الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلا وتوانيا ومماطلة إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع ، ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية ، ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية ، قال تعالى : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) « الأنعام ١٥٨ » وقال تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) : « المؤمن : ٨٥ » إلى غير ذلك من الآيات.

وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلل لله ، ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.

ويمكن أن يكون قوله : ( بِجَهالَةٍ ) قيدا توضيحيا ، ويكون المعنى : ( لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ ) ولا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس وتعرض لعذاب أليم ، أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية وما يترتب عليها من المحذور ، ولازمه كون قوله : ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا ولا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله : ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) لا بقوله : ( بِجَهالَةٍ ) وعلى هذا لا يمكن الكناية بقوله : ( ثُمَّ يَتُوبُونَ ) عن التساهل والتواني فافهم ذلك ، ولعل الوجه الأول أوفق لظاهر الآية.

وقد ذكر بعضهم : أن المراد بقوله : ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر.

وهو فاسد لإفساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ ) إلخ والآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة ، ولم يذكر في

٢٤١

الآية إلا موردان هما التوبة للمسيء المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت ، والتوبة للكافر بعد الموت ، ولو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق أخر لم تذكر في الآية.

قوله تعالى : « فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً » الآيتان باسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم وتعظيم أمرهم كما يدل قوله : ( يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) إلخ.

وقد اختير لختم الكلام قوله : ( وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) دون أن يقال : وكان الله غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد وما يؤديهم إليه ضعفهم وجهالتهم ، ولحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام وإصلاح الأمور وهو تعالى لعلمه وحكمته لا يغره ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب ، ولا يستزله مكر ولا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الإجابة.

قوله تعالى : « وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ » إلخ في عدم إعادة قوله : ( عَلَى اللهِ ) مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة والعناية الإلهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم وحفظها عليهم كما تقدمت الإشارة إليه.

وتقييد قوله : ( يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) بقوله : ( حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) المفيد لاستمرار الفعل إما لأن المساهلة في المبادرة إلى التوبة وتسويفها في نفسه معصية مستمرة متكررة ، أو لأنه بمنزلة المداومة على الفعل ، أو لأن المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها.

وفي قوله : ( حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) دون أن يقال : حتى إذا جاءهم الموت دلالة على الاستهانة بالأمر والاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه ويختاروا ما يشاءونه ولا يبالون وكلما عرض لأحدهم عارض الموت قال : إني تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب ومهلكة

٢٤٢

مخالفة الأمر الإلهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الأمر.

ومن هنا يظهر معنى تقييد قوله : ( قالَ إِنِّي تُبْتُ ) بقوله : ( الْآنَ ) فإنه يفيد أن حضور الموت ومشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى : إني تائب لما شاهدت الموت الحق والجزاء الحق ، وقد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة : ( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) : « السجدة : ١٢ ».

فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لأن اليأس من الحياة الدنيا وهول المطلع هما اللذان أجبراه على أن يندم على فعله ويعزم على الرجوع إلى ربه ولات حين رجوع حيث لا حياة دنيوية ولا خيرة عملية.

قوله تعالى : « وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ » هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة وهو الإنسان يتمادى في الكفر ثم يموت وهو كافر فإن الله لا يتوب عليه فإن إيمانه وهو توبته لا ينفعه يومئذ ، وقد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت ، وأنهم لا يجابون وإن سألوا ، قال تعالى : ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) البقرة : ١٦٢ ، وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) : ـ آل عمران : ٩١ ، ونفي الناصرين نفي للشفاعة في حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب.

وتقييد الجملة بقوله : ( وَهُمْ كُفَّارٌ ) يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار ولا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية اختيارية وإن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة والرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين ، وهذا في نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع.

٢٤٣

قوله تعالى : « أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً » اسم الإشارة يدل على بعدهم من ساحة القرب والتشريف ، والاعتاد : والإعداد أو الوعد.

(كلام في التوبة)

التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الإيمان عن كفر وشرك وإن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهية كدين موسى وعيسى عليه‌السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة ، وتسريتها إلى الإيمان بل باسم أن ذلك إيمان.

حتى أنه يلوح من الأصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة واستحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب والفداء ، وقد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

هذا وقد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة وتتجر بها ، وكان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم! لكن القرآن حلل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الأخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ ) : ـ فاطر : ١٥ ، وقال : ( وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً ) : الفرقان : ٣.

فهو واقع في مهبط الشقاء ومنحط البعد ومنعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) : ـ التين : ٥ ، وقوله : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) : ـ مريم : ٧٢ ، وقوله : ( فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ) : ـ طه ١١٧.

وإذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء ومنحط البعد وانقلاعه عنه برجوعه إلى ربه ،

٢٤٤

وهو توبته إليه في أصل السعادة وهو الإيمان ، وفي كل سعادة فرعية وهي كل عمل صالح أعني التوبة والرجوع عن أصل الشقاء وهو الشرك بالله سبحانه ، وعن فروعات الشقاء وهي سيئات الأعمال بعد الشرك ، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن ألواث البعد والشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان ، والتنعم بأقسام نعم الطاعات والقربات ، وبعبارة أخرى يتوقف القرب من الله ودار كرامته على التوبة من الشرك ومن كل معصية ، قال تعالى : ( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) : ـ النور : ٣١ ، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما وغيرهما على ما سيجيء إن شاء الله.

ثم إن الإنسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا ولا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره ، وإعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والإعانة ، وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى : ( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) : ـ التوبة : ١١٨ ، وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد ، وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى : ( فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) الآية.

وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد ، وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة ، ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها وبعدها ، وربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ، وأن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله تعالى : « وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً » (١).

وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض ، ويصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى ربه ، كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) : ـ البقرة : ٣٧ ، وقوله تعالى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ

__________________

(١) سورة النساء : آية ٢٧

٢٤٥

إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ) ـ إلى قوله ـ : ( وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) : ـ البقرة : ١٢٨ ، وقوله تعالى : حكاية عن موسى عليه‌السلام : ( سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) : ـ الأعراف : ١٤٣ ، وقوله تعالى خطابا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ ) المؤمن : ٥٥ ، وقوله تعالى : ( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) : ـ التوبة : ١١٧.

وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى : ( غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ ) : ـ المؤمن : ٣ ، وقوله تعالى : ( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) : ـ الشورى : ٢٥ ، إلى غير ذلك.

فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه ، وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه ـ سواء في ذلك الشرك وما دونه ـ توبة منه تعالى لعبده وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه ـ سواء في ذلك الشرك وغيره ـ توبة منه إلى ربه.

ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك ، وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي.

وثانيا : أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره ، وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى : ( وَقابِلِ التَّوْبِ ) « غافر : ٣ » وقوله : ( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) : « النور : ٣١ » وقوله : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ) الآية : « البقرة : ٢٢٢ » وقوله : « فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ » الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة ، والنادبة إلى التوبة ، الداعية إلى الاستغفار والإنابة وغيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام ، والله سبحانه لا يخلف الميعاد.

ومن هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد ويرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ )

٢٤٦

: « آل عمران : ٩٠ » ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ) : « النساء : ١٣٧ ».

ومن عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون وتوبته ( ، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) : « يونس : ٩١ ».

قال ما محصله : أن الآية لا تدل على رد توبته ، وليس في القرآن أيضا ما يدل على هلاكه الأبدي ، وأنه من المستبعد عند من يتأمل سعة رحمة الله وسبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته وكرامته متذللا مستكينا بالخيبة واليأس ، والواحد منا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانية الفطرية من الكرم والجود والرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وغياث المستغيثين.

وهو مدفوع بقوله تعالى : « وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ » الآية ، وقد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء.

ولو كان كل ندم توبة وكل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة : ( وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) : « سبأ : ٣٣ » إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا ، والرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.

وإياك أن تتوهم أن الذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق ، وذلك أن البحث في باب السعادة والشقاء والصلاح والطلاح الإنسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الإنسان العادي في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم والتربية في الإنسان وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح والطلاح الاجتماعيين قابلا للأمرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح ، ويتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الأسباب على خروجه من

٢٤٧

الحال الذي فيه ، وذلك يحاذي التوبة الأولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه وانصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال وقيد التثبط والإهمال وهو توبة بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد ووصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال ونور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح والطلاح معا ، وهذا يحاذي قبول التوبة والمغفرة فيما نحن فيه وكذلك يجري في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام والآثار جريا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وثالثا : أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة وغيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانية من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح الإنساني الذي فيه سعادة دنياه وآخرته وبعبارة أخرى التوبة إنما تنفع ـ إذا نفعت ـ في إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى والأخرى وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة ، وأما الأحكام الشرعية والقوانين الدينية فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.

نعم ربما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل ، وهذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى : ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) : « النساء : ١٦ » ، وقال تعالى : ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) : « المائدة : ٣٤ » إلى غير ذلك.

ورابعا : أن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى : ( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) : « النور : ٣١ » ، ومن فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد والركود فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف والرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره وينجذب إلى ما ينفعه ، ولو لا ذلك لهلك ، قال تعالى : ( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ

٢٤٨

لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) : « الزمر : ٥٤ » ، ولا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة ، وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل أمنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله وربما انصرف بوجهه عن مسيره آيسا من النجاح خائبا من الفوز والفلاح ، والتوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه ، ويحيي به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى.

ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية ، وتحريصا على ترك الطاعة ، فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا ، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب ، فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب.

وجه سقوطه : أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران الذنوب : للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره ، وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب ، فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية ، ولا انقلاع في هذا الذي يأتي به ، والدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية ، ولا معنى للندامة ( أعني التوبة ) قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصودا بقصد واحد مكرا وخديعة يخدع بها رب العالمين ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

وخامسا : أن المعصية وهي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيئ في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والإيقان بمساءتها ، ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا ، والندم تأثر خاص باطني من فعل السيئ. ويتوقف على استقرار هذا ، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانيا.

وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح ، والانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الأخبار ، وتعرض له كتب الأخلاق.

٢٤٩

وسادسا : أن التوبة وهي الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار وهو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار ، وأما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه ، وقد تقدم ما يتضح به ذلك.

ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه ، وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتة لأن الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم ، وعد التعدي إلى أحدهم في شيء من ذلك ظلما وعدوانا ، وحاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم ، فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك ، وقد قال عز من قائل : ( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) : « يونس : ٤٤ ».

إلا أن الإسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه قوله عليه‌السلام : الإسلام يجب ما قبله ، وبه تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى : ( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ) : ـ الزمر : ٥٤.

ومن هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق وقد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لأن العاصي أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها ، ولا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه عز اسمه.

وسابعا : أن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى : ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) : ـ البقرة : ٢٧٥ على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، بل ظاهر قوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ) : الفرقان : ٧١ ، وخاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات

٢٥٠

حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهي إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي وعثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم قال تعالى : ( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) الآيات : ـ الحجر : ٤٢ ، وقال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصة : ( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) : الأعراف : ١٧.

فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.

(بحث روائي)

في الفقيه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر خطبة خطبها : من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه ، ثم قال : إن السنة لكثيرة ومن تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه ، ثم قال : وإن الشهر لكثير ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه ، ثم قال : وإن اليوم لكثير ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ، ثم قال : وإن الساعة لكثيرة من تاب وقد بلغت نفسه هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه تاب الله عليه.

وسئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ـ « وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ـ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ » قال : ذلك إذا عاين أمر الآخرة.

أقول : الرواية الأولى رواها في الكافي مسندا عن الصادق عليه‌السلام ، وهي مروية من طرق أهل السنة وفي معناها روايات أخر.

والرواية الثانية تفسر الآية وتفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأن المراد من حضور الموت العلم به ومشاهدة آيات الآخرة ولا توبة عندئذ ، وأما الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته ، ونظيرها بعض ما يأتي من الروايات.

وفي تفسير العياشي ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا بلغت النفس هذه

٢٥١

ـ وأهوى بيده إلى حنجرته ـ لم يكن للعالم توبة ، وكانت للجاهل توبة.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب ، قيل وما وقوع الحجاب؟ قال : تخرج النفس وهي مشركة.

وفيه ، أخرج ابن جرير عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال : وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح ـ فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه.

وفي الكافي ، عن علي الأحمسي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : والله ما ينجو من الذنوب إلا من أقر بها ، قال : وقال أبو جعفر عليه‌السلام : كفى بالندم توبة.

وفيه ، بطريقين عن ابن وهب قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله تعالى فستر عليه ـ فقلت : وكيف يستر عليه؟ قال ، ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ـ ثم يوحي الله إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض : أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه ـ وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب.

وفيه ، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له ـ فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة ـ أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان. قلت : فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة؟ فقال يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ـ فيستغفر الله منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته؟ قلت : فإن فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب ويستغفر؟ فقال : كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة ، وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئات فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) قال : لهذه الآية تفسير يدل على ذلك التفسير ـ أن الله لا يقبل من عبد عملا إلا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير ، وما اشترط فيه على المؤمنين ـ وقال : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) ـ يعني كل ذنب عمله العبد ـ وإن كان به عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه ، وقد قال في ذلك

٢٥٢

يحكي قول يوسف لإخوته « هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ » فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.

أقول : والرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن والظاهر أن المراد بالصدر أن العمل إنما يقبل إذا وفى به العبد ولم ينقضه فالتوبة إنما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية على الذنب ولو حينا. وقوله : وقال : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ ) « إلخ » كلام مستأنف أراد به بيان أن قوله : « بِجَهالَةٍ » قيد توضيحي ، وأن في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدم ، وقد روي هذا الذيل في المجمع أيضا عنه (ع)

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ـ ١٩. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ـ ٢٠. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ـ ٢١. وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً ـ ٢٢. )

(بيان)

رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر مما يتعلق بهن والآيات مع ذلك مشتملة على قوله : ( وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ

٢٥٣

فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) فإنه أصل قرآني لحياة المرأة الاجتماعية.

قوله تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ » إلى قوله : « كَرْهاً » كان أهل الجاهلية ـ على ما في التاريخ والرواية ـ يعدون نساء الموتى من التركة ـ إذا لم تكن المرأة أما للوارث ـ فيرثونهن مع التركة فكان أحد الوراث يلقي ثوبا على زوجة الميت ويرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهر بل بالوراثة وإن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوجها من غيره فانتفع بمهرها ، وإن شاء عضلها ومنعها النكاح وحبسها حتى تموت فيرثها إن كان لها مال.

والآية وإن كان ظاهرها أنها تنهى عن سنة دائرة بينهم ، وهي التي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنة السيئة على ما ذكره بعض المفسرين إلا أن قوله في ذيل الجملة : « كَرْهاً » لا يلائم ذلك سواء أخذ قيدا توضيحيا أو احترازيا.

فإنه لو كان قيدا توضيحيا أفاد أن هذه الوراثة تقع دائما على كره من النساء وليس كذلك ، وهو ظاهر ، ولو كان قيدا احترازيا أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن ، وليس كذلك.

نعم الكره أمر متحقق في العضل عن الازدواج طمعا في ميراثهن دائما أو غالبا بعد القبض عليهن بالإرث فالظاهر أن الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره وأما نكاحهن بالإرث فالمتعرض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية وأما تزويجهن من الغير والذهاب بمهرهن فينهى عنه مثل قوله تعالى : ( وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) : « النساء : ٣٢ » ويدل على الجميع قوله تعالى : ( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) : « البقرة : ٢٣٤ ».

وأما قوله بعد : ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا ) « إلخ » فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثا لما في تذييله بقوله : ( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) من الدلالة على أن المراد به الذهاب ببعض المهر الذي آتاه الزوج العاضل دون المال الذي امتلكته من غير طريق هذا المهر. وبالجملة الآية تنهى عن وراثة أموال النساء كرها منهن دون وراثة أنفسهن فإضافة الإرث إلى النساء إنما هي بتقدير الأموال أو يكون مجازا عقليا.

قوله تعالى : « وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا » إلى قوله : « مُبَيِّنَةٍ » إما معطوف على

٢٥٤

قوله : ( تَرِثُوا ) والتقدير : ولا أن تعضلوهن وإما نهي معطوف على قوله : ( لا يَحِلُّ لَكُمْ ) لكونه في معنى النهي. والعضل هو المنع والتضييق والتشديد. والفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا. والمبينة المتبينة ، وقد نقل عن سيبويه أن أبان واستبان وبين وتبين بمعنى واحد ، تتعدى ولا تتعدى يقال : أبان الشيء واستبان وبين وتبين ويقال : أبنت الشيء واستبنته وبينته وتبينته.

والآية تنهى عن التضييق عليهن بشيء من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شيء من الصداق لفك عقدة النكاح والتخلص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرم على الزوج إلا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبينة فله حينئذ أن يعضلها ويضيق عليها لتفارقه بالبذل ، والآية لا تنافي الآية الأخرى في باب البذل : ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) : « البقرة : ٢٢٩ » وإنما هو التخصيص. تخصص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة ، وأما البذل الذي في آية البقرة فإنما هو واقع على تراض منهما فلا تخصص بها هذه الآية.

قوله تعالى : « وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » إلى آخر الآية المعروف هو الأمر الذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه ويجهلوه ، وحيث قيد به الأمر بالمعاشرة كان المعنى الأمر بمعاشرتهن المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.

والمعاشرة التي يعرفها الرجال ويتعارفونها بينهم أن الواحد منهم جزء مقوم للمجتمع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنساني لغرض التعاون والتعاضد العمومي النوعي فيتوجه على كل منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتني ما ينتفع به فيعطي ما يستغني عنه ويأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة وليس إلا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئية فيؤخذ تابعا ينتفع به ولا ينتفع هو بشيء يحاذيه ، وهذا هو الاستثناء.

وقد بين الله تعالى في كتابه إن الناس جميعا ـ رجالا ونساء ـ فروع أصل واحد إنساني ، وأجزاء وأبعاض لطبيعة واحدة بشرية ، والمجتمع في تكونه محتاج

٢٥٥

إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى أولئك على حد سواء كما قال تعالى : ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) : النساء : ٢٥ ».

ولا ينافي ذلك اختصاص كل من الطائفتين بخصلة تختص به كاختصاص الرجال بالشدة والقوة نوعا ، واختصاص النساء بالرقة والعاطفة طبعا فإن الطبيعة الإنسانية في حياتها التكوينية والاجتماعية جميعا تحتاج إلى بروز الشدة وظهور القوة كما تحتاج إلى سريان المودة والرحمة ، والخصلتان جميعا مظهرا الجذب والدفع العامين في المجتمع الإنساني.

فالطائفتان متعادلتان وزنا وأثرا كما أن أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن والتأثير في هذه البنية المكونة مع اختلافهم في شئونهم الطبيعية والاجتماعية من قوة وضعف ، وعلم وجهل ، وكياسة وبلادة ، وصغر وكبر ، ورئاسة ومرءوسية ، ومخدومية وخادمية ، وشرف وخسة وغير ذلك.

فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسط الجاري على سنة الفطرة من غير انحراف ، وقد قوم الإسلام أود الاجتماع الإنساني وأقام عوجه فلا مناص من أن يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة وهو الذي نعبر عنه بالحرية الاجتماعية ، وحرية النساء كالرجال ، وحقيقتها أن الإنسان بما هو إنسان ذو فكر وإرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضره مستقلا في اختياره ثم إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار ـ ما لم يزاحم سعادة المجتمع الإنساني ـ مستقلا في ذلك من غير أن يمنع عنه أو يتبع غيره من غير اختيار.

وهذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميته عن مزايا كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء والحكومة والجهاد ووجوب نفقتهن على الرجال وغير ذلك ، وكحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الإقرار والمعاملات وعدم توجه التكاليف إليهم ونحو ذلك فجميع ذلك خصوصيات أحكام تعرض الطبقات وأشخاص المجتمع من حيث اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعا في أصل الوزن الإنساني الاجتماعي الذي ملاكه أن الجميع إنسان ذو فكر وإرادة.

ولا تختص هذه المختصات بشريعة الإسلام المقدسة بل توجد في جميع القوانين

٢٥٦

المدنية بل في جميع السنن الإنسانية حتى الهمجية قليلا أو كثيرا على اختلافها ، والكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى : ( وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) على ما تبين.

وأما قوله تعالى : « فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً » فهو من قبيل إظهار الأمر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتقاء من تيقظ غريزة التعصب في المخاطب نظير قوله تعالى : ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) : « سبأ : ٢٥ ».

فقد كان المجتمع الإنساني يومئذ ( عصر نزول القرآن ) لا يوقف النساء في موقفها الإنساني الواقعي ، ويكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدهن طفيليات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها ، وما يعدهن إنسانا ناقصا في الإنسانية كالصبيان والمجانين إلا أنهن لا يبلغن الإنسانية أبدا فيجب أن يعشن تحت الإتباع والاستيلاء دائما ، ولعل قوله تعالى : ( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ ) ، حيث نسب الكراهة إلى أنفسهن دون نكاحهن إشارة إلى ذلك.

قوله تعالى : « وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ » إلى آخر الآية ، الاستبدال استفعال بمعنى طلب البدل ، وكأنه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام أخرى بالاستبدال ، ولذلك جمع بين قوله ( ، أَرَدْتُمُ ) وبين قوله : ( اسْتِبْدالَ ) إلخ مع كون الاستبدال مشتملا على معنى الإرادة والطلب ، وعلى هذا فالمعنى : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ ) أن تقيموا زوجا مقام أخرى بالاستبدال.

والبهتان ما بهت الإنسان أي جعله متحيرا ، ويغلب استعماله في الكذب من القول وهو في الأصل مصدر ، وقد استعمل في الآية في الفعل الذي هو الأخذ من المهر ، وهو في الآية حال من الأخذ وكذا قوله : ( إِثْماً ) ، والاستفهام إنكاري.

والمعنى : إن أردتم أن تطلقوا بعض أزواجكم وتتزوجوا بأخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الذي آتيتموها شيئا وإن كان ما آتيتموها مالا كثيرا ، وما تأخذونه قليلا جدا.

٢٥٧

قوله تعالى : « وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ » إلى آخر الآية ، الاستفهام للتعجيب ، والإفضاء هو الاتصال بالمماسة ، وأصله الفضاء بمعنى السعة.

ولما كان هذا الأخذ إنما هو بالبغي والظلم ، ومورده مورد الاتصال والاتحاد أوجب ذلك صحة التعجب حيث إن الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من الإفضاء والاقتراب كشخص واحد ، ومن العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه ويؤذيها أو يؤذي بعض أجزائه بعضا.

وأما قوله : « وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً » فالظاهر أن المراد بالميثاق الغليظ هو العلقة التي أبرمها الرجل بالعقد ونحوه ، ومن لوازمها الصداق الذي يسمى عند النكاح وتستحقه المرأة من الرجل.

وربما قيل : إن المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى ، وربما قيل : إن المراد به حكم الحلية المجعول شرعا في النكاح ، ولا يخفى بعد الوجهين جميعا بالنسبة إلى لفظ الآية.

(بحث روائي)

في تفسير العياشي ، عن هاشم بن عبد الله عن السري البجلي قال: سألته عن قوله : ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) قال : فحكى كلاما ثم قال : كما يقول ـ النبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره ، وكان هذا في الجاهلية.

وفي تفسير القمي ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) ، فإنه كان في الجاهلية في أول ما أسلموا من قبائل العرب ـ إذا مات حميم الرجل وله امرأة ـ ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه ـ الذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله ، فلما مات أبو قيس بن الأسلت ـ ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه ، وهي كبيشة بنت معمر بن معبد فورث نكاحها ، ثم تركها لا يدخل بها ولا ينفق عليها ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ـ مات أبو قيس بن الأسلت فورث محصن ابنه نكاحي ـ فلا يدخل علي ، ولا ينفق علي ، ولا يخلي سبيلي فألحق بأهلي ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ارجعي

٢٥٨

إلى بيتك ـ فإن يحدث الله في شأنك شيئا أعلمتك فنزل : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ـ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً ) ، فلحقت بأهلها ، وكانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهن ـ كما ورث نكاح كبيشة غير أنه ورثهن من الأبناء ـ فأنزل الله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ).

أقول : آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى وقد وردت هذه القصة ونزول الآيات فيها في عدة من روايات أهل السنة أيضا ، غير أن الروايات أو معظمها تذكر نزول قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا ) الآية في القصة ، وقد عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك.

ومع ذلك فتحقق القصة وارتباط الآيات بوجه بها وبالعادة الجارية فيما بينهم عند النزول في الجملة لا ريب فيه ، فالمعول في ذلك ما قدمناه في البيان السابق.

وفي المجمع ، : في قوله تعالى : ( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) الآية ـ قال : الأولى حمل الآية على كل معصية ، قال : وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وفي تفسير البرهان ، عن الشيباني : الفاحشة يعني الزنا ، وذلك إذا اطلع الرجل منها على فاحشة فله أخذ الفدية ـ وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.

وفيه ، أخرج ابن جرير عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يعصينكم في معروف ـ وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.

أقول : وقد تقدم ما يتبين به معنى هذه الروايات.

وفي الكافي ، وتفسير العياشي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) قال : الميثاق الكلمة التي عقد بها النكاح الرواية.

وفي المجمع ، قال : الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد ـ من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال : وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

٢٥٩

أقول : وهذا المعنى منقول عن عدة من مفسري السلف كابن عباس وقتادة وأبي مليكة ، والآية لا تأباه بالنظر إلى أن ذلك حكم يصدق عليه أنه ميثاق مأخوذ على الرجال للنساء ، وإن كان الأظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج.

وفي الدر المنثور ، أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد الله بن مصعب قال : قال عمر: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال ، فقالت امرأة : ما ذاك لك قال : ولم؟ قالت : لأن الله يقول : ( وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) الآية ، فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ.

أقول : ورواه أيضا عن عبد الرزاق وابن المنذر عن عبد الرحمن السلمي ، وأيضا عن سعيد بن منصور وأبي يعلى بسند جيد عن مسروق ، وفيه أربعمائة درهم مكان أربعين أوقية ، وأيضا عن سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن بكر بن عبد الله المزني ، والروايات متقاربة المعنى.

وفيه ، أخرج ابن جرير عن عكرمة: في قوله : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ، قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت ـ خلف على أم عبيد بنت ضمرة كانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خلف وكان خلف على بنت أبي طلحة ـ بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ـ وكانت عند أبيه خلف ، وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ـ كانت عند أمية بن خلف فخلف عليها صفوان بن أمية ، وفي منظور بن رباب وكان خلف على مليكة ابنة خارجة ـ وكانت عند أبيه رباب بن سيار.

وفيه ، أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال : كان الرجل إذا توفي عن امرأة ـ كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء ـ إن لم تكن أمه أو ينكحها من شاء ، فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن ـ فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا ـ فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكرت ذلك له ، فقال : ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية ، ونزلت : ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ).

أقول : وقد تقدم ما يدل على ذلك من روايات الشيعة.

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب ـ والجمع بين الأختين ـ فأنزل الله : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ

٢٦٠