الميزان في تفسير القرآن - ج ١٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

عن الولد وإن كان يجل أن يقنط من رحمة الله ونفوذ قدرته ، ولذا تعجب من قولهم واستفهمهم كيف يبشرونه بالولد وحاله هذه الحال؟ وزوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى.

فقوله : ( أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) الكبر كناية عن الشيخوخة ومسه هو نيله منه ما نال بإفناء شبابه وإذهاب قواه ، والمعنى إني لأتعجب من بشارتكم إياي والحال أني شيخ هرم فني شبابي وفقدت قوى بدني ، والعادة تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه ولد.

وقوله : ( فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) تفريع على قوله : ( مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) وهو استفهام عما بشروه به كأنه يشك في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الذي تبشرون به؟ فإن الذي يدل عليه ظاهر كلامكم أمر عجيب ، وهذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا أخبر بما يستبعده أو لا يصدقه : ما تقول؟

وما تريد؟ وما ذا تصنع؟

قوله تعالى : ( قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ ـ إلى قوله ـ إِلَّا الضَّالُّونَ ) الباء في ( بِالْحَقِ ) للمصاحبة أي إن بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله وهذا ، جواب للملائكة وقد قابلهم إبراهيم عليه‌السلام على نحو التكنية فقال : ( وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) والاستفهام إنكاري أي إن القنوط من رحمة الله مما يختص بالضالين ولست أنا بضال فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد.

قوله تعالى : ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) الخطب الأمر الجليل والشأن العظيم ، وفي خطابهم بالمرسلين دلالة على أنهم ذكروا له ذلك قبلا ، ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى : ( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ـ إلى قوله ـ لَمِنَ الْغابِرِينَ ) قال في المفردات : الغابر الماكث بعد مضي من هو معه قال تعالى : ( إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ) يعني فيمن طال أعمارهم ، وقيل : فيمن بقي ولم يسر مع لوط ، وقيل : فيمن بقي بعد في العذاب ، وفي آخر : ( إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) وفي آخر : ( قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) ـ إلى أن قال ـ والغبار ما يبقى من التراب المثار وجعل على بناء

١٨١

الدخان والعثار ونحوهما من البقايا. انتهى ولعله من هنا ما ربما يسمى الماضي والمستقبل معا غابرا أما الماضي فبعناية أنه بقي فيما مضى ولم يتعد إلى الزمان الحاضر وأما المستقبل فبعناية أنه باق لم يفن بعد كالماضي.

والآيات جواب الملائكة لسؤال إبراهيم ( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا ) من عند الله سبحانه ( إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) نكروهم ولم يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا منه ومستقبل الكلام يعينهم ثم استثنوا وقالوا : ( إِلَّا آلَ لُوطٍ ) وهم لوط وخاصته وظهر به أن القوم قومه ( إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ) أي مخلصوهم من العذاب ( أَجْمَعِينَ ) وظاهر السياق كون الاستثناء منقطعا.

ثم استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على أن النجاة لا تشملها وأن العذاب سيأخذها ويهلكها فقالوا ( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) أي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم.

وقد تقدم تفصيل قول في ضيف إبراهيم عليه‌السلام في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب وعقدنا هناك بحثا مستقلا فيه.

قوله تعالى : ( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) إنما قال لهم لوط عليه‌السلام ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان وكان يشقه ما يراه منهم وشأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدم في سورة هود والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : ( قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) الامتراء من المرية وهو الشك ، والمراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الذي كان ينذرهم به لوط وهم يشكون فيه ، والمراد بإتيانهم بالحق إتيانهم بقضاء حق في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم : ( وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) هود : ٧٦ وقيل : المراد ( وأتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه ) وما ذكرناه هو الوجه.

وفي آيات القصة تقديم وتأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم وبالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض أجزاء القصة في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي وتعينه له سنة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك.

١٨٢

وترتيب القصة بحسب أجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود وغيرها والاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله : ( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ ) إلى تمام آيتين قبل سائر الآيات. ثم قوله : ( وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) إلى تمام ست آيات. ثم قوله : ( قالُوا بَلْ جِئْناكَ ) إلى تمام أربع آيات. ثم قوله : ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) إلى آخر الآيات.

وحقيقة هذا التقديم والتأخير أن للقصة فصولا أربعة وقد أخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الأول والثاني أعني أن قوله : ( وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) إلى آخره أخر في الذكر ليتصل آخره وهو قوله : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) بأول الفصل الأخير : ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) وذلك ليتمثل به الغرض في الاستشهاد بالقصة وينجلي أوضح الانجلاء وهو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم وأمن منه لا يخطر ببالهم شيء من ذلك وذلك أبلغ في الدهشة وأوقع في الحسرة يزيد في العذاب ألما على ألم.

ونظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة أصحاب الحجر الآتية من اتصال قوله : ( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) بقوله : ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) كل ذلك ليجلي معنى قوله تعالى في صدر المقال : ( وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) فافهم ذلك.

قوله تعالى : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) إلى آخر الآية ، الإسراء هو السير بالليل ، فقوله : ( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) يؤكده وقطع الليل شطر مقطوع منه ، والمراد باتباعه أدبارهم هو أن يسير وراءهم فلا يترك أحدا يتخلف عن السير ويحملهم على السير الحثيث كما يشعر به قوله : ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ).

والمعنى : وإذ جئناك بعذاب غير مردود وأمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلا وتأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير ولا يساهلوا فيه ولا يلتفت أحد منكم إلى ورائه وامضوا حيث تؤمرون ، وفيه دلالة على أنه كانت أمامهم هداية إلهية تهديهم وقائد يقودهم.

قوله تعالى : ( وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) القضاء

١٨٣

مضمن معنى الوحي ولذا عدي بإلى ـ كما قيل ـ والمراد بالأمر أمر العذاب كما يفسره قوله : ( أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) والإشارة إليه بلفظة ( ذلِكَ ) للدلالة على عظم خطره وهول أمره.

والمعنى : وقضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط وهو أن دابر هؤلاء وأثرهم الذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل وبناء وعمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير أوحينا إليه قاضيا ، إلخ.

قوله تعالى : ( وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ـ إلى قوله ـ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) يدل نسبة المجيء إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدهم أهل المدينة لكثرتهم.

فالمعنى ( وَجاءَ ) إلى لوط ( أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) جمع كثير منهم يريدون أضيافه وهم ( يَسْتَبْشِرُونَ ) لولعهم بالفحشاء وخاصة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن أضيافه ( قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ) بالعمل الشنيع بهم ( وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ قالُوا ) المهاجمون من أهل المدينة : ألم نقطع عذرك في إيوائهم ( أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ ) أن تؤويهم وتشفع فيهم وتدافع عنهم فلما يئس لوط عليه‌السلام منهم عرض عليهم بناته أن ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهن ـ كما تقدم بيانه في سورة هود ـ ( قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ).

قوله تعالى : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ـ إلى قوله ـ مِنْ سِجِّيلٍ ) قال في المفردات : العمارة ضد الخراب. قال : والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء فإذا قيل : طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه ، وإذا قيل : بقاؤه فليس يقتضي ذلك فإن البقاء ضد الفناء ، ولفضل البقاء على العمر وصف الله به وقلما وصف بالعمر قال : والعمر ـ بالضم ـ والعمر ـ بالفتح ـ واحد لكن خص القسم بالعمر ـ بالفتح ـ دون العمر ـ بالضم ـ نحو ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ ) ، انتهى.

والخطاب في ( لَعَمْرُكَ ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو قسم ببقائه وقول بعضهم : إنه خطاب من الملائكة للوط عليه‌السلام وقسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.

والعمه هو التردد على حيرة والسجيل حجارة العذاب وقد تقدم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.

١٨٤

والمعنى أقسم بحياتك وبقائك يا محمد إنهم لفي سكرتهم وهي غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء والمنكر يترددون متحيرين ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) وهي الصوت الهائل ( مُشْرِقِينَ ) أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها وفوقها تحتها وأمطرنا وأنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجيل.

قوله تعالى : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ـ إلى قوله ـ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الآية العلامة والمراد بالآيات أولا العلامات الدالة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار وبالآية ثانيا العلامة الدالة للمؤمنين على حقية الإنذار والدعوة الإلهية والتوسم التفرس والانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.

والمعنى : أن في ذلك أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط وفي بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرسين وإن تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف ولم تنمح بالكلية بعد ، إن في ذلك لآية للمؤمنين تدل على حقية الإنذار والدعوة وقد تبين بذلك وجه إيراد الآيات جمعا ومفردا في الموضعين.

قوله تعالى : ( وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ ـ إلى ـ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) الأيكة واحدة الأيك وهو الشجر الملتف بعضه ببعض فقد كانوا ـ كما قيل ـ في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.

وهؤلاء ـ كما ذكروا ـ هم قوم شعيب عليه‌السلام أو طائفة من قومه كانوا يسكنون الغيضة ، ويؤيده قوله تعالى ذيلا : ( وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) أي مكانا قوم لوط وأصحاب الأيكة لفي طريق واضح فإن الذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط وقوم شعيب الخربة أهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم لدعوة شعيب عليه‌السلام وقد تقدمت قصتهم في سورة هود وقوله : ( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) الضمير لأصحاب الأيكة وقيل : لهم ولقوم لوط. ومعنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ـ إلى قوله ـ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح والحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها وعدهم مكذبين لجميع المرسلين وهم إنما كذبوا صالحا المرسل إليهم إنما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة والمكذب لواحد منهم مكذب للجميع.

١٨٥

وقوله : ( وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) إن كان المراد بالآيات المعجزات والخوارق ـ كما هو الظاهر ـ فالمراد بها الناقة وشربها وما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن أهلكوا ، وقد تقدمت القصة في سورة هود ، وإن كان المراد بها المعارف الإلهية التي بلغها صالح عليه‌السلام ونشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقة والآية المعجزة فالأمر واضح.

وقوله : ( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) أي كانوا يسكنون الغيران والكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضية والسماوية بزعمهم.

وقوله : ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) أي صيحة العذاب التي كان فيها هلاكهم ، وقد تقدمت الإشارة إلى مناسبة اجتماع الأمن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر الآيات : ( وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ).

وقوله : ( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أي من الأعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.

( بحث روائي )

في الدر المنثور ، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ناس من أصحابه يضحكون قال : اذكروا الجنة واذكروا النار فنزلت : ( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ).

أقول : وفي معناه روايات أخر لكن في انطباق معنى الآية على ما ذكر فيها من السبب خفاء.

وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله : ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) قال : هم المتفرسون.

وفيه ، أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال المتفرسين.

١٨٦

وفي اختصاص المفيد ، بإسناده عن أبي بكر بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال : ما من مخلوق إلا وبين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر ـ وذلك محجوب عنكم وليس بمحجوب عن الأئمة من آل محمد ـ ثم ليس يدخل عليهم أحد إلا عرفوه مؤمنا أو كافرا ـ ثم تلا هذه الآية : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) فهم المتوسمون.

أقول : والروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة ، وليس معناها نزول الآية فيهم عليه‌السلام.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا.

أقول : وقد أوردنا ما يجب إيراده من الروايات في قصة بشرى إبراهيم وقصص لوط وشعيب وصالح عليه‌السلام في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب واكتفينا بذلك عن إيرادها هاهنا فليرجع إلى هناك.

( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)

١٨٧

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩) ).

( بيان )

في الآيات تخلص إلى غرض البيان السابق وهو أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصدع بما يؤمر ويأخذ بالصفح والإعراض عن المشركين ولا يحزن عليهم ولا يضيق صدره بما يقولون فإن من القضاء الحق أن يجازي الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة وخاصة يوم القيامة الذي لا ريب فيه وهو اليوم الذي لا يغادر أحدا ولا يدع مثقال ذرة من الخير والشر إلا ألحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فإن الله عليم به سيجازيه ، ولا يحزن عليه فإن الاشتغال بالله سبحانه أهم وأوجب.

ولقد كرر سبحانه أمره بالصفح والإعراض عن أولئك المستهزءين به ـ وهم الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة ـ والاشتغال بتسبيحه وتحميده وعبادته ، وأخبره أنه كفاه شرهم فليشتغل بما أمره الله به ، وبذلك تختتم السورة.

قوله تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) الباء في قوله : ( بِالْحَقِ ) للمصاحبة أي إن خلقها جميعا لا ينفك عن الحق ويلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى : ( إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ) العلق : ٨ ولو لا ذلك لكان لعبا باطلا قال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ) الدخان : ٣٩ وقال : ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ) ص : ٢٧ ومن الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله : ( وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) وهو ظاهر.

وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن المراد بالحق العدل والإنصاف والباء للسببية والمعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء بالأعمال.

١٨٨

وذلك أن كون الحق في الآية بمعنى العدل والإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أن الذي ذكره من المعنى إنما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببية.

وكذا ما ذكره بعضهم أن الحق بمعنى الحكمة وأن الجملة الأولى ( وَما خَلَقْنَا ) إلخ ، ناظرة إلى العذاب الدنيوي والثانية ( وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) إلى العذاب الأخروي والمعنى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور ، وقد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح ، وإن الساعة لآتية فينتقم أيضا فيها من أمثال هؤلاء.

وفي الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر والتفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى قرصته فاستدل بها أصحاب الجبر على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.

واستدل بها أصحاب التفويض على أن أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإن المعاصي وقبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق.

والحق أن الحجتين جميعا من الباطل فإن جهات القبح والمعصية في الأفعال حيثيات عدمية إذ الطاعة والمعصية كالنكاح والزنا وأكل المال من حله وبالباطل وأمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل وإنما تختلف طاعة ومعصية بموافقة الأمر ومخالفته والمخالفة جهة عدمية ، وإذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فإن ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات والأرض حتى تشمله الآية ، ولا بجهته الوجودية من الباطل حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق.

على أن الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل والمعلولات في الوجود وأن قيام وجود شيء بشيء بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة والمعصية وحسن الفعل وقبيحه هو الإنسان دون الذي خلقه ويسر له أن يفعل كذا وكذا كما

١٨٩

أن المتصف بالسواد والبياض الجسم الذي يقوم به هذان اللونان دون الذي أوجده.

وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله : ( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة : ٢٦ الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) قال في المفردات : صفح الشيء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر والصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو ولذلك قال : ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) وقد يعفوا الإنسان ولا يصفح قال تعالى : ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ) ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) ( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ).

وصفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت الكتاب ، وقوله : ( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) فأمر له عليه‌السلام أن يخفف كفر من كفر كما قال : ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) والمصافحة الإفضاء بصفحة اليد. انتهى.

وسيأتي ما في الرواية من تفسير علي عليه‌السلام الصفح بالعفو من غير عتاب.

وقوله : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحق وهناك يوم فيه يحاسبون ويجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب والاستهزاء واعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة وجدال فإن ربك الذي خلقك وخلقهم هو عليم بحالك وحالهم ووراءهم يوم لا يفوتونه.

ومن هنا يظهر أن قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) تعليل لقوله : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ).

وهذه الآيات الحافة لقوله : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتطييب لنفسه ليأخذ قوله : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) موقعه فقد عرفت في أول السورة أن الغرض الأصيل منها هو الأمر بإعلان الدعوة وعرفت أيضا بالتدبر في الآيات السابقة أنها مسرودة ليتخلص بها إلى تسليته صلى‌الله‌عليه‌وآله عما لقي من قومه من الإيذاء والإهانة والاستهزاء ويتخلص من ذلك إلى الأمر المطلوب.

١٩٠

قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) السبع المثاني هي سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام فلا يصغي إلى ما ذكره بعضهم : أنها السبع الطوال ، وما ذكره بعض آخر أنها الحواميم السبع ، وما قيل : إنها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء ، فلا دليل على شيء منها من لفظ الكتاب ولا من جهة السنة.

وقد كثر اختلافهم في قوله : ( مِنَ الْمَثانِي ) من جهة كون ( مِنَ ) للتبعيض أو للتبيين وفي كيفية اشتقاق لفظة المثاني ووجه تسميتها بالمثاني.

والذي ينبغي أن يقال ـ والله أعلم ـ أن ( مِنَ ) للتبعيض فإنه سبحانه سمى جميع آيات كتابه مثاني إذ قال : ( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) الزمر : ٢٣ وآيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلها.

والظاهر أن المثاني جمع مثنية اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي والعطف والإعادة قال تعالى ( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) هود : ٥ وسميت الآيات القرآنية مثاني لأن بعضها يوضح حال البعض ويلوي وينعطف عليه كما يشعر به قوله : ( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضا وبين كون آياته مثاني ، وفي كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في صفة القرآن : ( يصدق بعضه بعضا ) وعن علي عليه‌السلام : فيه : ( ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ) أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير والإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.

ولعل في ذلك كفاية وغنى عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف وحواشيه والمجمع وروح المعاني وغيرها كقولهم : إنها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير والإعادة سميت آيات القرآن مثاني لتكرر المعاني فيها ، وكقولهم : سميت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين أو لأنها تثنى في كل ركعة بما يقرأ بعدها من القرآن ، أو لأن كثيرا من كلماتها مكررة كالرحمن والرحيم وإياك والصراط وعليهم ، أو لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله ، أو لأن الله استثناها وادخرها لهذه الأمة ولم ينزلها على الأمم الماضين كما في الرواية ، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.

١٩١

وفي قوله : ( سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) من تعظيم أمر الفاتحة والقرآن ما لا يخفى أما القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة والكبرياء بالعظيم ، وأما الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة ( سَبْعاً ) وفيه من الدلالة على عظمة قدرها وجلالة شأنها ما لا يخفى وقد قوبل بها القرآن العظيم وهي بعضه.

والآية ـ كما تبين ـ في مقام الامتنان وهي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح والإعراض تفيد أن في هذه الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف الإلهية الهادية إلى كل كمال وسعادة بإذن الله عدة أن تحملك على الصفح الجميل والاشتغال بربك والتوغل في طاعته.

قوله تعالى : ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ـ إلى قوله ـ الْمُبِينُ ) الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الذي تقدم الأمر به ، ولذلك جيء بالكلام في صورة الاستئناف.

والمذكور فيهما أربعة دساتير : منفيان ومثبتان فقوله : ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة ، والمراد بالأزواج الأزواج من الرجال والنساء أو الأصناف من الناس كالوثنيين واليهود والنصارى والمجوس ، والمعنى لا تتجاوز عن النظر عما أنعمناك به من النعم الظاهرة والباطنة إلى ما متعنا به أزواجا قليلة أو أصنافا من الكفار.

وربما أخذ بعضهم قوله : ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) كناية عن إطالة النظر وإدامته ، وأنت تعلم أن الغرض على أي حال النهي عن الرغبة والميل والتعلق القلبي بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال والشوكة والصيت والذي يكنى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته وإدامته ويشهد به ما سننقله من آية الكهف.

وقوله : ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) أي من جهة تماديهم في التكذيب والاستهزاء وإصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.

وقوله : ( وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) قالوا : هو كناية عن التواضع ولين الجانب ، والأصل فيه أن الطائر إذا أراد أن يضم إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثم

١٩٢

خفضه لها هذا.

والذي ذكروه وإن أمكن أن يتأيد بآيات أخر كقوله : ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ) آل عمران : ١٥٩ وقوله في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التوبة : ١٢٨ لكن الذي وقع في نظير الآية مما يمكن أن يفسر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين وهو يناسب أن يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه وقصر الهم على معاشرتهم وتربيتهم وتأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم والاحتباس فيهم من غير مفارقة ، كما أن الطائر إذا خفض الجناح لم يطر ولم يفارق ، قال تعالى : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية الكهف : ٢٨.

وقوله : ( وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي لا دعوى لي إلا أني نذير أنذركم بعذاب الله سبحانه مبين أبين لكم ما تحتاجون إلى بيانه ، وليس لي وراء ذلك من الأمر شيء.

فهذه الأمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا وترك الحزن عليهم إذا كفروا واستهزءوا ، وخفض الجناح للمؤمنين وإظهار أنه نذير مبين هو الصفح الجميل الذي يليق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو أسقط منها واحد لاختل الأمر.

ومن ذلك يظهر أن قول بعضهم : إن قوله : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) منسوخ بآية السيف غير وجيه فإن هذا الصفح الذي تأمر به الآية ويفسره قوله : ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) باق على إحكامه واعتباره حتى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.

قوله تعالى : ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال في المجمع : عضين جمع عضة وأصله عضوة فنقصت الواو ولذلك جمعت عضين بالنون كما قيل : عزوة وعزون والأصل عزوة ، والتعضية : التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال : عضيت الشيء أي فرقته وبعضته قال رؤبة : وليس دين الله بالمعضي ، انتهى موضع الحاجة.

وقوله : ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) لا يخلو السياق من دلالة على أنه متعلق بمقدر يلوح إليه قوله : ( وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين ، والمراد بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد : ( الَّذِينَ

( ١٢ ـ الميزان ـ ١٣ )

١٩٣

جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) وهم على ما وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزءوا القرآن أجزاء فقالوا : سحر ، وقالوا : أساطير الأولين ، وقالوا : مفترى ، وتفرقوا في مداخل طرق مكة أيام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله.

وقيل قوله : ( كَما أَنْزَلْنا ) متعلق بما تقدم من قوله : ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين ، والمراد بالمقتسمين اليهود والنصارى الذين فرقوا القرآن أجزاء وأبعاضا وقالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

وفيه أن السورة مكية نازلة في أوائل البعثة ولم يبتل الإسلام يومئذ باليهود والنصارى ذاك الابتلاء وقولهم : ( آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ ) آل عمران : ٧٢ مما قالته اليهود بعد الهجرة وكذا ما أشبه ذلك والدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.

وربما قيل : سموا مقتسمين لأنهم اقتسموا أنبياء الله وكتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ويدفعه أن الآية التالية تفسر المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين لا بالذين فرقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.

فالظاهر أن الآيتين تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن وبعضوه أبعاضا ليصدوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب وأهلكهم ، وهم الذين ذكروا في الآيتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله : ( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ).

قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) قال في المجمع : الصدع والفرق والفصل نظائر ، وصدع بالحق إذا تكلم به جهارا ، انتهى.

والآية تفريع على ما تقدم ، ومن حقها أن تتفرع لأنها الغرض في الحقيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر وأمرت بالصفح الجميل وكنت نذيرا بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحق وأعلن الدعوة.

وبذلك يظهر أن قوله : ( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) في مقام التعليل لقوله : ( فَاصْدَعْ ) إلخ كما يشعر الكلام أو يدل على أن هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون

١٩٤

المذكورون قبل ، ومعنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه وكنت نذيرا بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) وأعلن الدعوة وأظهر الحق ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا ) أي لأننا ( كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) بإنزال العذاب عليهم وهم ( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ).

قوله تعالى : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) رجع ثانيا إلى حزنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته وتطييب نفسه وتقوية روحه ، وقد أكثر سبحانه في كلامه وخاصة في السور المكية من ذلك لشدة الأمر عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) وصاه سبحانه بالتسبيح والتحميد والسجدة والعبادة أو إدامة العبودية مفرعا ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغم والمصيبة ، وقد أمره في الآيات السابقة بالصفح والصبر ، ويستفاد الأمر بالصبر أيضا من قوله : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإن ظاهره الأمر بالصبر على العبودية حتى حين ، وبذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد والمقاومة على مر الحوادث : ( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) البقرة : ١٥٣.

وبذلك يتأيد أن المراد بالساجدين المصلون وأنه أمر بالصلاة وقد سميت سجودا تسمية لها باسم أفضل أجزائها ويكون المراد بالتسبيح والتحميد اللفظي منهما كقول سبحان الله والحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح والتحميد ـ أو بهما وبالسجود ـ المعنى اللغوي وهو تنزيهه تعالى عما يقولون والثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم والتذلل له تذلل العبودية.

وأما قوله : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسر للآية السابقة وإن كان المراد الأخذ بالعبودية ـ كما هو ظاهر السياق ، وخاصة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح والإعراض ولازمهما الصبر كان بقرينة تقييده بقوله : ( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) أمرا بانتهاج منهج التسليم والطاعة والقيام بلوازم العبودية.

١٩٥

وعلى هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل ونزول الموت الذي يتبدل به الغيب من الشهادة ويعود به الخبر عيانا ، ويؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) على قوله : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) فإنه بالحقيقة أمر بالعفو والصبر على ما يقولون لأن لهم يوما ينتقم الله منهم ويجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية واصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى مر ما يقولون حتى يدركك الموت وينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.

وفي التعبير بمثل قوله : ( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) إشعار أيضا بذلك فإن العناية فيه بأن اليقين طالب له وسيدركه فليعبد ربه حتى يدركه ويصل إليه وهذا هو عالم الآخرة الذي هو عالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذي ربما يحصل بالنظر أو بالعبادة.

وبذلك يظهر فساد ما ربما قيل : إن الآية تدل على ارتفاع التكليف بحصول اليقين ، وذلك لأن المخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد دلت آيات كثيرة من كتاب الله أنه من الموقنين وأنه على بصيرة وأنه على بينة من ربه وأنه معصوم وأنه مهدي بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك. مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.

وسنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد الفراغ عن البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي )

في الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه وابن النجار عن علي بن أبي طالب : في قوله.

( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) قال : الرضا بغير عتاب.

وفي المجمع ، حكي عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : أن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب.

وفي العيون ، بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضا عليه‌السلام : في

١٩٦

الآية قال : العفو من غير عتاب.

وفي التهذيب ، بإسناده عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السبع المثاني ـ والقرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال : نعم. قلت : بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال : نعم هي أفضلهن.

أقول : وهو مروي من طرق الشيعة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وغير واحد من أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، ومن طرق أهل السنة عن علي وعدة من الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وأبي هريرة وغيرهم.

وفي الدر المنثور ، أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال : سأل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : أرأيت قول الله : ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ )؟ قال : اليهود والنصارى. قال : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : آمنوا ببعض وكفروا ببعض.

أقول : وقد عرفت فيما مر أن مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكية.

وفي تفسير العياشي ، عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام : عن قوله : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قالا : هم قريش.

وفي المعاني ، بإسناده عن عبد الله بن علي الحلبي قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : مكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة بعد ما جاء الوحي ـ عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة ـ مستخفيا منها ثلاث سنين خائفا لا يظهر ـ حتى أمر الله عز وجل أن يصدع بما أمر ـ فأظهر حينئذ الدعوة.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة أن عبد الله بن مسعود قال : ما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مستخفيا حتى نزل : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) فخرج هو وأصحابه.

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اكتتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة سنين ـ ليس يظهر وعلي معه وخديجة ـ ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا : كذاب امض عنا.

وفي تفسير العياشي ، عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال : كان المستهزءون خمسة

١٩٧

من قريش : الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي ـ والحارث بن حنظلة (١) والأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري ـ والأسود بن المطلب بن أسد فلما قال الله : ( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قد أخزاهم ـ فأماتهم الله بشر ميتات.

أقول : ورواه الصدوق في المعاني ، بإسناده عن أبان وروى فيه ، أيضا والطبرسي في الإحتجاج ، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي عليه‌السلام : ما في هذا المعنى وهو حديث طويل ـ فيه تفصيل هلاك كل من هؤلاء الخمسة لعنهم الله. وروي كون المستهزءين خمسة من قريش ـ عن علي وعن ابن عباس مع سبب هلاكهم.

والروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنة من جهة عددهم وأسمائهم وأسباب هلاكهم ، والذي اتفق فيه حديث الفريقين هو ما قدمناه.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ما أوحي إلي أن أكون تاجرا ـ ولا أجمع المال متكاثرا ولكن أوحي إلي : أن فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.

أقول :وروي ما في معناه أيضا عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه ، أخرج البخاري وابن جرير عن أم العلاء : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل على عثمان بن مظعون وقد مات فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب ـ فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال : وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين إني لأرجو له الخير.

وفي الكافي ، بإسناده عن حفص بن غياث قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن من صبر صبر قليلا ومن جزع جزع قليلا.

ثم قال : عليك بالصبر في جميع أمورك ـ فإن الله عز وجل بعث محمدا ـ وأمره بالصبر والرفق فقال : ( وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ـ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ) وقال تبارك وتعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ـ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ـ وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ).

__________________

(١) طلاطلة ط.

١٩٨

فصبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نالوه بالعظائم ورموه بها ـ وضاق صدره وقال الله : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ـ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ).

( بحث فلسفي في كيفية وجود التكليف ودوامه )

قد تقدم في خلال أبحاث النبوة وكيفية انتشاء الشرائع السماوية في هذا الكتاب أن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية هو متوجه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجودية تناسب وجوده لا يسكن عنها دون أن ينالها إلا أن يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد والنمو قبل أن تبلغ غايتها لآفات تعرضها ، وتقدم أيضا أن الحرمان من بلوغ الغايات إنما هو في أفراد خاصة من الأنواع وأما النوع بنوعيته فلا يتصور فيه ذلك.

وأن الإنسان وهو نوع وجودي له غاية وجودية لا ينالها إلا بالاجتماع المدني كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغني به عن سائر أمثاله كالذكورة والأنوثة والعواطف والإحساسات وكثرة الحوائج وتراكمها.

وأن تحقق هذا الاجتماع وانعقاد المجتمع الإنساني يحوج أفراد المجتمع إلى أحكام وقوانين ينتظم باحترامها والعمل بها شتات أمورهم ويرتفع بها اختلافاتهم الضرورية ويقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له ويحوز بها سعادته وكماله الوجودي ، وهذه الأحكام والقوانين العملية في الحقيقة منبعثة عن الحوائج التي تهتف بها خصوصية وجود الإنسان وخلقته الخاصة بما لها من التجهيزات البدنية والروحية كما أن خصوصية وجوده وخلقته مرتبطة بخصوصيات العلل والأسباب التي تكون وجود الإنسان من الكون العام.

وهذا معنى كون الدين فطريا أي أنه مجموع أحكام وقوانين يرشد إليها وجود الإنسان بحسب التكوين وإن شئت فقل : سنن يستدعيها الكون العام فلو أقيمت أصلحت المجتمع وبلغت بالأفراد غايتها في الوجود وكمالها المطلوب ولو تركت وأبطلت أفسدت العالم الإنساني وزاحمت الكون العام في نظامه.

وأن هذه الأحكام والقوانين سواء كانت معاملية اجتماعية تصلح بها حال المجتمع

١٩٩

ويجمع بها شمله أو عبادية تبلغ بالإنسان غاية كماله من المعرفة والصلاح في مجتمع صالح فإنها جميعا يجب أن يتلقاها الإنسان من طريق نبوة إلهية ووحي سماوي لا غير.

وبهذه الأصول الماضية يتبين أن التكليف الإلهي يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية سواء كان في نفسه ناقصا لم يكمل وجودا بعد أو كاملا علما وعملا : أما لو كان ناقصا فظاهر ، وأما لو كان كاملا فلأن معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم والعمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعاملية ما يلائم المجتمع ويصلحه ويتمكن من كمال المعرفة وصدور الأعمال العبادية الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهية الهادية للإنسان إلى سعادته.

ومن المعلوم أن تجويز ارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام والقوانين وهو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع والعناية الإلهية تأباه. وفيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلف الملكات عن آثارها فإن الأفعال مقدمات معدة لحصول الملكات ما لم تحصل ، وإذا حصلت عادت تلك الأفعال آثارا لها تصدر عنها صدورا لا تخلف فيه.

ومن هنا يظهر فساد ما ربما يتوهم أن الغرض من التكليف تكميل الإنسان وإيصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.

وجه الفساد : أن تخلف الإنسان عن التكليف الإلهي وإن كان كاملا ، في المعاملات يفسد المجتمع وفيه إبطال العناية الإلهية بالنوع ، وفي العبادات يستلزم تخلف الملكات عن آثارها ، وهو غير جائز ، ولو جاز لكان فيه إبطال الملكة وفيه أيضا إبطال العناية. نعم بين الإنسان الكامل وغيره فرق في صدور الأفعال وهو أن الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل والله المستعان.

٢٠٠