الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

( بيان )

الآيات تشرع صلاة الخوف والقصر في السفر ، وتنتهي إلى ترغيب المؤمنين في تعقيب المشركين وابتغائهم ، وهي مرتبطة بالآيات السابقة المتعرضة للجهاد وما لها من مختلف الشئون.

قوله تعالى : « وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ » الجناح الإثم والحرج والعدول ، والقصر النقص من الصلاة ، قال في المجمع : في قصر الصلاة ثلاث لغات : قصرت الصلاة أقصرها وهي لغة القرآن ، وقصرتها تقصيرا ، أقصرتها إقصارا.

والمعنى : إذا سافرتم فلا مانع من حرج وإثم أن تنقصوا شيئا من الصلاة ، ونفي الجناح الظاهر وحده في الجواز لا ينافي وروده في السياق للوجوب كما في قوله تعالى « إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما » : ( البقرة : ١٥٨ ) مع كون الطواف واجبا ، وذلك أن المقام مقام التشريع ، ويكفي فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع جهات الحكم وخصوصياته ، ونظير الآية بوجه قوله تعالى « وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ » الآية : ( البقرة : ١٨٤ ).

قوله تعالى : « إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا » ، الفتنة وإن كانت ذات معان كثيرة مختلفة لكن المعهود من إطلاقها في القرآن في خصوص الكفار والمشركين التعذيب من قتل أو ضرب ونحوهما ، وقرائن الكلام أيضا تؤيد ذلك فالمعنى : إن خفتم أن يعذبوكم بالحملة والقتل.

والجملة قيد لقوله « فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ » ، جُناحٌ وتفيد أن بدء تشريع القصر في الصلاة إنما كان عند خوف الفتنة ، ولا ينافي ذلك أن يعم التشريع ثانيا جميع صور السفر الشرعي وإن لم يجامع الخوف فإنما الكتاب بين قسما منه ، والسنة بينت شموله لجميع الصور كما سيأتي في الروايات.

قوله تعالى : « وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ـ إلى قوله ـ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ »

٦١

الآية ، تذكر كيفية صلاة الخوف ، وتوجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بفرضه إماما في صلاة الخوف ، وهذا من قبيل البيان بإيراد المثال ليكون أوضح في عين أنه أوجز وأجمل.

فالمراد بقوله « فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ » هو الصلاة جماعة ، والمراد بقوله « فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ » قيامهم في الصلاة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو الايتمام ، وهم المأمورون بأخذ الأسلحة ، والمراد بقوله « فَإِذا سَجَدُوا » (إلخ) إذا سجدوا وأتموا الصلاة ليكون هؤلاء بعد إتمام سجدتهم من وراء القوم ، وكذا المراد بقوله « وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ » أن تأخذ الطائفة الثانية المصلية مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حذرهم وأسلحتهم.

والمعنى ـ والله أعلم ـ : وإذا كنت أنت يا رسول الله فيهم والحال حال الخوف فأقمت لهم الصلاة أي صليتهم جماعة فأممتهم فيها ، فلا يدخلوا في الصلاة جميعا بل لتقم طائفة منهم معك بالاقتداء بك وليأخذوا معهم أسلحتهم ، ومن المعلوم أن الطائفة الأخرى يحرسونهم وأمتعتهم فإذا سجد المصلون معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا وراءكم يحرسونكم والأمتعة ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ، وليأخذ هؤلاء المصلون أيضا كالطائفة الأولى المصلية حذرهم وأسلحتهم.

وتوصيف الطائفة بالأخرى ، وإرجاع ضمير الجمع المذكر إليها رعاية تارة لجانب اللفظ وأخرى لجانب المعنى ، كما قيل. وفي قوله تعالى « وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ » نوع من الاستعارة لطيف ، وهو جعل الحذر آلة للدفاع نظير السلاح حيث نسب إليه الأخذ الذي نسب إلى الأسلحة ، كما قيل.

قوله تعالى : « وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ ـ إلى قوله ـ واحِدَةً » في مقام التعليل للحكم المشرع ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ » إلى آخر الآية. تخفيف آخر وهو أنهم إن كانوا يتأذون من مطر ينزل عليهم أو كان بعضهم مرضى فلا مانع من أن يضعوا أسلحتهم لكن يجب عليهم مع ذلك أن يأخذوا حذرهم ، ولا يغفلوا عن الذين كفروا فهم مهتمون بهم.

قوله تعالى : « فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ » والقيام والقعود جمعان أو مصدران ، وهما حالان وكذا قوله « عَلى جُنُوبِكُمْ » وهو كناية

٦٢

عن الذكر المستمر المستوعب لجميع الأحوال.

قوله تعالى : « فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » (إلخ) المراد بالاطمينان الاستقرار ، وحيث قوبل به قوله « وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ » ، على ما يؤيده السياق كان الظاهر أن المراد به الرجوع إلى الأوطان ، وعلى هذا فالمراد بإقامة الصلاة إتمامها فإن التعبير عن صلاة الخوف بالقصر من الصلاة يلوح إلى ذلك.

قوله تعالى : « إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً » الكتابة كناية عن الفرض والإيجاب كقوله تعالى « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ » : ( البقرة : ١٨٣ ) والموقوت من وقت كذا أي جعلت له وقتا فظاهر اللفظ أن الصلاة فريضة موقتة منجمة تؤدي في أوقاتها ونجومها.

والظاهر أن الوقت في الصلاة كناية عن الثبات وعدم التغير بإطلاق الملزوم على لازمه فالمراد بكونها كتابا موقوتا أنها مفروضة ثابتة غير متغيرة أصلا فالصلاة لا تسقط بحال ، وذلك أن إبقاء لفظ الموقوت على بادئ ظهوره لا يلائم ما سبقه من المضمون إذ لا حاجة تمس إلى التعرض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معينة مع أن قوله « إِنَّ الصَّلاةَ » ، في مقام التعليل لقوله « فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » فالظاهر أن المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال ، ولا تتغير ولا تتبدل إلى شيء آخر كالصوم إلى الفدية مثلا.

قوله تعالى : « وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ » ، الوهن الضعف ، والابتغاء الطلب ، والألم مقابل اللذة ، وقوله « وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ » حال من ضمير الجمع الغائب ، والمعنى : أن حال الفريقين في أن كلا منهما يألم واحد ، فلستم أسوأ حالا من أعدائكم ، بل أنتم أرفه منهم وأسعد حيث إن لكم رجاء الفتح والظفر والمغفرة من ربكم الذي هو وليكم ، وأما أعداؤكم فلا مولى لهم ولا رجاء لهم من جانب يطيب نفوسهم ، وينشطهم في عملهم. ويسوقهم إلى مبتغاهم ، وكان الله عليما بالمصالح ، حكيما متقنا في أمره ونهيه.

٦٣

( بحث روائي )

في تفسير القمي : نزلت ـ يعني آية صلاة الخوف ، لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الحديبية يريد مكة ، فلما وقع الخبر إلى قريش ، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس ، ليستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان يعارض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الجبال ، فلما كان في بعض الطريق ، وحضرت صلاة الظهر أذن بلال ، وصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس ، فقال خالد بن الوليد : لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم ، فإنهم لا يقطعون صلاتهم ، ولكن يجيء لهم الآن صلاة أخرى ـ هي أحب إليهم من ضياء أبصارهم ، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم ـ فنزل جبرائيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصلاة الخوف في قوله « وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ».

وفي المجمع : في قوله « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ » (الآية) أنها نزلت والنبي بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا فصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهم المشركون بأن يغيروا عليهم ، فقال بعضهم : إن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه ، يعنون صلاة العصر ، فأنزل الله عليه هذه الآية فصلى بهم العصر صلاة الخوف ، وكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد ( القصة).

وفيه : ذكر أبو حمزة ـ يعني الثمالي ـ في تفسيره : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غزا محاربا ببني أنمار فهزمهم الله ، وأحرزوا الذراري والمال ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون ـ ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم ـ وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليقضي حاجته ، وقد وضع سلاحه فجعل بينه وبين أصحابه الوادي ، فإلى أن يفرغ من حاجته ، وقد درأ الوادي ، والسماء ترش ـ فحال الوادي بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أصحابه ـ وجلس في ظل شجرة فبصر به الغورث بن الحارث المحاربي ـ فقال له أصحابه : يا غورث هذا محمد قد انقلع من أصحابه. فقال : قتلني الله إن لم أقتله ، وانحدر من الجبل ومعه السيف ، ولم يشعر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا وهو قائم على رأسه ـ ومعه السيف قد سله من غمده ، وقال : يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله. فانكب عدو الله لوجهه ـ فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ سيفه ، وقال : يا غورث من يمنعك مني الآن؟ قال.

لا أحد. قال : أتشهد أن لا إله إلا الله ، وأني عبد الله ورسوله؟ قال : لا ، ولكني أعهد أن لا أقاتلك أبدا ، ولا أعين عليك عدوا ، فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيفه ، فقال

٦٤

له غورث : والله لأنت خير مني. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله إني أحق بذلك.

وخرج غورث إلى أصحابه فقالوا : يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف ـ فما منعك منه؟ قال : الله ، أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلجني بين كتفي؟ فخررت لوجهي ، وخر سيفي ، وسبقني إليه محمد وأخذه ، ولم يلبث الوادي أن سكن ـ فقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أصحابه فأخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم « إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ » الآية كلها.

وفي الفقيه ، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه في غزاة ذات الرقاع ، ففرق أصحابه فرقتين ، فأقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه ، فكبر وكبروا ، فقرأ وأنصتوا ، فركع وركعوا ، فسجد وسجدوا ، ثم استمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما ـ فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض ، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو.

وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكبر وكبروا ، وقرأ فأنصتوا ، وركع فركعوا ، وسجد وسجدوا ، ثم جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتشهد ثم سلم عليهم ـ فقاموا فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض ، وقد قال تعالى لنبيه « وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ـ إلى قوله ـ « كِتاباً مَوْقُوتاً » ـ فهذه صلاة الخوف التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال : من صلى المغرب في خوف بالقوم ـ صلى بالطائفة الأولى ركعة ، وبالطائفة الثانية ركعتين ( الحديث ).

وفي التهذيب ، بإسناده عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعا؟ قال : نعم ، وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف وفي الفقيه ، بإسناده عن زرارة ومحمد بن مسلم. أنهما قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في صلاة السفر؟ كيف هي وكم هي؟ فقال : إن الله عز وجل يقول : « وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ـ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ » ـ فصار التقصير في السفر

٦٥

واجبا كوجوب التام في الحضر. قالا : قلنا : إنما قال الله عز وجل « فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ » ولم يقل : افعلوا ، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه‌السلام : أوليس قد قال الله « إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما » ـ ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض؟ لأن الله عز وجل ذكره في كتابه ، وصنعه نبيه ، وكذلك التقصير في السفر شيء ـ صنعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكره الله تعالى في كتابه.

قالا : فقلنا له : فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال : إن كان قد قرئت عليه آية التقصير ـ وفسرت له فصلى أربعا أعاد ، وإن لم تكن قرئت عليه ولم يكن يعلمها فلا إعادة عليه.

والصلوات كلها في السفر الفريضة ركعتان ـ كل صلاة إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير ـ تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر والحضر ثلاث ركعات ( الحديث ).

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود وابن خزيمة والطحاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن حبان عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب ، قلت : « فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا » وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك ـ فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.

وفيه ، أخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي في سننه عن أمية بن خالد بن أسد: أنه سأل ابن عمر : أرأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنا لا نجدها في كتاب الله ، إنما نجد ذكر صلاة الخوف. فقال ابن عمر : يا ابن أخي إن الله أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا نعلم شيئا ، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل ـ وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه : أخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين مكة والمدينة ـ ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين.

وفيه : أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

٦٦

عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: صليت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر والعصر بمنى ـ أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين.

وفي الكافي ، بإسناده عن داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قوله تعالى ـ « إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً »؟ قال : كتابا ثابتا ، وليس إن عجلت قليلا أو أخرت قليلا ـ بالذي يضرك ما لم تضع تلك الإضاعة ـ فإن الله عز وجل يقول. « أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ».

أقول : إشارة إلى أن الفرائض موسعة من جهة الوقت كما يدل عليه روايات أخر.

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام : قال في صلاة المغرب في السفر : لا تترك إن تأخرت ساعة ، ثم تصليها إن أحببت أن تصلي العشاء الآخرة ، وإن شئت مشيت ساعة إلى أن يغيب الشفق ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى صلاة الهاجرة والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء الآخرة جميعا ، وكان يؤخر ويقدم أن الله تعالى قال : « إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً » إنما عنى وجوبها على المؤمنين ، لم يعن غيره ، إنه لو كان كما يقولون لم يصل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا ، وكان أعلم وأخبر وكان كما يقولون ، ولو كان خيرا لأمر به محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد فات الناس مع أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم صفين ـ صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ، وأمرهم علي أمير المؤمنين عليه‌السلام فكبروا وهللوا وسبحوا رجالا وركبانا لقول الله « فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً » فأمر علي عليه‌السلام فصنعوا ذلك.

أقول : والروايات كما ترى توافق ما قدمناه في البيان السابق والروايات في المعاني السابقة وخاصة من طرق أئمة أهل البيت عليه‌السلام كثيرة جدا ، وإنما أوردنا أنموذجا مما ورد منها.

واعلم أن هناك من طرق أهل السنة روايات أخرى تعارض ما تقدم ، وهي مع ذلك تتدافع في أنفسها ، والنظر فيها وفي سائر الروايات الحاكية لكيفية صلاة الخوف خاصة وصلاة القصر في السفر عامة مما هو راجع إلى الفقه.

وفي تفسير القمي ، في قوله « وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ » (الآية) إنه معطوف على قوله

٦٧

في سورة آل عمران « إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ». وقد ذكرنا هناك سبب نزول الآية

* * *

( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ـ ١٠٥. وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ـ ١٠٦. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً ـ ١٠٧. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ـ ١٠٨. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ـ ١٠٩. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً ـ ١١٠. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ـ ١١١. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ـ ١١٢. وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ـ ١١٣. لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ـ ١١٤. وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ

٦٨

نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ـ ١١٥. إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ـ ١١٦. إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً ـ ١١٧. لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ـ ١١٨. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً ـ ١١٩. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً ـ ١٢٠. أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ـ ١٢١. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً ـ ١٢٢. لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ـ ١٢٣. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ـ ١٢٤. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ـ ١٢٥. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً ـ ١٢٦. )

( بيان )

الذي يفيده التدبر في الآيات أنها ذات سياق واحد تتعرض للتوصية بالعدل في

٦٩

القضاء ، والنهي عن أن يميل القاضي في قضائه ، والحاكم في حكمه إلى المبطلين ، ويجور على المحقين كائنين من كانوا.

وذلك بالإشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الآيات ، ثم البحث فيما يتعلق بذلك من الحقائق الدينية والأمر بلزومها ورعايتها ، وتنبيه المؤمنين أن الدين إنما هو حقيقة لا اسم ، وإنما ينفع التلبس به دون التسمي.

والظاهر أن هذه القصة هي التي يشير إليها قوله تعالى « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً » حيث يدل على أنه كان هناك شيء من المعاصي التي تقبل الرمي كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار ونحوها ، وأنه كان من المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حكمه والله عاصمه.

والظاهر أن هذه القصة أيضا هي التي تشير إليها الآيات الأول كما في قوله تعالى « وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً » (الآية) وقوله « يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ » (الآية) وقوله « ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ » (إلخ) فإن الخيانة وإن كان ظاهرها ما يكون في الودائع والأمانات لكن سياق قوله « إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ » كما سيجيء بيانه يعطي أن المراد بها ما يتحقق في سرقة ونحوها بعناية أن المؤمنين كنفس واحدة ، وما لبعضهم من المال مسئول عنه البعض الآخر من حيث رعاية احترامه ، والاهتمام بحفظه وحمايته ، فتعدي بعضهم إلى مال البعض خيانة منهم لأنفسهم.

فالتدبر يقرب أن القصة كأنها سرقة وقعت من بعضهم ثم رفع الأمر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرمى بها السارق غيره ممن هو بريء منها ، ثم ألح قوم السارق عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقضي لهم ، وبالغوا في أن يغيروه صلى‌الله‌عليه‌وآله على المتهم البريء فأنزلت الآيات وبرأه الله مما قالوا.

فالآيات أشد انطباقا على ما روي في سبب النزول من قصة سرقة أبي طعمة بن الأبيرق ، وإن كانت أسباب النزول ـ كما سمعت مرارا ـ في أغلب ما رويت من قبيل تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الآيات القرآنية.

ويستفاد من الآيات حجية قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعصمته وحقائق أخر سيأتي بيانها

٧٠

إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : « إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ » ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم ومنازعاتهم مما يرجع إلى الأمور القضائية ورفع الاختلافات بالحكم ، وقد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لإنزال الكتاب فينطبق مضمون الآية على ما يتضمنه قوله تعالى « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ » : (الآية) ( البقرة : ٢١٣ ) وقد مر تفصيل القول فيه.

فهذه الآية ( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) (إلخ) في خصوص موردها نظيرة تلك الآية ( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) ، في عمومها ، وتزيد عليها في أنها تدل على جعل حق الحكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والحجية لرأيه ونظره فإن الحكم وهو القطع في القضاء وفصل الخصومة لا ينفك عن إعمال نظر من القاضي الحاكم وإظهار عقيدة منه مضافا إلى ما عنده من العلم بالأحكام العامة والقوانين الكلية في موارد الخصومة فإن العلم بكليات الأحكام وحقوق الناس أمر ، والقطع والحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض أمر آخر.

فالمراد بالإراءة في قوله « لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ » إيجاد الرأي وتعريف الحكم لا تعليم الأحكام والشرائع كما احتمله بعضهم.

ومضمون الآية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب وعلمك أحكامه وشرائعه وحكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي وعرفك من الحكم فتحكم بين الناس ، وترفع بذلك اختلافاتهم.

قوله تعالى : « وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً » عطف على ما تقدمه من الجملة الخبرية لكونها في معنى الإنشاء كأنه قيل : فاحكم بينهم ولا تكن للخائنين خصيما.

والخصيم هو الذي يدافع عن الدعوى وما في حكمها ، وفيه نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أن يكون خصيما للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين ويبطل حقوق المحقين من أهل الدعوى.

وربما أمكن أن يستفاد من عطف قوله « وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ » ، على ما تقدمه

٧١

وهو أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرا مطلقا بالحكم أن المراد بالخيانة مطلق التعدي على حقوق الغير ممن لا ينبغي منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع وإن كان ربما عطف الخاص على العام لعناية ما بشأنه لكن المورد كالخالي عن العناية ، وسيجيء لهذا الكلام تتمة.

قوله تعالى : « وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً » الظاهر أن الاستغفار هاهنا هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الإنسان من إمكان هضم الحقوق والميل إلى الهوى ومغفرة ذلك ، وقد مر مرارا أن العفو والمغفرة يستعملان في كلامه تعالى في شئون مختلفة يجمعها جامع الذنب ، وهو التباعد من الحق بوجه. فالمعنى ـ والله أعلم ـ : ولا تكن للخائنين خصيما ولا تمل إليهم ، واطلب من الله سبحانه أن يوفقك لذلك ويستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم ويتسلط عليك هوى النفس.

والدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الآيات « الكريمة « وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ » فإن الآية تنص على أنهم لا يضرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه إلى إيثار الباطل وإظهاره على الحق فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمن إلهي من الضرر ، والله يعصمه فهو لا يجور في حكمه ولا يميل إلى الجور ، ولا يتبع الهوى ، ومن الجور والميل إلى الهوى المذموم أن يفرق في حكمه بين قوي وضعيف ، أو صديق وعدو ، أو مؤمن وكافر ذمي ، أو قريب وبعيد ، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذي وبال وتبعة منه ، ولا لإشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس ، ولا ريب في حاجته في ذلك إلى ربه وعدم استغنائه عنه وإن كان على عصمة ، فإن لله سبحانه أن يفعل ما يشاء.

وهذه العصمة مدار عملها ما يعد طاعة ومعصية ، وما يحمد أو يذم عليه من الأعمال لا ما هو الواقع الخارجي ، وبعبارة أخرى الآيات تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمن من اتباع الهوى ، والميل إلى الباطل ، وأما إن الذي يحكم ويقضي به بما شرعه من القواعد وقوانين القضاء الظاهرية كقوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ونحو ذلك يصادف دائما ما هو الحق في الواقع فينتج دائما غلبة المحق ، ومغلوبية المبطل في دعواه ، فالآيات لا تدل على ذلك أصلا ، ولا أن القوانين الظاهرية في استطاعتها أن تهدي إلى ذلك قطعا فإنها أمارات مميزة بين الحق والباطل غالبا لا دائما ، ولا معنى لاستلزام

٧٢

الغالب الدائم وهو ظاهر.

ومما تقدم يظهر ما في كلام بعض المفسرين حيث ذكر في قوله تعالى « وَاسْتَغْفِرِ اللهَ ، إنه أمر بالاستغفار عما هم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الدفاع والذب عن هذا الخائن المذكور في الآية ، وقد سأله قومه أن يدفع عنه ويكون خصيما له على يهودي.

وذلك أن هذا القدر أيضا تأثير منهم بأثر مذموم ، وقد نفى الله سبحانه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كل ضرر.

قوله تعالى « وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ » ، قيل : إن نسبة الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعا إليها ، أو يعد كل معصية خيانة للنفس كما عد ظلما لها ، وقد قال تعالى. « عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ » : ( البقرة : ١٨٧ ).

ويمكن أن يستفاد من الآية بمعونة ما يدل عليه القرآن من أن المؤمنين كنفس واحدة ، وأن مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه وصونه عن الضيعة والتلف ، كون تعدي بعضهم على بعض بسرقة ونحوها اختيانا لأنفسهم.

وفي قوله تعالى « إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً » دلالة على استمرار هؤلاء الخائنين في خيانتهم ، ويؤكده قوله « أَثِيماً » فإن الأثيم آكد في المعنى من الإثم وهو صفة مشبهة تدل على الثبوت. على أن قوله « يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ » لا تخلو عن دلالة على الاستمرار ، وكذا قوله « لِلْخائِنِينَ » حيث عبر بالوصف ولم يعبر بمثل قولنا : للذين خانوا ، كما عبر بذلك في قوله « فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ » : ( الأنفال : ٧١ ).

فمن هذه القرائن وأمثالها يظهر أن معنى الآية ـ بالنظر إلى مورد النزول ـ : ولا تكن خصيما لهؤلاء ، ولا تجادل عنهم فإنهم مصرون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون على الإثم ، والله لا يحب من كان خوانا أثيما. وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول من نزول الآيات في أبي طعمة بن الأبيرق. كما سيجيء.

ومعنى الآية ـ مع قطع النظر عن المورد ـ : ولا تدافع في قضائك عن المصرين على الخيانة المستمرين عليها ، فإن الله لا يحب الخوان الأثيم ، وكما أنه تعالى لا يحب كثير الخيانة لا يحب قليلها ، ولو أمكن أن يحب قليلها أمكن أن يحب كثيرها وإذا كان كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها وأما

٧٣

من خان في أمر ثم نازع في أمر آخر وهو محق في نزاعه ، فالدفاع عنه دفاع غير محظور ولا ممنوع منه ، ولا ينهى عنه قوله « وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً » (الآية).

قوله تعالى : « يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ » ، وهذا أيضا من الشواهد على ما قدمناه من أن الآيات ( ١٠٥ ١٢٦ ) جميعا ذات سياق واحد ، نازلة في قصة واحدة ، وهي التي يشير إليها قوله « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً » (الآية) ، وذلك أن الاستخفاء إنما يناسب الأعمال التي يمكن أن يرمى بها الغير كالسرقة وأمثال ذلك فيتأيد به أن الذي تشير إليه هذه الآية وما تقدمها من الآيات هو الذي يشير إليه قوله « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ » (الآية).

والاستخفاء من الله أمر غير مقدور إذ لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء فطرفه المقابل له أعني عدم الاستخفاء أيضا أمر اضطراري غير مقدور ، وإذا كان غير مقدور لم يتعلق به لوم ولا تعيير كما هو ظاهر الآية. لكن الظاهر أن الاستخفاء كناية عن الاستحياء ولذلك قيد قوله « وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ » ( أولا ) بقوله « وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ » فدل على أنهم كانوا يدبرون الحيلة ليلا للتبري من هذه الخيانة المذمومة ، ويبيتون في ذلك قولا لا يرضى به الله سبحانه ثم قيده ( ثانيا ) بقوله « وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً » ودل على إحاطته تعالى بهم في جميع الأحوال ومنها حال الجرم الذي أجرموه ، والتقييد بهذين القيدين أعني قوله « وَهُوَ مَعَهُمْ » ، وقوله « وَكانَ اللهُ » ، تقييد بالعام بعد الخاص ، وهو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله بعلة خاصة ثم بأخرى عامة.

قوله تعالى : « ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » (الآية) بيان لعدم الجدوى في الجدال عنهم ، وأنهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام والمراد أن الجدال عنهم لو نفعهم فإنما ينفعهم في الحياة الدنيا ، ولا قدر لها عند الله ، وأما الحياة الأخروية التي لها عظيم القدر عند الله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين ولا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفل تدبير أمورهم وإصلاح شئونهم.

قوله تعالى. « وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ » (الآية) فيه ترغيب وحث لأولئك الخائنين أن يرجعوا إلى ربهم بالاستغفار ، والظاهر أن الترديد بين السوء وظلم النفس

٧٤

والتدرج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدي على الغير ، وبالظلم التعدي على النفس ، أو أن السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة ، والله أعلم.

وهذه الآية والآيتان بعدها جميعا كلام مسوق لغرض واحد ، وهو بيان أمر الإثم الذي يكسبه الإنسان بعمله ، يتكفل كل واحدة من الآيات الثلاث بيان جهة من جهاته ، فالآية الأولى تبين أن المعصية التي يقترفها الإنسان فيتأثر بتبعتها نفسه وتكتب في كتاب أعماله ، للعبد أن يتوب إلى الله منها ويستغفره فلو فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما.

والآية الثانية تذكر الإنسان أن الإثم الذي يكسبه إنما يكسبه على نفسه وليس بالذي يمكن أن يتخطاه ويلحق غيره برمي أو افتراء ونحو ذلك.

والآية الثالثة توضح أن الخطيئة أو الإثم الذي يكسبه الإنسان لو رمى به بريئا غيره كان الرمي به إثما آخر وراء أصل الخطيئة أو الإثم.

قوله تعالى : « وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً » قد تقدم أن الآية مرتبطة مضمونا بالآية التالية المتعرضة للرمي بالخطيئة والإثم فهذه كالمقدمة لتلك ، وعلى هذا فقوله « فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ » مسوق لقصر التعيين ، وفي الآية عظة لمن يكسب الإثم ثم يرمي به بريئا غيره. والمعنى ـ والله أعلم ـ : أنه يجب على من يكسب إثما أن يتذكر أن ما يكسبه من الإثم فإنما يكسبه على نفسه لا على غيره ، وأنه هو الذي فعله لا غيره وإن رماه به أو تعهد له هو أن يحمل إثمه وكان الله عليما يعلم أنه فعل هذا الكاسب ، وأنه الذي فعله لا غيره المرمي به ، حكيما لا يؤاخذ بالإثم إلا آثمه ، وبالوزر غير وازرتها كما قال تعالى : « لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » ( البقرة : ٢٨٦ ) ، وقال : « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » ( الأنعام : ١٦٤ ) وقال : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ » ( العنكبوت : ١٢ ).

قوله تعالى : « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً » ، قال الراغب في المفردات : إن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال : أخطأ

٧٥

وإن وقع منه كما أراده يقال أصاب ، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل : إنه أخطأ. ولهذا يقال : أصاب الخطأ ، وأخطأ الصواب ، وأصاب الصواب ، وأخطأ الخطأ. وهذه اللفظة مشتركة كما ترى ، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها.

قال : والخطيئة والسيئة تتقاربان لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولد ذلك الفعل منه كمن يرمي صيدا فأصاب إنسانا ، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره ، والسبب سببان : سبب محظور فعله كشرب المسكر وما يتولد عنه من الخطإ غير متجاف عنه ، وسبب غير محظور كرمي الصيد ، قال تعالى : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ » وقال تعالى : « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً » فالخطيئة هاهنا هي التي لا تكون عن قصد إلى فعلها ( انتهى ).

وأظن أن الخطيئة من الأوصاف التي استغني عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال كالمصيبة والرزية والسليقة ونحوها ، ووزن فعيل يدل على اختزان الحدث واستقراره ، فالخطيئة هي العمل الذي اختزن واستقر فيه الخطأ والخطأ ، الفعل الواقع الذي لا يقصده الإنسان كقتل الخطإ ، هذا في الأصل ، ثم وسع إلى ما لا ينبغي للإنسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطرية ، فكل معصية وأثر معصية من مصاديق الخطإ على هذا التوسع ، والخطيئة هي العمل أو أثر العمل الذي لم يقصده الإنسان ( ولا يعد حينئذ معصية ) أو لم يكن ينبغي أن يقصده ( ويعد حينئذ معصية أو وبال معصية ).

لكن الله سبحانه لما نسبها في قوله « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً » إلى الكسب كان المراد بها الخطيئة التي هي المعصية ، فالمراد بالخطيئة في الآية هي التي تكون عن قصد إلى فعلها وإن كان من شأنها أن لا يقصد إليها.

وقد مر في قوله تعالى « قُلْ فِيهِما إِثْمٌ » : ( البقرة : ٢١٩ ) أن الإثم هو العمل الذي يوجب بوباله حرمان الإنسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر والقمار والسرقة مما يصد الإنسان عن حيازة الخيرات الحيوية ، ويوجب انحطاطا اجتماعيا يسقط الإنسان

٧٦

عن وزنه الاجتماعي ويسلب عنه الاعتماد والثقة العامة.

وعلى هذا فاجتماع الخطيئة والإثم على نحو الترديد ونسبتهما جميعا إلى الكسب في قوله « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً » (الآية) يوجب اختصاص كل منهما بما يختص به من المعنى ، والمعنى ـ والله أعلم ـ : أن من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالا كترك بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمر وبالها كقتل النفس من غير حق والسرقة ثم يرم بها بريئا بنسبتها إليه فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا.

وفي تسمية نسبة العمل السيئ إلى الغير رميا ـ والرمي يستعمل في مورد السهم ـ وكذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كان المفتري يفتك بالمتهم البريء برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملا يشغله عن كل خير مدى حياته من غير أن يفارقه.

ومن ما تقدم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الآيات الكريمة تارة بالإثم وأخرى بالخطيئة والسوء والظلم والخيانة والضلال ، فكل واحد من هذه الألفاظ هو المناسب بمعناه لمحله الذي حل فيه.

قوله تعالى : « وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ » ( إلى آخر الآية ) السياق يدل على أن المراد بهمهم بإضلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو همهم أن يرضوه بالدفاع عن الذين سماهم الله تعالى في صدر الآيات بالخائنين والجدال عنهم وعلى هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضا هم الذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله « ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » (الآية) وينطبق على قوم أبي طعمة على ما سيجيء.

وأما قوله « وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ » فالمراد به بقرينة قوله بعده « وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ » ، إن إضلال هؤلاء لا يتعدى أنفسهم ولا يتجاوزهم إليك ، فهم الضالون بما هموا به لأنه معصية وكل معصية ضلال.

ولهذا الكلام معنى آخر تقدمت الإشارة إليه في الكلام على قوله « وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ » : ( آل عمران : ٦٩ ) في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، لكنه لا يناسب هذا المقام.

٧٧

وأما قوله « وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ » ، ففيه نفي إضرارهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله « وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ » ، على أن يكون جملة حالية عن الضمير في قوله « يَضُرُّونَكَ » وإن كان الأغلب مقارنة الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة ، وعلى هذا فالكلام مسوق لنفي إضرار الناس مطلقا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في علم أو عمل.

قوله تعالى : « وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » ، ظاهر الكلام كما أشرنا إليه أنه في مقام التعليل لقوله « وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ » أو لمجموع قوله « وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ » وكيف كان فهذا الإنزال والتعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلاله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو الملاك في عصمته.

( كلام في معنى العصمة )

ظاهر الآية أن الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطإ ، وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال ، كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها ، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير.

والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل ، والتلوث بأقذار المعاصي ، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من أهل التقوى والدين ، غير أن ذلك سبب غالبي كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص ويصونه عن الخطإ صونا دائميا من غير تخلف ، سنة جارية في جميع الأسباب التي نراها ونشاهدها.

والوجه في ذلك أن القوى الشعورية المختلفة في الإنسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الآخر أو ضعف التفاته إليه كما أن صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية ، ويجري على مقتضى تقواه ، غير أن اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى

٧٨

ويختار سفساف الشره ، وعلى هذا السبيل سائر الأسباب الشعورية في الإنسان وإلا فالإنسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الأسباب ما دام السبب قائما على ساق ، ولا مانع يمنع من تأثيره ، فجميع هذه التخلفات تستند إلى مغالبة التقوى والأسباب ، وتغلب بعضها على بعض.

ومن هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة ، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك لتسرب إليها التخلف ، وخبطت في أثرها أحيانا ، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلم.

وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خص به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله « وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله « قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ » : ( البقرة : ٩٧ ) وقوله « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » : ( الشعراء : ١٩٥ ) أن الإنزال المذكور من سنخ العلم ، ويظهر من جهة أخرى أن ذلك من قبيل الوحي والتكليم كما يظهر من قوله « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » : الآية ( الشورى : ١٣ ) وقوله « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ » : ( النساء : ١٦٣ ) وقوله « إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ » : ( الأنعام : ٥٠ ) ، وقوله « إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ » : ( الأعراف : ٢٠٣ ).

ويستفاد من الآيات على اختلافها أن المراد بالإنزال هو الوحي وحي الكتاب والحكمة وهو نوع تعليم إلهي لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله غير أن الذي يشير إليه بقوله « وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » ليس هو الذي علمه بوحي الكتاب والحكمة فقط فإن مورد الآية قضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحوادث الواقعة والدعاوي التي ترفع إليه برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء وإن كان متوقفا عليهما بل رأيه ونظره الخاص به.

ومن هنا يظهر أن المراد بالإنزال والتعليم في قوله « وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ

٧٩

وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » نوعان اثنان من العلم ، أحدهما التعليم بالوحي ونزول الروح الأمين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله و، الآخر : التعليم بنوع من الإلقاء في القلب والإلهام الخفي الإلهي من غير إنزال الملك وهذا هو الذي تؤيده الروايات الواردة في علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعلى هذا فالمراد بقوله « وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » آتاك نوعا من العلم لو لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العادية التي تعلم الإنسان ما يكتسبه من العلوم.

فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الإلهية التي نسميها قوة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في أنه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها ، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقا ، وقد ورد في الروايات أن للنبي والإمام روحا تسمى روح القدس تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة ، وهي التي يشير إليها قوله تعالى « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا » : ( الشورى : ٥٢ ) بتنزيل الآية على ظاهرها من إلقاء كلمة الروح المعلمة الهادية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونظيره قوله تعالى « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ » : ( الأنبياء : ٧٣ ) بناء على ما سيجيء من بيان معنى الآية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد روح القدس الإمام بفعل الخيرات وعبادة الله سبحانه.

وبان مما مر أيضا أن المراد بالكتاب في قوله « وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس على حد قوله تعالى « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ » : الآية ( البقرة : ٢١٣ ) وقد تقدم بيانه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

والمراد بالحكمة سائر المعارف الإلهية النازلة بالوحي ، النافعة للدنيا والآخرة ، والمراد بقوله « وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » غير المعارف الكلية العامة من الكتاب والحكمة.

وبذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسرين في تفسير الآية. فقد فسر بعضهم الكتاب بالقرآن ، والحكمة بما فيه من الأحكام ، و « ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » بالأحكام والغيب

٨٠