الميزان في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٧

الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » : الحجر : ٣٩ ، وفي سورة ص حيث قال : « فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » : ص : ٨٢ ، ولو لا أن الجميع مسجودون بنوعيتهم للملائكة لم يستقم له أن ينقم منهم هذه النقمة ابتداء وهو ظاهر.

وثالثا : أن الخطابات التي خاطب الله سبحانه بها آدم عليه‌السلام كما في سورة البقرة وسورة طه عممها بعينها في هذه السورة لجميع بنيه ، قال تعالى : « يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ » إلخ.

والحقيقة الثانية : أن خلق آدم عليه‌السلام كان خلقا للجميع كما يدل عليه أيضا قوله تعالى : « وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ » : السجدة : ٨ وقوله : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ » : المؤمن : ٦٧ ، على ما هو ظاهر الآيتين أن المراد بالخلق من تراب هو الذي كان في آدم عليه‌السلام.

ويشعر بذلك أيضا قول إبليس في ضمن القصة على ما حكاه الله سبحانه في سورة إسراء : « لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً » الآية ، ولا يخلو عن إشعار به أيضا قوله تعالى : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ » الآيات : الأعراف : ١٧٢ على ما سيجيء من بيانه.

وللمفسرين في الآية أقوال مختلفة قال في مجمع البيان : ثم ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال : « وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ » قال الأخفش : « ثُمَ » هاهنا في معنى الواو ، وقال الزجاج : وهذا خطأ لا يجوزه الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه إنما « ثم » للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير ، وإنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أولا فالمراد أنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه فابتدأ خلق آدم من التراب ثم وقعت السورة بعد ذلك فهذا معنى خلقناكم ثم صورناكم « ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ » بعد الفراغ من خلق آدم ، وهذا مروي عن الحسن ، ومن كلام العرب : فعلنا بكم كذا وكذا وهم يعنون أسلافهم ، وفي التنزيل : « وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ » أي ميثاق أسلافكم.

وقد قيل في ذلك أقوال أخر : منها أن معناه خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، عن ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والسدي.

٢١

ومنها : أن الترتيب واقع في الإخبار فكأنه قال : خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم كما يقول القائل : أنا راجل ثم أنا مسرع ، وهذا قول جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي وغيرهما ، وعلى هذا فقد قيل : إن المعنى : خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء عن عكرمة وقيل خلقناكم في الرحم ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء انتهى.

أما ما نقله عن الزجاج من الوجه ففيه أولا أن نسبة شيء من صفات السابقين أو أعمالهم إلى أعقابهم إنما تصح إذا اشترك القبيلان في ذلك بنوع من الاشتراك كما فيما أورده من المثال لا بمجرد علاقة النسب والسبق واللحوق حتى يصح بمجرد الانتساب النسلي أن تعد خلقة نفس آدم خلقا لبنيه من غير أن يكون خلقه خلقا لهم بوجه.

وثانيا : أن ما ذكره لو صح به أن يعد خلق آدم وتصويره خلقا وتصويرا لبنيه صح أن يعد أمر الملائكة بالسجدة له أمرا لهم بالسجدة لبنيه كما جرى على ذلك في قوله : « وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ » فما باله قال : « ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ » ولم يقل : « ثم قلنا للملائكة اسجدوا للإنسان ».

وأما ما نقله أخيرا من أقوالهم فوجوه سخيفة غير مفهومة من لفظ الآية ، ولعل القائلين بها لا يرضون أن يتأول في كلامهم أنفسهم بمثل هذه الوجوه فكيف يحمل على مثلها أبلغ الكلام؟.

قوله تعالى : « فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ » أخبر تعالى عن سجود الملائكة جميعا كما يصرح به في قوله : « فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ » : الحجر : ٣٠ ، واستثنى منهم إبليس وقد علل عدم ائتماره بالأمر في موضع آخر بقوله : « كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » : الكهف : ٥٠ ، وقد وصف الملائكة بمثل قوله : « بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » : الأنبياء : ٢٧ ، وهو بظاهره يدل على أنه من غير نوع الملائكة.

ولهذا وقع الخلاف بينهم في توجيه هذا الاستثناء : أهو استثناء متصل بتغليب الملائكة لكونهم أكثر وأشرف أو أنه استثناء منفصل وإنما أمر بأمر على حدة غير

٢٢

الأمر المتوجه إلى جمع الملائكة وإن كان ظاهر قوله : « ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ » أن الأمر لم يكن إلا واحدا وهو الذي وجهه الله إلى الملائكة.

والذي يستفاد من ظاهر كلامه تعالى أن إبليس كان مع الملائكة من غير تميز له منهم والمقام الذي كان يجمعهم جميعا كان هو مقام القدس كما يستفاد من قصة ذكر الخلافة « وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ » : البقرة : ٣٠ ، وإن الأمر بالسجود إنما كان متوجها إلى ذلك المقام أعني إلى المقيمين بذلك المقام من جهة مقامهم كما يشير إليه قوله تعالى في ما سيأتي : « قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها » والضمير إلى المنزلة أو إلى السماء أو الجنة ومآلهما إلى المنزلة والمقام ولو كان الخطاب متوجها إليهم من غير دخل المنزلة والمقام في ذلك لكان من حق الكلام أن يقال : « فما يكون لك أن تتكبر ».

وعلى هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك؟ وعند ذلك تميز الفريقان ، وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم ومنزلتهم التي حلوا فيها ، وهو الخضوع العبودي والامتثال كما حكاه الله عنهم : « بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » فهذه حقيقة حياة الملائكة وسنخ أعمالهم ، وقد بقوا على ذلك وخرج إبليس من المنزلة التي كان يشاركهم فيها كما يشير إليه قوله : « كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » والفسق خروج التمرة عن قشرها فتميز منهم فأخذ حياة لا حقيقة لها إلا الخروج من الكرامة الإلهية وطاعة العبودية.

والقصة وإن سيقت مساق القصص الاجتماعية المألوفة بيننا وتضمنت أمرا وامتثالا وتمردا واحتجاجا وطردا ورجما وغير ذلك من الأمور التشريعية والمولوية غير أن البيان السابق على استفادته من الآيات يهدينا إلى كونها تمثيلا للتكوين بمعنى أن إبليس على ما كان عليه من الحال لم يقبل الامتثال أي الخضوع للحقيقة الإنسانية فتفرعت عليه المعصية ، ويشعر به قوله تعالى : « فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها » فإن ظاهره أن هذا المقام لا يقبل لذاته التكبر فكان تكبره فيه خروجه منه وهبوطه إلى ما هو دونه.

على أن الأمر بالسجود ـ كما عرفت ـ أمر واحد توجه إلى الملائكة وإبليس

٢٣

جميعا بعينه ، والأمر المتوجه إلى الملائكة ليس من شأنه أن يكون مولويا تشريعيا بمعنى الأمر المتعلق بفعل يتساوى نسبة مأمورة إلى الطاعة والمعصية والسعادة والشقاوة فإن الملائكة مجبولون على الطاعة مستقرون في مقر السعادة كما أن إبليس واقع في الجانب المخالف لذلك على ما ظهر من أمره بتوجيه الأمر إليه.

فلو لا أن الله سبحانه خلق آدم وأمر الملائكة وإبليس جميعا بالسجود له لكان إبليس على ما كان عليه من منزلة القرب غير متميز من الملائكة لكن خلق الإنسان شق المقام مقامين : مقام القرب ومقام البعد ، وميز السبيل سبيلين : سبيل السعادة وسبيل الشقاوة.

قوله تعالى : « قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » يريد ما منعك أن تسجد كما وقع في سورة ص من قوله : « قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ » : ص : ٧٥ ، ولذلك ربما قيل : إن « لا » زائدة جيء بها للتأكيد كما في قوله : « لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ » : الحديد : ٢٩.

والظاهر أن « منع » مضمن نظير معنى حمل أو دعا ، والمعنى : ما حملك أو ما دعاك على أن لا تسجد مانعا لك.

وقوله : « قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » يحكي عما أجاب به لعنه الله ، وهو أول معصيته وأول معصية عصي بها الله سبحانه فإن جميع المعاصي ترجع بحسب التحليل إلى دعوى الإنية ومنازعة الله سبحانه في كبريائه ، وله رداء الكبرياء لا شريك له فيه ، فليس لعبد مخلوق أن يعتمد على ذاته ويقول : أنا قبال الإنية الإلهية التي عنت له الوجود ، وخضعت له الرقاب ، وخشعت له الأصوات ، وذل له كل شيء.

ولو لم تنجذب نفسه إلى نفسه ، ولم يحتبس نظره في مشاهدة إنيته لم يتقيد باستقلال ذاته ، وشاهد الإله القيوم فوقه فذلت له إنيته ذلة تنفي عنه كل استقلال وكبرياء فخضع للأمر الإلهي ، وطاوعته نفسه في الائتمار والامتثال ، ولم تنجذب نفسه إلى ما كان يتراءى من كونه خيرا منه لأنه من النار وهو من الطين بل انجذبت نفسه إلى

٢٤

الأمر الصادر عن مصدر العظمة والكبرياء ومنبع كل جمال وجلال.

وكان من الحري إذا سمع قوله : « ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ » أن يأتي بما يطابقه من الجواب كأن يقول : منعني أني خير منه لكنه أتى بقوله : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ » ليظهر به الإنية ، ويفيد الثبات والاستمرار ، ويستفاد منه أيضا أن المانع له من السجدة ما يرى لنفسه من الخيرية فقوله : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ » أظهر وآكد في إفادة التكبر.

ومن هنا يظهر أن هذا التكبر هو التكبر على الله سبحانه دون التكبر على آدم.

ثم إنه في قوله : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » استدل على كونه خيرا من آدم بمبدإ خلقته وهو النار وأنها خير من الطين الذي خلق منه آدم وقد صدق الله سبحانه ما ذكره من مبدإ خلقته حيث ذكر أنه كان من الجن ، وأن الجن مخلوق من النار قال تعالى : « كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » : الكهف : ٥٠ وقال : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ » : الحجر : ٢٧ ، وقال أيضا : « خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ » : الرحمن : ١٥.

لكنه تعالى لم يصدقه فيما ذكره من خيريته منه فإنه تعالى وإن لم يرد عليه قوله « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ » إلخ ، في هذه السورة إلا أنه بين فضل آدم عليه وعلى الملائكة في حديث الخلافة الذي ذكره في سورة البقرة للملائكة.

على أنه تعالى ذكر القصة في موضع آخر بقوله : « إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » الخ : ، ص : ٧٦.

فبين أولا أنهم لم يدعوا إلى السجود له لمادته الأرضية التي سوي منها ، وإنما دعوا إلى ذلك لما سواه ونفخ فيه من روحه الخاص به تعالى الحاملة للشرف كل الشرف

٢٥

والمتعلقة لتمام العناية الربانية ، ويدور أمر الخيرية في التكوينيات مدار العناية الإلهية لا لحكم من ذواتها فلا حكم إلا لله.

ثم بين ثانيا لما سأله عن سبب عدم سجوده بقوله : « ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ » أنه تعالى اهتم بأمر خلقته كل الاهتمام واعتنى به كل الاعتناء حيث خلقه بكلتا يديه بأي معنى فسرنا اليدين ، وهذا هو الفضل فأجاب لعنه الله بقوله : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » فتعلق بأمر النار والطين ، وأهمل أمر تكبره على ربه كما أنه في هذه السورة سئل عن سبب تكبره على ربه إذ قيل له : « ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ » فتعلق بقوله : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ » إلخ ، ولم يعتن بما سئل عنه أعني السبب في تكبره على ربه إذ لم يأتمر بأمره.

بلى قد اعتنى به إذ قال : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ » فأثبت لنفسه استقلال الإنية قبال الإنية الإلهية التي قهرت كل شيء فاستدعاه ذلك إلى نسيان كبريائه تعالى ووجد نفسه مثل ربه وأن له استقلالا كاستقلاله ، وأوجب ذلك أن أهمل وجوب امتثال أمره لأنه الله بل اشتغل بالمرجحات فوجد الترجيح للمعصية على الطاعة وللتمرد على الانقياد وليس إلا أن تكبره بإثبات الإنية المستقلة لنفسه أعمى بصره فوجد مادة نفسه وهي النار خيرا من مادة نفس آدم وهي الطين فحكم بأنه خير من آدم ، ولا ينبغي للفاضل أن يخضع بالسجود لمفضوله ، وإن أمر به الله سبحانه لأنه يسوي بنفسه نفس ربه بما يرى لنفسه من استقلال وكبرياء كاستقلاله فيترك الآمر ويتعلق بالمرجحات في الأمر.

وبالجملة هو سبحانه الله الذي منه يبتدئ كل شيء وإليه يرجع كل شيء فإذا خلق شيئا وحكم عليه بالفضل كان له الفضل والشرف واقعا بحسب الوجود الخارجي وإذا خلق شيئا ثانيا وأمره بالخضوع للأول كان وجوده ناقصا مفضولا بالنسبة إلى ذلك الأول فإن المفروض أن أمره إما نفس التكوين الحق أو ينتهي إلى التكوين فقوله الحق والواجب في امتثال أمره أن يمتثل لأنه أمره لا لأنه مشتمل على مصلحة أو جهة من جهات الخير والنفع حتى يعزل عن ربوبيته ومولويته ويعود زمام الأمر والتأثير إلى المصالح والجهات ، وهي التي تنتهي إلى خلقه وجعله كسائر الأشياء من غير فرق.

فجملة ما تدل عليه آيات القصة أن إبليس إنما عصى واستحق الرجم بالتكبر على

٢٦

الله في عدم امتثال أمره ، وأن الذي أظهر به تكبره هو قوله : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ » وقد تكبر فيه على ربه كما تقدم بيانه وإن كان ذلك تكبرا منه على آدم حيث إنه فضل نفسه عليه واستصغر أمره وقد خصه الله بنفسه وأخبرهم بأنه أشرف منهم في حديث الخلافة وفي قوله : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » وقوله : « خَلَقْتُ بِيَدَيَ » إلا أن العناية في الآيات باستكباره على الله لا استكباره على آدم.

ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : « وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » : الكهف : ٥٠ حيث لم يقل : فاستنكف عن الخضوع لآدم بل إنما ذكر الفسق عن أمر الرب تعالى.

فتلخص أن آيات القصة إنما تعتني بمسألة استعلائه على ربه ، وأما استكباره على آدم وما احتج به على ذلك فذلك من المدلول عليه بالتبع ، والظاهر أنه هو السر في عدم التعرض للجواب عن حجته صريحا إلا ما يؤمي إليه بعض أطراف الكلام كقوله : « خَلَقْتُ بِيَدَيَ » وقوله : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » وغير ذلك.

فإن قلت : القول بكون الأمر بالسجود تكوينيا ينافي ما تنص عليه الآيات من معصية إبليس فإن القابل للمعصية والمخالفة إنما هو الأمر التشريعي وأما الأمر التكويني فلا يقبل المعصية والتمرد البتة فإنه كلمة الإيجاد الذي لا يتخلف عنه الوجود قال : « إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » : النحل : ٤٠.

قلت : الذي ذكرناه آنفا أن القصة بما تشتمل عليه بصورتها من الأمر والامتثال والتمرد والطرد وغير ذلك وإن كانت تتشبه بالقضايا الاجتماعية المألوفة فيما بيننا لكنها تحكي عن جريان تكويني في الروابط الحقيقية التي بين الإنسان والملائكة وإبليس فهي في الحقيقة تبين ما عليه خلق الملائكة وإبليس وهما مرتبطان بالإنسان ، وما تقتضيه طبائع القبيلين بالنسبة إلى سعادة الإنسان وشقائه ، وهذا غير كون الأمر تكوينيا.

فالقصة قصة تكوينية مثلت بصورة نألفها من صور حياتنا الدنيوية الاجتماعية كملك من الملوك أقبل على واحد من عامة رعيته لما تفرس منه كمال الاستعداد وتمام القابلية فاستخلصه لنفسه وخصه بمزيد عنايته ، وجعله خليفته في مملكته مقدما له على خاصته ممن حوله فأمرهم بالخضوع لمقامه والعمل بين يديه فلباه في دعوته وامتثال

٢٧

أمره جمع منهم ، فرضي عنهم بذلك وأقرهم على مكانتهم ، واستكبر بعضهم فخطأ الملك في أمره فلم يمتثله معتلا بأنه أشرف منه جوهرا وأغزر عملا فغضب عليه وطرده عن نفسه وضرب عليه الذلة والصغار لأن الملك إنما يطاع ملك بيده زمام الأمر وإليه إصدار الفرامين والدساتير ، وليس يطاع لأن ما أمر به يطابق المصلحة الواقعية فإنما ذلك شأن الناصح الهادي إلى الخير والرشد.

وبالتأمل في هذا المثل ترى أن خاصة الملك ـ أعم من المطيع والعاصي ـ كانوا متفقين قبل صدور الأمر في منزلة القرب مستقرين في مستوى الخدمة وحظيرة الكرامة من غير أي تميز بينهم حتى أتاهم الأمر من ذي العرش فينشعب الطريق عند ذلك إلى طريقين ويتفرقون طائفتين : طائفة مطيعة مؤتمرة ، وأخرى عاصية مستكبرة وتظهر من الملك بذلك سجاياه الكامنة ووجوه قدرته وصور إرادته من رحمة وغضب وتقريب وتبعيد وعفو ومغفرة وأخذ وانتقام ووعد ووعيد وثواب وعقاب ، والحوادث كالمحك يظهر باحتكاكه جوهر الفلز ما عنده من جودة أو رداءة.

فقصة سجود الملائكة وإباء إبليس تشير إلى حقائق تشابه بوجه ما يتضمنه هذا المثل من الحقائق والأمر بالسجدة فيها تشريفه تعالى آدم بقرب المنزلة ونعمة الخلافة وكرامة الولاية تشريفا أخضع له الملائكة وأبعد منه إبليس لمضادة جوهر السعادة الإنسانية فصار يفسد الأمر عليه كلما مسه ويغويه إذا اقترب منه كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله.

وقد عبر الله سبحانه عن إنفاذه أمر التكوين في مواضع من كلامه بلفظ الأمر أو ما يشبه ذلك كقوله : « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » : حم السجدة : ١١ ، وقوله : « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها » : الأحزاب : ٧٢ وأشمل من الجميع قوله : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » : يس : ٨٢.

فإن قلت : رفع اليد عن ظاهر القصة وحملها على جهة التكوين المحضة يوجب التشابه في عامة كلامه تعالى ، ولا مانع حينئذ يمنع من حمل معارف المبدإ والمعاد بل والقصص والعبر والشرائع على الأمثال ، وفي تجويز ذلك إبطال للدين.

٢٨

قلت : إنما المتبع هو الدليل فربما دل على ثبوتها وعلى صراحتها ونصوصيتها كالمعارف الأصلية والاعتقادات الحقة وقصص الأنبياء والأمم في دعواتهم الدينية والشرائع والأحكام وما تستتبعه من الثواب والعقاب ونظائر ذلك ، وربما دل الدليل وقامت شواهد على خلاف ذلك كما في القصة التي نحن فيها ، ومثل قصة الذر وعرض الأمانة وغير ذلك مما لا يستعقب إنكار ضروري من ضروريات الدين ، ولا يخالف آية محكمة ولا سنة قائمة ولا برهانا يقينيا.

والذي ذكره إبليس في مقام الاحتجاج : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » من القياس وهو استدلال ظني لا يعبأ به في سوق الحقائق ، وقد ذكر المفسرون وجوها كثيرة في الرد عليه لكنك عرفت أن القرآن لم يعتن بأمره ، وإنما أخذ الله إبليس باستكباره عليه في مقام ليس له فيه إلا الانقياد والتذلل ، ولذلك أغمضنا عن التعرض لما ذكروه.

قوله تعالى : « قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ » التكبر هو أخذ الإنسان مثلا الكبر لنفسه وظهوره به على غيره فإن الكبر والصغر من الأمور الإضافية ، ويستعمل في المعاني غالبا فإذا أظهر الإنسان بقول أو فعل أنه أكبر من غيره شرفا أو جاها أو نحو ذلك فقد تكبر عليه وعده صغيرا ، وإذ كان لا شرف ولا كرامة لشيء على شيء إلا ما شرفه الله وكرمه كان التكبر صفة مذمومة في غيره تعالى على الإطلاق إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر والمذلة في أنفسهم من غير فرق بين شيء وشيء ولا كرامة إلا بالله ومن قبله ، فليس لأحد من دون الله أن يتكبر على أحد ، وإنما هو صفة خاصة بالله سبحانه فهو الكبير المتعال على الإطلاق فمن التكبر ما هو حق محمود وهو الذي لله عز اسمه أو ينتهي إليه بوجه كالتكبر على أعداء الله الذي هو في الحقيقة اعتزاز بالله ، ومنه ما هو باطل مذموم وهو الذي يوجد عند غيره بدعوى الكبر لنفسه لا بالحق.

والصاغرين جمع صاغر من الصغار وهو الهوان والذلة ، والصغار في المعاني كالصغر في الصور ، وقوله : « فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ » تفسير وتأكيد لقوله « فَاهْبِطْ مِنْها » لأن الهبوط هو خروج الشيء من مستقره نازلا فيدل ذلك على أن

٢٩

الهبوط المذكور إنما كان هبوطا معنويا لا نزولا من مكان جسماني إلى مكان آخر ، ويتأيد به ما تقدم أن مرجع الضمير في قوله : « مِنْها » وقوله : « فِيها » هو المنزلة دون السماء أو الجنة إلا أن يرجعا إلى المنزلة بوجه.

والمعنى : قال الله تعالى : فتنزل عن منزلتك حيث لم تسجد لما أمرتك فإن هذه المنزلة منزلة التذلل والانقياد لي فما يحق لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين أهل الهوان ، وإنما أخذ بالصغار ليقابل به التكبر.

قوله تعالى : « قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ » استمهال وإمهال ، وقد فصل الله تعالى ذلك في موضع آخر بقوله : « قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ » : الحجر : ٣٨ ، ص : ٨١ ، ومنه يعلم أنه أمهل بالتقييد لا بالإطلاق الذي ذكره فلم يمهل إلى يوم البعث بل ضرب الله لمهلته أجلا دون ذلك وهو يوم الوقت المعلوم ، وسيجيء الكلام فيه في سورة الحجر إن شاء الله تعالى.

فقوله تعالى : « إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ » إنما يدل على إجمال ما أمهل به ، وفيه دلالة على أن هناك منظرين غيره.

واستمهاله إلى يوم البعث يدل على أنه كان من همه أن يديم على إغواء هذا النوع في الدنيا وفي البرزخ جميعا حتى تقوم القيامة فلم يجبه الله سبحانه إلى ما استدعاه بل لعله أجابه إلى ذلك إلى آخر الدنيا دون البرزخ فلا سلطان له في البرزخ سلطان الإغواء والوسوسة وإن كان ربما صحب الإنسان بعد موته في البرزخ مصاحبة الزوج والقرين كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى : « وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ » : الزخرف : ٣٩ ، وظاهر قوله : « احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ » : الصافات : ٢٢.

قوله تعالى : « قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ » إلى آخر الآية. الإغواء هو الإلقاء في الغي والغي والغواية هو الضلال بوجه والهلاك والخيبة ، والجملة أعني قوله : « أَغْوَيْتَنِي » وإن فسر بكل من هذه

٣٠

المعاني على اختلاف أنظار المفسرين غير أن قوله تعالى في سورة الحجر فيما حكاه عنه : « قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » يؤيد أن مراده هو المعنى الأول ، والباء في قوله : « فَبِما » للسببية أو المقابلة ، والمعنى : فبسبب إغوائك إياي أو في مقابلة إغوائك إياي لأقعدن لهم إلخ ، وقد أخطأ من قال : إنها للقسم وكان القائل أراد أن يطبقه على قوله تعالى في موضع آخر حكاية عنه : « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » : ص : ٨٢.

وقوله : « لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ » أي لأجلسن لأجلهم على صراطك المستقيم وسبيلك السوي الذي يوصلهم إليك وينتهي بهم إلى سعادتهم لما أن الجميع سائرون إليك سالكون لا محالة مستقيم صراطك فالقعود على الصراط المستقيم كناية عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه.

وقوله : « ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ » بيان لما يصنعه بهم وقد كمن لهم قاعدا على الصراط المستقيم ، وهو أنه يأتيهم من كل جانب من جوانبهم الأربعة.

وإذ كان الصراط المستقيم الذي كمن لهم قاعدا عليه أمرا معنويا كانت الجهات التي يأتيهم منها معنوية لا حسية والذي يستأنس من كلامه تعالى لتشخيص المراد بهذه الجهاد كقوله تعالى : « يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً » : النساء : ١٢٠ ، وقوله : « إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ » : آل عمران : ١٧٥ وقوله : « وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ » : البقرة : ١٦٨ ، وقوله : « الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ » : البقرة ٢٦٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة هو أن المراد مما بين أيديهم ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم مما يتعلق به الآمال والأماني من الأمور التي تهواه النفوس وتستلذه الطباع ، ومما يكرهه الإنسان ويخاف نزوله به كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله أو ذم الناس ولومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير والثواب.

والمراد بخلقهم ناحية الأولاد والأعقاب فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد آمال وأماني ومخاوف ومكاره فإنه يخيل إليه أنه يبقى ببقائهم فيسره ما يسرهم ويسوؤه ما يسوؤهم فيجمع المال من حلاله وحرامه لأجلهم ، ويعد لهم ما استطاع من قوة فيهلك

٣١

نفسه في سبيل حياتهم.

والمراد باليمين وهو الجانب القوي الميمون من الإنسان ناحية سعادتهم وهو الدين وإتيانه من جانب اليمين أن يزين لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية ، والتكلف بما لم يأمرهم به الله وهو الذي يسميه الله تعالى باتباع خطوات الشيطان.

والمراد بالشمال خلاف اليمين ، وإتيانه منه أن يزين لهم الفحشاء والمنكر ويدعوهم إلى ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب واتباع الأهواء.

قال الزمخشري في الكشاف : فإن قلت : كيف قيل : « مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ » بحرف الابتداء ، و « عَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ » بحرف المجاوزة؟ قلت : المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس ، وإنما يبحث عن صحة موقعها فقط.

فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه وجلس عن شماله وعلى شماله قلنا :معنى على يمينه أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في « تعال » ، انتهى موضع الحاجة.

وقوله تعالى : « وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ » نتيجة ما ذكره من صنعه بهم بقوله : « لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ » إلخ ، وقد وضع في ما حكاه الله من كلامه في غير هذا الموضع بدل هذه الجملة أعني « وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ » جملة أخرى قال : « قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً » : إسراء : ٦٢ فاستثنى من وسوسته وإغوائه القليل مطابقا لما في هذه السورة ، وقال : « لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » : الحجر : ٤٠ ، ص : ٨٣.

ومنه يظهر أنه إنما عنى بالشاكرين في هذا الموضع المخلصين ، والتأمل الدقيق في معنى الكلمتين يرشد إلى ذلك فإن المخلصين ـ بفتح اللام ـ هم الذين أخلصوا لله فلا يشاركه فيهم أي في عبوديتهم وعبادتهم سواه ، ولا نصيب فيهم لغيره ، ولا يذكرون إلا ربهم وقد نسوا دونه كل شيء حتى أنفسهم فليس في قلوبهم إلا هو سبحانه ، ولا موقف فيها للشيطان ولا لتزييناته.

٣٢

والشاكرون هم الذين استقرت فيهم صفة الشكر على الإطلاق فلا يمسون نعمة إلا بشكر أي بأن يستعملوها ويتصرفوا فيها قولا أو فعلا على نحو يظهرون به أنها من عند ربهم المنعم بها عليهم فلا يقبلون على شيء ـ أعم من أنفسهم وغيرهم ـ إلا وهم على ذكر من ربهم قبل أن يمسوه ومعه وبعده ، وأنه مملوك له تعالى طلقا ليس له من الأمر شيء فذكرهم ربهم على هذه الوتيرة ينسيهم ذكر غيره إلا بالله ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

فلو أعطي اللفظ حق معناه لكان الشاكرون هم المخلصين ، واستثناء إبليس الشاكرين أو المخلصين من شمول إغوائه وإضلاله جرى منه على حقيقة الأمر اضطرارا ولم يأت به جزافا أو امتنانا على بني آدم أو رحمة أو لغير ذلك.

فهذا ما واجه إبليس به مصدر العزة والعظمة أعني قوله : « فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ » ـ إلى قوله ـ « وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ » فأخبر أنه يقصدهم من كل جهة ممكنة ، ويفسد الأمر على أكثرهم بإخراجهم عن الصراط المستقيم ، ولم يبين نحو فعله وكيفية صنعه.

لكن في كلامه إشارة إلى حقيقتين : إحداهما : أن الغواية التي تمكنت في نفسه وهو ينسبها إلى صنع الله هي السبب لإضلاله وإغوائه لهم أي إنه يمسهم بنفسه الغوية فلا يودع فيهم إلا الغواية كالنار التي تمس الماء بسخونتها فتسخنه ، وهذه الحقيقة ظاهرة من قوله تعالى : « احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ » ـ إلى أن قال ـ « وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » ـ إلى أن قال ـ « فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ » : الصافات : ٣٢.

والثانية : أن الذي يمسه الشيطان من بني آدم ـ وهو نوع عمله وصنعه ـ هو الشعور الإنساني وتفكره الحيوي المتعلق بتصورات الأشياء والتصديق بما ينبغي فعله أو لا ينبغي ، وسيجيء تفصيله في الكلام في إبليس وعمله.

قوله تعالى : « قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ » ( إلخ ) المذءوم من ذامه يذامه ويذيمه إذا عابه وذمه ، والمدحور من دحره إذا طرده ودفعه بهوان.

٣٣

وقوله : « لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ » إلخ ، اللام للقسم وجوابه هو قوله : « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ » إلخ ، لما كان مورد كلام إبليس ـ وهو في صورة التهديد بالانتقام ـ هو بني آدم وأنه سيبطل غرض الخلقة فيهم وهو كونهم شاكرين أجابه تعالى بما يفعل بهم وبه فقال : « لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ » محاذاة لكلامه ثم قال : « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ » أي منك ومنهم فأشركه في الجزاء معهم.

وقد امتن تعالى في كلمته هذه التي لا بد أن تتم فلم يذكر جميع من تبعه بل أتى بقوله : « مِنْكُمْ » وهو يفيد التبعيض.

قوله تعالى : « وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ » إلى آخر الآية. خص بالخطاب آدم عليه‌السلام وألحق به في الحكم زوجته ، وقوله : « فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما » توسعة في إباحة التصرف إلا ما استثناه بقوله : « وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ » والظلم هو الظلم على النفس دون معصية الأمر المولوي فإن الأمر إرشادي.

قوله تعالى : « فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ » إلى آخر الآية. الوسوسة هي الدعاء إلى أمر بصوت خفي ، والمواراة ستر الشيء بجعله وراء ما يستره ، والسوآة جمع السوأة وهي العضو الذي يسوء الإنسان إظهاره والكشف عنه ، وقوله : « ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ » إلخ ، أي إلا كراهة أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.

والملك وإن قرئ بفتح اللام إلا أن فيه معنى الملك ـ بالضم فالسكون ـ والدليل عليه قوله في موضع آخر : « قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى » : طه : ١٢٠.

ونقل في المجمع ، عن السيد المرتضى رحمه الله احتمال أن يكون المراد بقوله : « إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ » إلخ ، أنه أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة خاصة والخالدون دونهما فيكون كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا ، وإنما يريد أن المنهي إنما هو فلان دونك ، وهذا أوكد في الشبهة واللبس عليهما ( انتهى ). لكن آية سورة طه المنقولة آنفا تدفعه.

قوله تعالى : « وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ » المقاسمة المبالغة في القسم أي حلف لهما

٣٤

وأغلظ في حلفه إنه لهما لمن الناصحين ، والنصح خلاف الغش.

قوله تعالى : « فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ » إلى آخر الآية. التدلية التقريب والإيصال كما أن التدلي الدنو والاسترسال ، وكأنه من الاستعارة من دلوت الدلو أي أرسلتها ، والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش ، والخصف الضم والجمع ، ومنه خصف النعل.

وفي قوله : « وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ » دلالة على أنهما عند توجه هذا الخطاب كانا في مقام البعد من ربهما لأن النداء هو الدعاء من بعد ، وكذا من الشجرة بدليل قوله : « تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ » بخلاف قوله عند أول ورودهما الجنة : « وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ».

قوله تعالى : « قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » هذا منهما نهاية التذلل والابتهال ، ولذلك لم يسألا شيئا وإنما ذكرا حاجتهما إلى المغفرة والرحمة وتهديد الخسران الدائم المطلق لهما حتى يشاء الله ما يشاء.

قوله تعالى : « قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ » إلى آخر الآية ، كان الخطاب لآدم وزوجته وإبليس ، وعداوة بعضهم لبعض هو ما يشاهد من اختلاف طبائعهم ، وهذا قضاء منه تعالى والقضاء الآخر قوله : « وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ » أي إلى آخر الحياة الدنيوية ، وظاهر السياق أن الخطاب الثاني أيضا يشترك فيه الثلاثة.

قوله تعالى : « قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ » قضاء آخر يوجب تعلقهم بالأرض إلى حين البعث ، وليس من البعيد أن يختص هذا الخطاب بآدم وزوجته وبنيهما ، لما فيه من الفصل بلفظة « قالَ » وقد مر تفصيل الكلام في قصة الجنة في سورة البقرة فليراجعها من شاء.

كلام في إبليس وعمله

عاد موضوع « إبليس » موضوعا مبتذلا عندنا لا يعبأ به دون أن نذكره أحيانا ونلعنه أو نتعوذ بالله منه أو نقبح بعض أفكارنا بأنها من الأفكار الشيطانية ووساوسه ونزغاته دون أن نتدبر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب

٣٥

الغائب عن حواسنا ، وما له من عجيب التصرف والولاية في العالم الإنساني.

وكيف لا وهو يصاحب العالم الإنساني على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله وينقرض بانطواء بساط الدنيا ثم يلازمه بعد الممات ثم يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة ، وهو مع الواحد منا كما هو مع غيره هو معه في علانيته وسره يجاريه كلما جرى حتى في أخفى خيال يتخيله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته لا يحجبه عنه حاجب ، ولا يغفل عنه بشغل شاغل.

وأما الباحثون منا فقد أهملوا البحث عن ذلك وبنوا على ما بنى عليه باحثو الصدر الأول سالكين ما خطوا لهم من طريق البحث ، وهي النظريات الساذجة التي تلوح للأفهام العامية لأول مرة تلقوا الكلام الإلهي ثم التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كل طائفة ، خاصة والتحصن فيه ثم الدفاع عنه بأنواع الجدال ، والاشتغال بإحصاء إشكالات القصة وتقرير السؤال والجواب بالوجه بعد الوجه.

لم خلق الله إبليس وهو يعلم من هو؟ لم أدخله في جمع الملائكة وليس منهم؟ لم أمره بالسجدة وهو يعلم أنه لا يأتمر؟ لم لم يوفقه للسجدة وأغواه؟ لم لم يهلكه حين لم يسجد؟ لم أنظره إلى يوم يبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟ لم مكنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم؟ لم أيده بالجنود من خيل ورجل وسلطه على جميع ما للحياة الإنسانية به مساس؟ لم لم يظهره على حواس الإنسان ليحترز مساسه؟ لم لم يؤيد الإنسان بمثل ما أيده به؟ ولم لم يكتم أسرار خلقه آدم وبنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائهم؟ وكيف جازت المشافهة بينه وبين الله سبحانه وهو أبعد الخليقة منه وأبغضهم إليه ولم يكن بنبي ولا ملك؟ فقيل بمعجزة وقيل : بإيجاد آثار تدل على المراد ، ولا دليل على شيء من ذلك.

ثم كيف دخل إبليس الجنة؟ وكيف جاز وقوع الوسوسة والكذب والمعصية هناك وهي مكان الطهارة والقدس؟ وكيف صدقه آدم وكان قوله مخالفا لخبر الله؟ وكيف طمع في الملك والخلود وذلك يخالف اعتقاد المعاد؟ وكيف جازت منه المعصية وهو نبي معصوم؟ وكيف قبلت توبته ولم يرد إلى مقامه الأول والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ وكيف ...؟ وكيف ...؟.

٣٦

وقد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقي واسترسالهم في الجدال إشكالا وجوابا أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا آدم النوعي والقصة تخييلية محضة واختار آخرون أن إبليس الذي يخبر عنه القرآن الكريم هو القوة الداعية إلى الشر من الإنسان!.

وذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح والشنائع إليه تعالى وأن جميع المعاصي من فعله ، وأنه يخلق الشر والقبيح فيفسد ما يصلحه ، وأن الحسن هو الذي أمر به والقبيح هو الذي نهى عنه ، وآخرون : إلى أن آدم لم يكن نبيا ، وآخرون : إلى أن الأنبياء غير معصومين مطلقا ، وآخرون : إلى أنهم غير معصومين قبل البعثة وقصة الجنة قبل بعثة آدم ، وآخرون : إلى أن ذلك كله من الامتحان واختبار ولم يبينوا ما هو الملاك الحقيقي في هذا الامتحان الذي يضل به كثيرون ويهلك به الأكثرون ، ولو لا وجود ملاك يحسم مادة الإشكال لعادت الإشكالات بأجمعهم.

والذي يمنع نجاح السعي في هذه الأبحاث ويختل به نتائجها هو أنهم لم يفرقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقية من جهاتها الاعتبارية ، ولم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختل بذلك نظام البحث ، وحكموا في ناحية التكوين غالبا الأصول الوضيعة الاعتبارية الحاكمة في التشريعيات والاجتماعيات.

والذي يجب تحريره وتنقيحه على الحر الباحث عن هذه الحقائق الدينية المرتبطة بجهات التكوين أن يحرر جهات :

الأولى : أن وجود شيء من الأشياء التي يتعلق بها الخلق والإيجاد في نفسه ـ أعني وجوده النفسي من غير إضافة ـ لا يكون إلا خيرا ولا يقع إلا حسنا ، فلو فرض محالا تعلق الخلقة بما فرض شرا في نفسه عاد أمرا موجودا له آثار وجودية يبتدئ من الله ويرتزق برزقه ثم ينتهي إليه فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشر والقبح إلا أن يرتبط وجوده بغيره فيفسد نظاما عادلا في الوجود أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها وسعادتها ، وهذه هي الإضافة المذكورة.

ولذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهية أن ينتفع من هذه الموجودات المضرة الوجود بما يربو على مضرتها وذلك قوله تعالى : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ »

٣٧

: السجدة : ٧ ، وقوله : « تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » : الأعراف : ٥٤ ، وقوله : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » : إسراء : ٤٤.

والثانية : أن عالم الصنع والإيجاد على كثرة أجزائه وسعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوله فإيجاد بعضه إنما هو بإيجاد الجميع ، وإصلاح الجزء إنما هو بإصلاح الكل فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود وهو الذي صير العالم عالما ثم ارتباطها يستلزم استلزاما ضروريا في الحكمة الإلهية نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي والتضاد أو بالكمال والنقص والوجدان والفقدان والنيل والحرمان ، ولو لا ذلك عاد جميع الأشياء إلى شيء واحد لا تميز فيه ولا اختلاف ويبطل بذلك الوجود قال تعالى : « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » : القمر : ٥٠.

فلو لا الشر والفساد والتعب والفقدان والنقص والضعف وأمثالها في هذا العالم لما كان للخير والصحة والراحة والوجدان والكمال والقوة مصداق ، ولا عقل منها معنى لأنا إنما نأخذ المعاني من مصاديقها.

ولو لا الشقاء لم تكن سعادة ، ولو لا المعصية لم تتحقق طاعة ، ولو لا القبح والذم لم توجد حسن ولا مدح ، ولو لا العقاب لم يحصل ثواب ، ولو لا الدنيا لم تتكون آخرة.

فالطاعة مثلا امتثال الأمر المولوي فلو لم يمكن عدم الامتثال الذي هو المعصية لكان الفعل ضروريا لازما ، ومع لزوم الفعل لا معنى للأمر المولوي لامتناع تحصيل الحاصل ، ومع عدم الأمر المولوي لا مصداق للطاعة ولا مفهوم لها كما عرفت.

ومع بطلان الطاعة والمعصية يبطل المدح والذم المتعلق بهما والثواب والعقاب والوعد والوعيد والإنذار والتبشير ثم الدين والشريعة والدعوة ثم النبوة والرسالة ثم الاجتماع والمدنية ثم الإنسانية ثم كل شيء ، وعلى هذا القياس جميع الأمور المتقابلة في النظام ، فافهم ذلك.

ومن هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشر والمعصية من أركان نظام العالم الإنساني الذي إنما يجري على سنة الاختيار ويقصد سعادة النوع.

وهو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحا إلى ربه ليلاقيه ، ومن المعلوم أن الصراط إنما يتعين بمتنه صراطا بالحاشية الخارجة عنه

٣٨

الحافة به فلو لا الطرف لم يكن وسط فافهم ذلك وتذكر قوله تعالى : « قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ » : الأعراف : ١٦ ، وقوله « قالَ : هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » : الحجر : ٤٢.

إذا تأملت في هاتين الجهتين ثم تدبرت آيات قصة السجدة وجدتها صورة منبئة عن الروابط الواقعية التي بين النوع الإنساني والملائكة وإبليس عبر عنها بالأمر والامتثال والاستكبار والطرد والرجم والسؤال والجواب ، وأن جميع الإشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبر القصة حتى أن بعض (١) من تنبه لوجه الصواب وأنها تشير إلى ما عليه طبائع الإنسان والملك والشيطان ذكر أن الأمر والنهي ـ يريد أمر إبليس بالسجدة ونهي آدم عن أكل الشجرة ـ تكوينيان فأفسد بذلك ما قد كان أصلحه ، وذهل عن أن الأمر والنهي التكوينيين لا يقبلان التخلف والمخالفة ، وقد خالف إبليس الأمر وخالف آدم النهي.

الثالثة : أن قصة الجنة مدلولها ـ على ما تقدم تفصيل القول فيها في سورة البقرة ـ ينبئ عن أن الله سبحانه خلق جنة برزخية سماوية ، وأدخل آدم فيها قبل أن يستقر عليه الحياة الأرضية ، ويغشاه التكليف المولوي ليختبر بذلك الطباع الإنساني فيظهر به أن الإنسان لا يسعه إلا أن يعيش على الأرض ، ويتربى في حجر الأمر والنهي فيستحق السعادة والجنة بالطاعة ، وإن كان دون ذلك فدون ذلك ، ولا يستطيع الإنسان أن يقف في موقف القرب وينزل في منزل السعادة إلا بقطع هذا الطريق.

وبذلك ينكشف أن لا شيء من الإشكالات التي أوردوها في قصة الجنة فلا الجنة كانت جنة الخلد التي لا يدخلها إلا ولي من أولياء الله تعالى دخولا لا خروج بعده أبدا ، ولا الدار كانت دارا دنيوية يعاش فيها عيشة دنيوية يديرها التشريع ويحكم فيها الأمر والنهي المولويان بل كانت دارا يظهر فيها حكم السجية الإنسانية لا سجية آدم عليه‌السلام بما هو شخص آدم إذ لم يؤمر بالسجدة له ولا أدخل الجنة إلا لأنه إنسان كما تقدم بيانه.

__________________

(١) صاحب المنار في المجلد ٨ من التفسير تحت عنوان « الإشكالات في القصة ».

٣٩

رجعنا إلى أول الكلام :

لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرير الذي سماه إبليس إلا يسيرا وهو قوله تعالى : « كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » : الكهف : ٥٠ ، وما حكاه عنه في كلامه : « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ » فبين أن بدء خلقته كان من نار من سنخ الجن وأما ما الذي آل إليه أمره فلم يذكره صريحا كما أنه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصل القول في خلقة الإنسان.

نعم هناك آيات واصفة لصنعه وعمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب قال تعالى حكاية عنه : « لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ » : الأعراف : ١٧.

فأخبر أنه يتصرف فيهم من جهة العواطف النفسانية من خوف ورجاء وأمنية وأمل وشهوة وغضب ثم في أفكارهم وإرادتهم المنبعثة منها.

كما يقارنه في المعنى قوله : « قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ » : الحجر : ٣٩ ، أي لأزينن لهم الأمور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف وزينات مهيأة من تعلق العواطف الداعية نحو اتباعها ولأغوينهم بذلك كالزنا مثلا يتصوره الإنسان وتزينه في نظره الشهوة ويضعف بقوتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه فيصدق به فيقترفه ، ونظير ذلك قوله « يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً » : النساء : ١٢٠ ، وقوله : « فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ » : النحل : ٦٣.

كل ذلك ـ كما ترى ـ يدل على أن ميدان عمله هو الإدراك الإنساني ووسيلة عمله العواطف والإحساسات الداخلة فهو الذي يلقي هذه الأوهام الكاذبة والأفكار الباطلة في النفس الإنسانية كما يدل عليه قوله : « الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ » : الناس : ٥.

لكن الإنسان مع ذلك لا يشك في أن هذه الأفكار والأوهام المسماة وساوس شيطانية أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبب إلى ذلك بشيء كما في سائر أفكاره وآرائه التي لا تتعلق بعمل وغيره كقولنا :

٤٠