ، فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا كلهم يأبى ذلك ـ حتى أتى علي فقلت : أنا يا رسول الله.

فقال : يا بني عبد المطلب هذا وارثي ووزيري ـ وخليفتي فيكم بعدي فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ـ ويقولون لأبي طالب ـ قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام.

أقول : ومن الممكن أن يستفاد من قوله عليه‌السلام : أي رهطك المخلصين أن ما نسب إلى قراءة أهل البيت « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » رهطك منهم المخلصين » ونسب أيضا إلى قرآن أبي بن كعب كان من قبيل التفسير.

وفي المجمع في قوله تعالى : « وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ » قيل : معناه وتقلبك في الساجدين الموحدين ـ من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً. عن ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قالا : أصلاب النبيين نبي بعد نبي ـ حتى أخرجه من صلب أبيه ـ عن نكاح غير سفاح من لدن آدم.

أقول : ورواه غيره من رواة الشيعة ، ورواه في الدر المنثور ، عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم وغيرهم عن ابن عباس وغيرهم.

وفي المجمع ، روى جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا

٣٣٦

ترفعوا قبلي ولا تضعوا قبلي ـ فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ـ ثم تلا هذه الآية.

أقول : يريد صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع الجبهة على الأرض ورفعها في السجدة ورواه في الدر المنثور ، عن ابن عباس وغيره.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ عرض شاعر ينشد ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ـ خير له من أن يمتلئ شعرا.

أقول : وهو مروي من طرق الشيعة أيضا عن الصادق عليه‌السلام عنه (ص).

وفي تفسير القمي ، قال : يعظون الناس ولا يتعظون ـ وينهون عن المنكر ولا ينتهون ـ ويأمرون بالمعروف ولا يعملون ـ وهم الذين قال الله فيهم : « أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ » أي في كل مذهب يذهبون « وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ » وهم الذين غصبوا آل محمد حقهم.

وفي اعتقادات الصدوق سئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ » قال : هم القصاص.

أقول : هم من المصاديق والمعنى الجامع ما تقدم في ذيل الآية.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن من الشعر حكما وإن من البيان سحرا.

أقول : وروى الجملة الأولى أيضا عنه عن بريدة وابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأيضا عن ابن مردويه عن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولفظه : إن من الشعر حكمة ، والممدوح من الشعر ما فيه نصرة الحق ولا تشمله الآية.

وفي المجمع ، عن الزهري قال : حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك : أن كعب بن مالك قال : يا رسول الله ما ذا تقول في الشعراء؟ قال : إن المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه ـ والذي نفسي بيده لكأنما تنضخونهم بالنبل.

قال الطبرسي وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لحسان بن ثابت : اهجهم أو هاجهم وروح

٣٣٧

القدس معك : رواه البخاري ومسلم في الصحيحين.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الحسن سالم البراد قال : لما نزلت « وَالشُّعَراءُ » الآية ـ جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك ـ وحسان بن ثابت وهم يبكون فقالوا ـ يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية ـ وهو يعلم أنا شعراء أهلكنا؟ فأنزل الله « إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » فدعاهم رسول الله فتلاها عليهم.

أقول : هذه الرواية وما في معناها هي التي دعا بعضهم إلى القول بكون الآيات الخمس من آخر السورة مدنيات وقد عرفت الكلام في ذلك عند تفسير الآيات.

وفي الكافي ، بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا. ثم قال : لا أعني ـ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وإن كان منه ولكن ذكر الله عند ما أحل وحرم ـ فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها.

أقول : فيه تأييد لما تقدم في تفسير الآية.

٣٣٨

(سورة النمل مكية وهي ثلاث وتسعون آية)

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) ).

( بيان )

غرض السورة ـ على ما تدل عليه آيات صدرها والآيات الخمس الخاتمة لها ـ التبشير والإنذار وقد استشهد لذلك بطرف من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط عليه‌السلام ثم عقبها ببيان نبذة من أصول المعارف كوحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد وغير ذلك.

قوله تعالى : « تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ » الإشارة بتلك ـ كما مر في أول سورة الشعراء ـ إلى آيات السورة مما ستنزل بعد وما نزلت قبل ، والتعبير باللفظ الخاص بالبعيد للدلالة على رفعة قدرها وبعد منالها.

والقرآن اسم للكتاب باعتبار كونه مقروا ، والمبين من الإبانة بمعنى الإظهار ، وتنكير « الْقُرْآنِ » للتفخيم أي تلك الآيات الرفيعة القدر التي ننزلها آيات الكتاب وآيات كتاب مقرو عظيم الشأن مبين لمقاصده من غير إبهام ولا تعقيد.

٣٣٩

قال في مجمع البيان : ، وصفه بالصفتين يعني الكتاب والقرآن ليفيد أنه مما يظهر بالقراءة ويظهر بالكتابة وهو بمنزلة الناطق بما فيه من الأمرين جميعا ، ووصفه بأنه مبين تشبيه له بالناطق بكذا. انتهى.

قوله تعالى : « هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ » المصدران أعني « هُدىً وَبُشْرى » بمعنى اسم الفاعل أو المراد بهما المعنى المصدري للمبالغة.

قوله تعالى : « الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ » إلخ ، المراد إتيان الأعمال الصالحة وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكون كل منها ركنا في بابه فالصلاة فيما يرجع إلى الله تعالى والزكاة فيما يرجع إلى الناس وبنظر آخر الصلاة في الأعمال البدنية والزكاة في الأعمال المالية.

وقوله : « وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ » وصف آخر للمؤمنين معطوف على ما قبله جيء به للإشارة إلى أن هذه الأعمال الصالحة إنما تقع موقعها وتصيب غرضها مع الإيقان بالآخرة فإن العمل يحبط مع تكذيب الآخرة ، قال تعالى : « وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ » الأعراف : ١٤٧.

وتكرار الضمير في قوله : « وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ » إلخ للدلالة على أن هذا الإيقان من شأنهم وهم أهله المترقب منهم ذلك.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ » العمه التحير في الأمر ومعنى تزيين العمل جعله بحيث ينجذب إليه الإنسان والذين لا يؤمنون بالآخرة لما أنكروها وهي غاية مسيرهم بقوا في الدنيا وهي سبيل لا غاية فتعلقوا بأعمالهم فيها وكانوا متحيرين في الطريق لا غاية لهم يقصدونها.

قوله تعالى : « أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ » إلخ إيعاد بمطلق العذاب من دنيوي وأخروي بدليل ما في قوله : « وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ » ولعل وجه كونهم أخسر الناس أن سائر العصاة لهم صحائف أعمال مثبتة فيها سيئاتهم وحسناتهم يجازون بها وأما هؤلاء فسيئاتهم محفوظة عليهم يجازون بها وحسناتهم حابطة.

قوله تعالى : « وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ » التلقية قريبة المعنى من التلقين ، وتنكير « حَكِيمٍ عَلِيمٍ » للتعظيم ، والتصريح بكون هذا القرآن من عنده

٣٤٠