الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٠

وقوله : « يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا » : المجادلة : ٦ إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة.

ومنها : قول بعضهم إن المعنى وأوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون بهذا الوحي. وهذا الوجه غير بعيد لكن الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد ولا حاجة إليه ظاهرا.

ومنها : قول بعضهم : إن معنى الآية لتخبرنهم برقي حياتك وعزتك وملكك بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقا وهم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله.

وعمدة الفرق بين هذا القول وما قدمناه من الوجه أن في هذا القول صرف الإنباء عن الإنباء الكلامي إلى الإنباء بالحال الخارجي والوضع العيني ، ولا موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله : « هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ » إلخ.

قوله تعالى : « وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ » العشاء آخر النهار ، وقيل : من صلاة المغرب إلى العتمة ، وإنما كانوا يبكون ليلبسوا الأمر على أبيهم فيصدقهم فيما يقولون ولا يكذبهم.

قوله تعالى : « قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ » إلى آخر الآية ، قال الراغب في المفردات ، : أصل السبق التقدم في السير نحو « فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً » والاستباق التسابق وقال : « إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ » « وَاسْتَبَقَا الْبابَ » انتهى ، وقال الزمخشري في الكشاف ، : نستبق أي نتسابق ، والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل والارتماء والترامي وغير ذلك ، والمعنى نتسابق في العدو أو في الرمي. انتهى.

وقال صاحب المنار في تفسيره ، : ( إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ) أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة والتسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب. وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق ، ومنه « فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ » فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب ، وقوله الآتي في هذه السورة « وَاسْتَبَقَا الْبابَ » كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه ، وصيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى ، ولم يفطن

١٠١

الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى.

أقول : والذي مثل به من قوله تعالى : « فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ » من موارد الغلب فإن من المندوب شرعا أن لا يؤثر الإنسان غيره على نفسه في الخيرات والمثوبات والقربات وأن يتقدم على من دونه في حيازة البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق وكذا قوله تعالى : « وَاسْتَبَقَا الْبابَ » فإن المراد به قطعا أن كلا منها كان يريد أن يسبق الآخر إلى الباب هذا ليفتحه وهذه لتمنعه من الفتح وهو معنى التسابق فالحق أن معنيي الاستباق والتسابق متحدان صدقا على المورد ، وفي الصحاح ، : سابقته فسبقته سبقا واستبقنا في العدو أي تسابقنا. انتهى ، وفي لسان العرب ، : سابقته فسبقته ، واستبقنا في العدو ، أي تسابقنا. انتهى.

ولعل الوجه في تصادق استبق وتسابق أن نفس السبق معنى إضافي في نفسه ، وزنة « افتعل » تفيد تأكد معنى « فعل » وإمعان الفاعل في فعله وأخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب واكتسب وحمل واحتمل وصبر واصطبر وقرب واقترب وخفي واختفى وجهد واجتهد ونظائرها ، وطرو هذه الخصوصية على معنى السبق على ما به من الإضافة يفيد جهد الفاعل أن يخص السبق لنفسه ولا يتم إلا مع تسابق في المورد.

وقوله : « بِمُؤْمِنٍ لَنا » أي بمصدق لقولنا ، والإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء قال تعالى : « فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ » : العنكبوت : ٢٦.

والمعنى ـ أنهم حينما جاءوا أباهم عشاء يبكون ـ قالوا لأبيهم : يا أبانا إنا معشر الإخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمي ـ ولعله كان في عدو ـ فإن ذلك أبلغ في إبعادهم من رحلهم ومتاعهم وكان عنده يوسف على ما ذكروا ـ وتركنا يوسف عند رحلنا ومتاعنا فأكله الذئب ، ومن خيبتنا ومسكنتنا أنك لست بمصدق لنا فيما نقوله ونخبر به ولو كنا صادقين فيه.

وقولهم : « وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ » كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب وانسدت عليه طرق الحيلة ، للدلالة على أن كلامه غير موجه عند من يعتذر إليه وعذره غير مسموع وهو يعلم بذلك لكنه مع ذلك مضطر أن يخبر بالحق ويكشف عن الصدق وإن كان غير مصدق فيه ، فهو كناية عن الصدق في المقال.

١٠٢

قوله تعالى : « وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ » الكذب بالفتح فالكسر مصدر أريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بين الكذب.

وفي الآية إشعار بأن القميص وعليه دم ـ وقد نكر الدم للدلالة على هوان دلالته وضعفها على ما وصفوه ـ كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإن من افترسته السباع وأكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزق. وهذا شأن الكذب لا يخلو الحديث الكاذب ولا الأحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه وتناقض بين أطرافه أو شواهد من أوضاع وأحوال خارجية تحف به وتنادي بالصدق وتكشف القناع عن قبيح سريرته وباطنه وإن حسنت صورته.

( كلام في أن الكذب لا يفلح )

من المجرب أن الكذب لا يدوم على اعتباره وإن الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادعاه ، والوجه فيه أن الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب وإضافات غير متغيرة ولا متبدلة فلكل حادث من الحوادث الخارجية الواقعة لوازم وملزومات متناسبة لا ينفك بعضها من بعض ، ولها جميعا فيما بينها أحكام وآثار يتصل بعضها ببعض ، ولو اختل واحد منها لاختل الجميع وسلامة الواحد تدل على سلامة السلسلة. وهذا قانون كلي غير قابل لورود الاستثناء عليه.

فلو انتقل مثلا جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه أن يفارق المكان الأول ويبتعد منه ويغيب عنه وعن كل ما يلازمه ويتصل به ويخلو عنه المكان الأول ويشغل به الثاني وأن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم ، ولو اختل واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الأول اختلت جميع اللوازم المحتفة به.

وليس في وسع الإنسان ولا أي سبب مفروض إذا ستر شيئا من الحقائق الكونية بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات والملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن

١٠٣

محالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فإن ألقى سترا على واحدة منها ظهرت الأخرى وإلا فالثالثة وهكذا.

ومن هنا كانت الدولة للحق وإن كانت للباطل جولة ، وكانت القيمة للصدق وإن تعلقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ » : الزمر : ٣ وقال : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ » : المؤمن : ٢٨. وقال : « إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ » : النحل : ١١٦ وقال : « بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ » : ق : ٥ وذلك أنهم لما عدوا الحق كذبا بنوا على الباطل واعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض أجزائه بعضا ويدفع طرف منه طرفا.

قوله تعالى : « قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » هذا جواب يعقوب وقد فوجئ بنعي ابنه وحبيبه يوسف دخلوا عليه وليس معهم يوسف وهم يبكون يخبرونه أن يوسف قد أكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بالدم ، وقد كان يعلم بمبلغ حسدهم له وهم قد انتزعوه من يده بإلحاح وإصرار وجاءوا بقميصه وعليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه وأخبروا به.

فأضرب عن قولهم : « إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ » إلخ بقوله : « بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً » والتسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرا ، وأبهم الأمر ولم يعينه ثم أخبر أنه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم وينتقم منهم لنفسه انتقاما وإنما يكظم ما هجم نفسه كظما.

فقوله : « بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً » تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف وبيان أنه على علم من أن فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع وإنما يستند إلى مكر مكروه وتسويل من أنفسهم لهم ، والكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ » إلى آخر الآية.

وقوله ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) مدح للصبر وهو من قبيل وضع السبب موضع المسبب والتقدير : سأصبر على ما أصابني فإن الصبر جميل وتنكير الصبر وحذف صفته وإبهامها للإشارة إلى فخامة أمره وعظم شأنه أو مرارة طعمه وصعوبة تحمله.

وقد فرع قوله : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ » على ما تقدم للإشعار بأن الأسباب التي أحاطت

١٠٤

به وأفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلا أن يسلك سبيل الصبر ، وذلك أنه عليه‌السلام فقد أحب الناس إليه يوسف وهو ذا يذكر له أنه صار أكلة للذئب وهذا قميصه ملطخا بالدم وهو يرى أنهم كاذبون فيما يخبرونه به ، ويرى أن لهم صنعا في افتقاده ومكرا في أمره ولا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف والتجسس مما آل إليه أمره وأين هو؟ وما حاله؟ فإنما أعوانه على أمثال هذه النوائب وأعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنما هم أبناؤه وهم عصبة أولوا قوة وشدة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة ووقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ وبما ذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلا الصبر.

غير أن الصبر ليس هو أن يتحمل الإنسان ما حمله من الرزية وينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة التي تطؤها الأقدام وتلعب بها الأيدي فإن الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه وجهزه بما يقدم به على النوائب والرزايا ما استطاع ، ولا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب وحفظ النظام النفساني الذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانية من الاختلال ، وضبط الجمعية الداخلية من التفرق والتلاشي ونسيان التدبير واختباط الفكر وفساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره ، وغيرهم المنهزمون عند أول هجمة ثم لا يلوون على شيء.

ومن هنا يعلم أن الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة وكسر سورتها إلا أنه ليس تمام السبب في إعادة العافية وإرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الإنسان لدفع العدو المهاجم ، وأما عود نعمة الأمن والسلامة وحرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه الفوز والظفر ، وهذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه فعلى الإنسان الموحد إذا نابته نائبة ونزلت عليه مصيبة أن يتحصن أولا بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام العبودي ولا يتلاشى معسكر قواه ومشاعره ثم يتوكل على ربه الذي هو فوق كل سبب راجيا أن يدفع عنه الشر ويوجه أمره إلى غاية صلاح حاله ، والله سبحانه غالب على أمره ، وقد تقدم شيء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى : « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ » : البقرة : ٤٥ في الجزء الأول من الكتاب.

ولهذا كله لما قال يعقوب عليه‌السلام : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ » عقبه بقوله : « وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » فتمم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما أتى به في قوله في الآيات

١٠٥

المستقبلة : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » : الآية ٨٣ من السورة.

فقوله : « وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » ـ وهو من أعجب الكلام ـ بيان لتوكله على ربه يقول : إني أعلم أن لكم في الأمر مكرا وإن يوسف لم يأكله ذئب لكني لا أركن في كشف كذبكم والحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة التي لا تغني طائلا بغير إذن من الله ولا أتشحط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر وأوكل ربي أن يظهر على ما تصفون أن يوسف قد قضى نحبه وصار أكلة لذئب.

فظهر أن قوله : « وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » دعاء في موقف التوكل ومعناه : اللهم إني توكلت عليك في أمري هذا فكن عونا لي على ما يصفه بني هؤلاء ، والكلمة مبنية على توحيد الفعل فإنها مسوقة سوق الحصر ومعناها أن الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنه عليه‌السلام كان يرى أن لا حكم حقا إلا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ » ، ولتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل : سأصبر ولم يقل والله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه وذكر اسم ربه وإن الأمر منوط بحكمه الحق وهو من كمال توحيده وهو مستغرق في وجده وأسفه وحزنه ليوسف غير أنه ما كان يحب يوسف ولا يتوله فيه ولا يجد لفقده إلا لله وفي الله.

قوله تعالى : « وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ » قال الراغب : الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره. انتهى ، وقال : دلوت الدلو إذا أرسلتها ، وأدليتها إذا أخرجتها. انتهى ، وقيل بالعكس ، وقال : الإسرار خلاف الإعلان. انتهى.

وقوله : « قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ » إيراده بالفصل مع أنه متفرع وقوعا على إدلاء الدلو للدلالة على أنه كان أمرا غير مترقب الوقوع فإن الذي يترقب وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم ولذا قال : « قالَ يا بُشْرى » ونداء البشرى كنداء الأسف والويل ونظائرهما للدلالة على حضوره وجلاء ظهوره.

وقوله : « وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ » مفاده ذم عملهم والإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها ، ويمكن أن يكون المراد به أن ذلك إنما كان بعلم من الله أراد

١٠٦

بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الذي قدر له فإنه لو لم يخرج من الجب ولم يسر بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما أوتيه من الملك والعزة.

ومعنى الآية : وجاءت جماعة مارة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجب ثم لما أخرجها فاجأهم بقوله : يا بشرى هذا غلام ـ وقد تعلق يوسف بالحبل فخرج ـ فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة والحال أن الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو أن ذلك كان بعلمه تعالى وكان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة والملك والنبوة.

قوله تعالى : « وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ » الثمن البخس هو الناقص عن حق القيمة ، ودراهم معدودة أي قليلة والوجه فيه ـ على ما قيل ـ إنهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها ولا يعدون إلا القليلة منها والمراد بالدراهم النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ ، والشراء هو البيع ، والزهد هو الرغبة عن الشيء أو هو كناية عن الاتقاء.

والظاهر من السياق أن ضميري الجمع في قوله : « وَشَرَوْهُ » « وَكانُوا » للسيارة والمعنى أن السيارة الذين أخرجوه من الجب وأسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص وهي دراهم معدودة قليلة وكانوا يتقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم.

ومعظم المفسرين على أن الضميرين لإخوة يوسف والمعنى أنهم باعوا يوسف من السيارة بعد أن ادعوا أنه غلام لهم سقط في البئر وهم إنما حضروا هناك لإخراجه من الجب فباعوه من السيارة وكانوا يتقون ظهور الحال.

أو أن أول الضميرين للإخوة والثاني للسيارة والمعنى أن الإخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد والرغبة لئلا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أن الأمر لا يخلو من مكر وإن الغلام ليس فيه سيماء العبيد.

وسياق الآيات لا يساعد على شيء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيارة ولم يقع للإخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير « وَشَرَوْهُ » و « كانُوا » أو أحدهما إليهم على أن ظاهر قوله في الآية التالية : « وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ » أنه

١٠٧

اشتراه متحقق بهذا الشراء.

وأما ما ورد في الروايات « أن إخوة يوسف حضروا هناك وأخذوا يوسف منهم بدعوى أنه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس » فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات ولا أنه يدفع الروايات.

وربما قيل : إن الشراء في الآية بمعنى الاشتراء وهو مسموع وهو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.

قوله تعالى : « وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً » السياق يدل على أن السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر وعرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر وأدخله في بيته.

وقد أعجبت الآيات في ذكر هذا الذي اشتراه وتعريفه فذكر فيها أولا بمثل قوله تعالى : « وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ » فأنبأت أنه كان رجلا من أهل مصر ، وثانيا بمثل قوله : « وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ » فعرفته بأنه كان سيدا مصمودا إليه ، وثالثا بمثل قوله : « وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ » فأوضحت أنه كان عزيزا في مصر يسلم له أهل المدينة العزة والمناعة ، ثم أشارت إلى أنه كان له سجن وهو من شئون مصدرية الأمور والرئاسة بين الناس ، وعلم بذلك أن يوسف كان ابتيع أول يوم لعزيز مصر ودخل بيت العزة.

وبالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى إلا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصة ، ولم يكن لأول مرة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنه كان رجلا من أهل مصر وبها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله : « وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ».

وكيف كان ، الآية تنبئ على إيجازها بأن السيارة حملوا يوسف معهم وأدخلوه مصر وشروه من بعض أهلها فأدخله بيته ووصاه امرأته قائلا : ( أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ).

والعادة الجارية تقضي أن لا يهتم السادة والموالي بأمر أرقائهم دون أن يتفرسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة والرشد ، ويشاهد في سيماه الخير والسعادة ، وعلى الخصوص الملوك والسلاطين والرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات ومئات من

١٠٨

أحسن أفراد الغلمان والجواري فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه ولا ليتولهوا كل من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه ورجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولدا معنى عميق وعلى الأخص من جهة أنه أمر بذلك امرأته وسيدة بيته وليس من المعهود أن تباشر الملكات والعزيزات جزئيات الأمور وسفاسفها ولا أن تتصدى السيدات المنيعة مكانا ، أمور العبيد والغلمان.

نعم : إن يوسف عليه‌السلام كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويوله الألباب ، وكان قد أوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل ، وهذه صفات لا تنمو في الإنسان إلا وأعراقها ناجمة فيه أيام صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادئ أمره.

فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف ـ وهو طفل صغير ـ حتى تمنى أن ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من أخص الناس به ينتفع به في أموره الهامة ومقاصده العالية أو يدخل في أرومته ويكون ولدا له ولامرأته بالتبني فيعود وارثا لبيته.

ومن هنا يمكن أن يستظهر أن العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته ولذلك ترجى أن يتبنى هو وزوجته يوسف.

فقوله : « وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ » أي العزيز « لِامْرَأَتِهِ » وهي العزيزة « أَكْرِمِي مَثْواهُ » أي تصدي بنفسك أمره واجعلي له مقاما كريما عندك « عَسى أَنْ يَنْفَعَنا » في مقاصدنا العالية وأمورنا الهامة « أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً » بالتبني.

قوله تعالى : « وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » قال في المفردات ، المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء قال ويقال : مكنته ومكنت له فتمكن ، قال تعالى : « وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ » « وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ » « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ » « وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ » قال : قال الخليل : المكان مفعل من الكون ، ولكثرته في الكلام أجرى مجرى فعال فقيل : تمكن وتمسكن مثل تمنزل. انتهى. فالمكان هو مقر الشيء من الأرض ، والإمكان والتمكين الإقرار والتقرير في المحل ، وربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشيء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم وعند الناس ويقال : أمكنته من الشيء فتمكن منه أي أقدرته فقدر عليه وهو من قبيل الكناية.

١٠٩

ولعل المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا الحياة والتوسع فيها بعد ما حرم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض ويتغرب عن أرضه ومستقر أبيه.

وقد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصته مرتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجب وتسيير السيارة إياه إلى مصر وبيعه من العزيز وهو قوله في هذه الآية « وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ » وثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز وانتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى : « وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ » : الآية ٥٦ من السورة والعناية في الموضعين واحدة.

وقوله : « وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ » الإشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجب وبيعه واستقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الذي حصل له من دخوله في بيت العزيز واستقراره فيه على أهنإ عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشيء بنفسه ليدل به على غزارة الأوصاف المذكورة له وليس من القسم المذموم من تشبيه الشيء بنفسه كقوله :

كأننا والماء من حولنا

قوم جلوس حولهم ماء

بل المراد أن ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الذي وصفناه وأخبرنا عنه فهو يتضمن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل الشيء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة أوصافه وأهميتها وتعلق النفس بها كما هو شأن التشبيه.

ومن هذا الباب قوله تعالى : « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » : الشورى : ١١ وقوله تعالى : « لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ » : الصافات : ٦١ والمراد أن كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله سبحانه لا يشبهه ولا يماثله شيء ، وإن كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة وماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.

وإن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلي ببعض أفراده ليدل به على أن سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكل ببعض أجزائه للدلالة على أن الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور

١١٠

فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب ودخوله مصر واستقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإن إخوته حسدوه وحرموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجب وسلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية وباعوه من السيارة ليغربوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن والاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز وراودته هي ونسوة مصر ليوردنه في الصبوة والفحشاء فصرف الله عنه كيدهن وجعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه وصدقه في إيمانه ثم بدا لهم أن يجعلوه في السجن ويسلبوا عنه حرية معاشرة الناس والمخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع.

وبالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى : « كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ » : المؤمن ٧٤ وقوله : « كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ » : الرعد : ١٧ أي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى ، وضربه الأمثال أبدا على هذا النحو من المثل المضروب وهو أنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.

وقوله : « وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » بيان لغاية التمكين المذكور واللام للغاية ، وهو معطوف على مقدر والتقدير : مكنا له في الأرض لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من تأويل الأحاديث وإنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات أخر لا يسعها مقام التخاطب ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » : الأنعام : ٧٥ ونظائره.

وقوله : « وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » الظاهر أن المراد بالأمر الشأن وهو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى : « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » : يونس : ٣ ، وإنما أضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » : الأعراف : ٥٤.

والمعنى أن كل شأن من شئون الصنع والإيجاد من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء ، ينقاد له فيما أراد ، ليس له أن يستكبر أو

١١١

يتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى ويفوته قال تعالى : « إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ » : الطلاق : ٣.

وبالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلا السمع والطاعة ولكن أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أن الأسباب الظاهرة مستقلة في تأثيرها فعاله برءوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شيء وقد أخطئوا.

( بحث روائي )

في المعاني ، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال : صليت مع علي بن الحسين عليه‌السلام الفجر بالمدينة يوم الجمعة ـ فلما فرغ من صلاته وتسبيحه نهض إلى منزله وأنا معه ـ فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها : لا يعبر على بابي سائل إلا أطعمتموه فإن اليوم يوم الجمعة.قلت : ليس كل من يسأل مستحقا فقال : يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقا ـ فلا نطعمه ونرده فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله ـ أطعموهم.

إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا ـ فيتصدق به ويأكل هو وعياله منه ، وإن سائلا مؤمنا صواما محقا له عند الله منزلة ـ وكان مجتازا غريبا اعتر على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره ـ يهتف على بابه : أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقه ولم يصدقوا قوله.

فلما أيس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع ـ واستعبر وشكى جوعه إلى الله ـ وبات طاويا وأصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله ـ وبات يعقوب وآل يعقوب شباعا بطانا ، وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.

قال : فأوحى الله عز وجل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة : لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلة استجررت بها غضبي ، واستوجبت بها أدبي ـ ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك ـ يا يعقوب إن أحب أنبيائي إلي وأكرمهم علي من رحم مساكين عبادي ـ وقربهم إليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ.

١١٢

يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته ـ القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس ـ لما اعتر ببابك عند أوان إفطاره ـ ويهتف بكم أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع ، فلم تطعموه شيئا فاسترجع واستعبر وشكى ما به إلي ، وبات جائعا وطاويا حامدا وأصبح لي صائما ـ وأنت يا يعقوب وولدك شباع وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.

أوما علمت يا يعقوب ـ إن العقوبة والبلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ وذلك حسن النظر مني لأوليائي واستدراج مني لأعدائي. أما وعزتي لأنزلن بك بلواي ، ولأجعلنك وولدك غرضا لمصابي ، ولأؤدبنك بعقوبتي فاستعدوا لبلواي ـ وارضوا بقضائي واصبروا للمصائب.

فقلت لعلي بن الحسين عليه‌السلام : جعلت فداك ـ متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال : في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعا ، وبات فيها دميال طاويا جائعا ـ فلما رأى يوسف الرؤيا وأصبح يقصها على أبيه يعقوب ـ اغتم يعقوب لما سمع من يوسف وبقي مغتما ـ فأوحى الله إليه أن استعد للبلاء فقال يعقوب ليوسف : لا تقصص رؤياك على إخوتك ـ فإني أخاف أن يكيدوا لك كيدا ـ فلم يكتم يوسف رؤياه ، وقصها على إخوته.

قال علي بن الحسين عليه‌السلام : إن أول بلوى نزل ـ بيعقوب وآل يعقوب الحسد ليوسف لما سمعوا منه الرؤيا. قال : فاشتدت رقة يعقوب على يوسف ـ وخاف أن يكون ما أوحى الله عز وجل إليه من الاستعداد للبلاء ـ إنما هو في يوسف خاصة فاشتدت رقته عليه من بين ولده.

فلما رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف ، وتكرمته إياه ، وإيثاره إياه عليهم ـ اشتد ذلك عليهم وبدا البلاء فيهم ـ فتأمروا فيما بينهم و « قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ ـ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ـ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ـ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ » أي تتوبون.

فعند ذلك « قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ » فقال يعقوب « إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ـ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ » فانتزعه مقدرا

١١٣

حذرا عليه منه ـ أن يكون البلوى من الله عز وجل على يعقوب من يوسف خاصة ـ لموقعه في قلبه وحبه له.

قال : فغلب قدرة الله وقضاؤه ـ ونافذ أمره في يعقوب ويوسف وإخوته ـ فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه ولا يوسف وولده ، فدفعه إليهم وهو لذلك كاره ـ متوقع البلوى من الله في يوسف.

فلما خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم ـ وضمه إليه واعتنقه وبكى ودفعه إليهم ـ فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم ـ ولا يدفعه إليهم فلما أمعنوا به أتوا به غيضة أشجار ـ فقالوا : نذبحه ونلقيه تحت هذه الشجرة ـ فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم : « لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ » ولكن « أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ـ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ».

فانطلقوا به إلى الجب فألقوه فيه ـ وهم يظنون أنه يغرق فيه فلما صار في قعر الجب ـ ناداهم : يا ولد رومين أقرءوا يعقوب السلام مني ـ فلما رأوا كلامه ، قال بعضهم لبعض : لا تزولوا من هاهنا حتى تعلموا أنه قد مات ـ فلم يزالوا بحضرته حتى أيسوا « ورجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا ـ إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا ـ فأكله الذئب ».

فلما سمع مقالتهم استرجع واستعبر ـ وذكر ما أوحى الله عز وجل إليه من الاستعداد للبلاء ـ فصبر وأذعن للبلوى وقال لهم : « بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً » وما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب ـ من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة.

قال أبو حمزة : ثم انقطع حديث علي بن الحسين عليه‌السلام عند هذا.

قال أبو حمزة : فلما كان من الغد غدوت إليه وقلت له : جعلت فداك إنك حدثتني أمس بحديث ليعقوب وولده ـ ثم قطعته فيما كان من قصة إخوة يوسف وقصة يوسف بعد ذاك؟ فقال : إنهم لما أصبحوا قالوا : انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف : أمات أم هو حي؟.

فلما انتهوا إلى الجب وجدوا بحضرة الجب سيارة ـ وقد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه ـ فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلق بدلوه ـ فقال لأصحابه : يا بشرى هذا غلام ـ فلما

١١٤

أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف ـ فقالوا : هذا عبدنا سقط منا أمس في هذا الجب ـ وجئنا اليوم لنخرجه ـ فانتزعوه من أيديهم ونحوا به ناحية ـ فقالوا له : إما أن تقر لنا أنك عبد لنا ـ فنبيعك بعض السيارة أو نقتلك ـ فقال لهم يوسف : لا تقتلوني واصنعوا ما شئتم.

فأقبلوا به إلى السيارة فقالوا : من يشتري منكم هذا العبد منا؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهما ـ وكان إخوته فيه من الزاهدين ـ وسار به الذي اشتراه من البدو حتى أدخله مصر ـ فباعه الذي اشتراه من البدو من ملك مصر ـ وذلك قول الله عز وجل : « وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ ـ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ».

قال أبو حمزة : فقلت لعلي بن الحسين عليه‌السلام : ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجب؟ فقال : ابن تسع سنين ـ فقلت : كم كان بين منزل يعقوب يومئذ وبين مصر ـ فقال : مسيرة اثنا عشر يوما. الحديث.

أقول : وللحديث ذيل سنورده في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى وفيه نكات ربما لم تلائم ظاهر ما تقدم من بيان الآيات لكنها ترتفع بأدنى تأمل.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والبخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ـ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

وفي تفسير العياشي ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : الأنبياء على خمسة أنواع ـ منهم من يسمع الصوت ـ مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به ، ومنهم من ينبأ في منامه ـ مثل يوسف وإبراهيم عليه‌السلام ، ومنهم من يعاين ، ومنهم من نكت في قلبه ـ ويوقر في أذنه.

وفيه ، عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنما ابتلي يعقوب بيوسف ـ أنه ذبح كبشا سمينا ورجل من أصحابه يدعى بيوم ( بقوم ) محتاج لم يجد ما يفطر عليه ـ فأغفله ولم يطعمه فابتلي بيوسف ، وكان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادي : من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب ، فإذا كان المساء نادى ـ من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب.

وفي تفسير القمي ، قال : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله :

١١٥

« لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » يقول : لا يشعرون أنك أنت يوسف. أتاه جبرئيل وأخبره بذلك.

وفيه ، وفي رواية أبي الجارود « : في قول الله : « وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ » قال : إنهم ذبحوا جديا على قميصه.

وفي أمالي الشيخ ، بإسناده » : في قوله عز وجل : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ » قال : بلا شكوى.

أقول : وكان الرواية عن الصادق عليه‌السلام بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه ، وروي هذا المعنى في الدر المنثور ، عن حيان بن جبلة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي المضامين السابقة روايات أخر.

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)

١١٦

فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ).

( بيان )

تتضمن الآيات قصته عليه‌السلام أيام لبثه في بيت العزيز وقد ابتلي فيها بحب امرأة العزيز له ومراودتها إياه عن نفسه ، ومني بتعلق نساء المدينة به ومراودتهن إياه عن نفسه ، وكان ذلك بلوى ، وقد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه وطهارة ذيله أمر عجيب ، ومن

١١٧

تولهه في محبة ربه ما هو أعجب.

قوله تعالى : « وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد به قوى بدنه وتتقوى به أركانه بذهاب آثار الصباوة ، ويأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة التي عندها يكمل العقل ويتم الرشد.

والظاهر أن المراد به الانتهاء إلى أول سن الشباب دون التوسط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين ، والدليل عليه قوله تعالى في موسى عليه‌السلام : « وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً » : القصص : ١٤ حيث دل على التوسط فيه بقوله : « اسْتَوى » ، وقوله : « حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ » الآية : الأحقاف : ١٥ فلو كان بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله : « بَلَغَ ».

فلا مجال لما ذكره بعضهم : أن المراد ببلوغ الأشد بلوغ الثلاثين أو الثلاث والثلاثين ، وكذا ما قاله آخرون إن المراد به بلوغ الأربعين وهو سن الأربعين. على أن من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه وريعان عمره حتى إذا بلغ الأربعين من عمره وأشرف على الشيخوخة تعلقت به وراودته عن نفسه.

وقوله : « آتَيْناهُ حُكْماً » الحكم هو القول الفصل وإزالة الشك والريب من الأمور القابلة للاختلاف ـ على ما يتحصل من اللغة ـ ولازمه إصابة النظر في عامة المعارف الإنسانية الراجعة إلى المبدإ والمعاد والأخلاق النفسانية والشرائع والآداب المرتبطة بالمجتمع البشري.

وبالنظر إلى قوله عليه‌السلام لصاحبيه في السجن : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » : الآية ٤٠ من السورة ، وقوله بعد : « قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ » : الآية ٤١ من السورة يعلم أن هذا الحكم الذي أوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله ، وهذا هو الذي سأله إبراهيم عليه‌السلام من ربه إذ قال : « رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » : الشعراء : ٨٣.

وقوله : « وَعِلْماً » وهذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان وأي مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أن الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفساني ولا تسويل شيطاني كيف؟ والذي آتاهما هو الله سبحانه وقد قال تعالى : « وَاللهُ غالِبٌ

١١٨

عَلى أَمْرِهِ » : الآية ٢١ من السورة ، وقال : « إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ » : الطلاق : ٣ فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب والشك ، وما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا البتة.

ثم من المعلوم أن هذه المواهب الإلهية ليست بأعمال جزافية ولا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس التي تؤتى هذا الحكم والعلم لا تستوي هي والنفوس الخاطئة في حكمها المنغمرة في جهلها ، وقد قال تعالى : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً » : الأعراف : ٥٨ وإلى ذلك الإشارة بقوله : « وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » حيث يدل على أن هذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله إياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.

وليس من البعيد أن يستفاد من قوله : « وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » إن الله تعالى يجزي كل محسن ـ على اختلاف صفات الإحسان ـ شيئا من الحكم والعلم يناسب موقعه في الإحسان وقد قال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ » : الحديد : ٢٨ وقال تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » : الأنعام : ١٢٢.

وهذا العلم المذكور في الآية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة : « وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » وقوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن : « ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي » فافهم ذلك.

قوله تعالى : « وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » قال في المفردات ، : الرود هو التردد في طلب الشيء برفق ومنه الرائد لطالب الكلاء ، قال : والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء ، قال : والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود ، وراودت فلانا عن كذا ، قال تعالى : « هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي » وقال : « تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ » أي تصرفه عن رأيه ، وعلى ذلك قوله : « وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ » « سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ » انتهى.

وفي المجمع ، : المراودة المطالبة بأمر بالرفق واللين ليعمل به ومنه المرود لأنه يعمل به ، ولا يقال في المطالبة بدين : راوده ، وأصله من راد يرود إذا طلب المرعى ، وفي

١١٩

المثل : الرائد لا يكذب أهله ، والتغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه ، وإنما شدد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق ، انتهى.

وهيت لك اسم فعل بمعنى هلم ، ومعاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله.

والآية الكريمة « وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » على ما فيها من الإيجاز تنبئ عن إجمال قصة المراودة غير أن التدبر في القيود المأخوذة فيها والسياق الذي هي واقعة فيه وسائر ما يلوح من أطراف قصته الموردة في السورة يجلي عن حقيقة الحال ويكشف القناع عن تفصيل ما خبأ من الأمر.

يوسف :

هو ذا طفل صغير حولته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد ولعله لم يسأل إلا عن اسمه ، ولم يتكلم إلا أن قال : اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك ولم يلح من لهجته إلا أنه كان قد نشأ بين العبريين ، ولم يسأل عن بيته ونسبه فليس للعبيد بيوت ولم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقاء أنساب وهو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلم بشيء وكم من حديث بين جوانحه فلم يعرف نسبه إلا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن « وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ » ولا كشف عما في سره من توحيد العبودية لله بين أولئك الوثنيين إلا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله : « مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي » إلخ.

هو اليوم حليف الصمت والسكوت لكن قلبه مليء بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر مما بثه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد ومعنى العبودية ثم ما بشر به من الرؤيا أن الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وليس ينسى ما فعله به إخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما انقطع عن كافة الأسباب : أنه تحت الولاية الإلهية والتربية الربوبية معني بأمره وسينبأ إخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.

فكان عليه‌السلام مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت

١٢٠