تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

وقوله أيضا : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ )(١) فإنّ « السجود » مشترك بين الخضوع ووضع الجبهة على الأرض ، كما أنّ الصلاة من الله الرحمة ومن غيره الاستغفار ، وقد استعملا في معنييهما.

أمّا الثاني : فبدليل إسنادها إلى تعالى والملائكة.

وأمّا الأوّل : فبدليل إسناده إلى الشجر والدوابّ وكثير من الناس. فإنّ الأوّلين لا يناسبهما إلاّ الخضوع ، كما أنّ الأخير لا يصلح له إلاّ وضع الجبهة ، لعدم اختصاص الخضوع بالكثير لاشتراك غيرهم ممّن حقّ عليهم العذاب لهم في ذلك.

والجواب عن الأوّل ، في تقريره الأوّل : باختيار الشقّ الأوّل ، والإجمال اللازم منه غير ضائر ، لأنّ المصلحة وحكمة المتكلّم قد تدعو إليه ، مع أنّ تأخير بيان المجمل إلى وقت الحاجة جائز ، خصوصا فيما ليس له ظاهر.

ومع الغضّ عن ذلك فهذا حمل للّفظ على الجميع بالاستدلال ، لا أنّه ظاهر فيه بنفسه ، مع أنّه متفرّع على أصل جواز الاستعمال في الأكثر. وقد ظهر منعه ، ومن الفضلاء من أجاب بذلك ، مضافا إلى أنّه على تقدير تسليم صحّة الاستعمال فمخالفة الاستعمال المذكور للأصل من حيث ندرة مورده على تقدير تحقّقه لا تقصر عن مخالفة الإجمال له ، إن لم يزد عليه ، فيتعارض الأصلان فيجب الوقف (٢).

وفي تقريره الثاني : بأنّ ها هنا شقّا ثالثا ، وهو الحمل على بعض المعاني لا بعينه فيلزم الإجمال ، وبطلانه ممنوع كما عرفت.

وعن الثاني : بمنع اشتراك اللفظين ولا سيّما لفظ « الصلاة » لوضوح عدم جواز تعدّد وضع اللفظ لغة باعتبار اختلاف إضافاته المتشخّصة بخصوصيّات الفاعلين ، مضافا إلى منع ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيهما ، والوضع العرفي الوارد على الوضع اللغوي أيضا غير واضح ، والحمل على المعنى اللغوي الجامع بين الجميع ممكن

__________________

(١) الأحزاب : ٥٦.

(٢) الفصول : ٥٦ ( الطبعة الحجرية ) حيث قال : والجواب أمّا عن الأوّل فبأنّه إنّما يتفرّع على تقدير صحّة الاستعمال بل كونه حقيق وقد عرفت وجه المنع فيها ... الخ.

٥٢١

كالخضوع بمعنى الانقياد لأمره تعالى في الأوّل ، فإنّ كلّ شيء متواضع له منقاد لأمره ، ولو بالذكر والتسبيح ولو بنطق ولسان لا يفهمه غيره تعالى وأوليائه ، وقد قال تعالى : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ )(١) وفي الحديث عن الصادق عليه‌السلام : « ما من طير يصاد في برّ ولا بحر ، ولا يصاد شيء من الوحش إلاّ بتضييعه التسبيح ».

وتخصيصه بكثير من الناس ، لأنّ الأكثر كفّار بإنكارهم الصانع أو النبوّات والشرائع أو غير ذلك من شؤون الكفر وصنوف الشرك ، فلا ينقادون له في أوامره ونواهيه على ما هي عليه ، فاختلاف الإضافات المخصوصة يوجب تعدّد أفراد المعنى الكلّي اللغوي لا تعدّد أوضاع اللفظ بإزاء تلك الأفراد.

نعم يبعد فرض الجامع اللغوي بين معنيي « الصلاة » بل بين معانيها الثلاث ، وهي الرحمة من الله سبحانه والاستغفار من الملائكة والدعاء من المؤمنين ، على ما ورد في النصوص المستفيضة المفسّرة للآية ، فإنّ غاية ما يمكن فرضه لها من المعنى اللغوي إنّما هو الدعاء بالمعنى الإنشائي أعني طلب النفع والخير ، وهو لا يصلح جامعا بين نفسه وفرده وهو الاستغفار ومغايره وهو الرحمة ، ضرورة أنّه ليس فردا للدعاء ، بل هي من الله تعالى بالنسبة إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عبارة عن التفضّل عليه والإحسان إليه بإظهار شرفه وإعلاء شأنه في الدنيا ، بإجلال ذكره وإبقاء دينه وشريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في امّته وتضعيف أجره ومثوبته ، وطلبها عبارة عن طلب الرحمة بهذا المعنى ، ومنه « اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد » وهو الدعاء المنسوب إلى المؤمنين « فالصلاة » بمعنى الرحمة أشبه بالمجاز ، بل هو مجاز عند التحقيق.

فالوجه في الجواب عن آية الصلاة : هو منع وقوع استعمالها بعد منع الاشتراك في أكثر من معنى ، بالتزام تقدير الفعل ليكون على حدّ قوله : « نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض » وهذا الوجه يجري في آية السجود أيضا.

__________________

(١) الإسراء : ٤٤.

٥٢٢

ثمّ بعد تسليم الاشتراك فيهما ثمّ تسليم وقوع استعمالهما في الجميع نمنع ظهوره فيه مع التجرّد ، لأنّ الإسناد بنفسه قرينة على تعيين ما يناسب المسند إليه ، فالظهور المتوهّم فيهما مستند إلى القرينة.

ثانيها : قد ورد في الحديث : « إنّ لكلّ آية من القرآن ظهرا وبطنا » وفي آخر : « ما نزل آية في القرآن إلاّ وله ظهر وبطن » وفي آخر : « للقرآن ظهر وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن ».

وفي بعض الأخبار : « أنّ له سبعة بطون » وفي بعضها : « سبعين بطنا ».

وكيف كان : فقيل إنّ ما ورد في هذه الأخبار إنّما هو من باب الاستعمال في أكثر من معنى.

وربّما يقال : إنّه قد يتمسّك به على الجواز مطلقا.

وتحقيق المقام : أنّ للقرآن وجودا خطابيّا من الخطاب بمعنى توجيه الكلام نحو الغير ، وهو الّذي صار محلّ النزاع في مسألة عموم الخطابات الشفاهيّة للمعدومين وعدمه ، ووجودا كتابيّا وهو الخطوط المؤلّفة فيما بين الدفّتين الموجودة بأيدينا اليوم ، فإن كان النظر في توهّم كونه من باب الاستعمال في أكثر إلى وجوده الخطابي فكونه بهذا الاعتبار من باب الاستعمال مسلّم ، ولكن تعلّق ذلك الاستعمال بالأكثر ممنوع ، لجواز كون المستعمل فيه المراد من الألفاظ الصادرة عند الخطاب ظاهر القرآن ، وتكون البطون الواردة في الأخبار بطونا لذلك الظاهر فتكون مرادة بإرادته بالالتزام من باب الدلالة بالإشارة ، وإن لم يساعد عليها أفهامنا ولم يعرفها إلاّ الأوحدي كأهل العصمة عليهم‌السلام من دون أن تكون بأنفسها مرادة بإرادة اخرى ممتازة عن إرادة الظاهر ، كالجزء في ضمن الكلّ حيث إنّه مراد بإرادة الكلّ لا بإرادة ممتازة ، بحيث كانت الإرادة فيما بينهما واحدة يسند إلى الكلّ أوّلا وبالذات وإلى الجزء ثانيا وبالعرض ، أو لجواز كونها مستعملة في معناها الظاهر مع دلالتها على بقيّة المعاني الّتي هي البطون التزاما من باب الإيماء والتنبيه ، بناء على أنّها لا تستلزم الإستعمال الّذي بينه وبينها عموم من وجه ، كما لا يخفى على المتأمّل.

٥٢٣

وإن كان النظر إلى وجوده الكتابي فكونه بهذا الاعتبار من باب الاستعمال ممنوع ، لأنّه من أحوال الخطاب وعوارض اللفظ الّذي هو الصوت المعتمد على مقطع الفم ، فتكون خارجا عن محلّ البحث ، وحينئذ فمن الجائز أن يراد بتأليفها الدلالة على ما فوق الواحد ممّا يصلح له وإن لم يساعد عليها أفهامنا ، كما أنّه قصد به بقاء جهة الإعجاز وبقاء التلاوة وبقاء الاستشفاء به وغير ذلك من الفوائد المرتّبة عليه. ولعلّ ما ورد في الأخبار منزّل على هذا المعنى.

وقد يقال في دفع التوهّم : أنّ المراد من جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، ومن جواز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي ، إنّما هو بحسب ظاهر اصطلاح أهل اللسان ومحاوراتهم سيّما في مفردات الكلام ، فلا ينافي ما ذكرنا تعدّد مرادات القرآن وتعدّد معانيه في الباطن ، وتكثّر معانيه التأويليّة ، وإنّما الموافق للسان العرب هو تنزيله لا تأويله. انتهى.

ويمكن إرجاعه إلى بعض ما ذكرناه.

وقد يجاب أيضا : بإمكان تعدّد الاستعمال على حسب تعدّد المعاني والبطون ، إذ ليس في تلك الأخبار دلالة على أنّ الكلّ مراد باستعمال واحد.

أقول احتمال تعدّد الاستعمال على معنى إطلاق اللفظ ربّما يساعده ما أجمع عليه من أنّ قراءآت السبع متواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لا يمكن ذلك إلاّ بتعدّد الإطلاق في الخطاب فيجوز أن يراد بكلّ إطلاق حينئذ معنى غير ما اريد بسابقه. فليتأمّل.

ثالثها : قيل يظهر ثمرة النزاع في الإقرار والوقف والوصيّة وسائر العقود ، فعلى القول بالجواز ينفذ الإقرار فيما إذا كان المقرّبه أو المقرّ له شيئين أو أكثر قصدا من لفظ مشترك بينهما ، كما لو قال : « لزيد عندي عين » مريدا منها الفضّة والدينار أو من « زيد » شخصين ، وعلى القول بعدم الجواز لا ينفذ لكون الاستعمال حينئذ غلطا والغلط ممّا لا أثر له في الأحكام ، وكذلك يترتّب عليه صحّة الوقف والوصيّة وغيرهما من العقود إذا اخذ فيها لفظ مشترك واريد منه أكثر من معنى ، إن لم نعتبر فيها الصراحة وعدمها.

٥٢٤

ويظهر الثمرة أيضا في عدم تحريم كلّ من الامّ والبنت بمجرّد العقد عليهما من غير دخول ، نظرا إلى قوله تعالى : ( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ )(١) على القول برجوع القيد إلى الجملتين ، فإنّ قوله : ( مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) على القول برجوعه إليهما يستلزم كون لفظة « من » مستعملة في معنيين البيان بالقياس إلى الجملة الاولى والابتداء بالقياس إلى الثانية ، فعلى القول بجواز هذا الاستعمال تصير الآية دليلا على اشتراط الدخول في تحريم كلّ من الامّ والبنت المعقود عليهما ، وعلى القول بعدمه يختصّ الاشتراط بتحريم البنت في العقد على الامّ ، لقيام قرينة حينئذ قاضية باختصاص القيد بالجملة الأخيرة صونا للاستعمال في كلام الحكيم عن كونه غلطا. وفي الجميع نظر ، لوضوح عدم كون الغرض من تدوين هذه المسألة في الكتب الاصوليّة تفريع هذه الامور عليها ، مع إمكان المناقشة في صحّة بعضها كمسألة الإقرار ، فإنّ نفوذه من جهة كشفه عن الواقع لا من جهة تأثيره شرعا في حصول المسبّب الواقعي ليقبل من الخصوصيّات والشروط كلّما اعتبره الشارع ، فيجوز نفوذ الإقرار بالاستعمال حيثما كشف عن الواقع بعنوان القطع.

فإنّ الكلام في صورة قيام الدلالة القطعيّة على إرادة أكثر ، ولذا يلزم بواحد فيما لو قال : « له عليّ عشرة إلاّ تسعة » على القول بعدم جواز استثناء الأكثر ، هذا مع ما [ في ] جعل مسألة اشتراط تحريم كلّ من الامّ والبنت المعقود عليهما بالدخول ثمرة لأمثال هذه المسألة نظرا آخر.

فإنّ المسائل الفرعيّة إنّما تصلح ثمرات للمسائل الاصوليّة الّتي يطلب بها في باب المشتركات إحراز الدلالة على الحكم الشرعي الفرعي ، وضابطها الكلّي اندراجها في تعريف اصول الفقه : « بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن الأدلّة » وهذه المسألة من المبادئ اللغويّة الّتي قد يستنبط بها الموضوعات. وقد يستنبط بها ما هو من قبيل المسائل الاصوليّة ، فإنّ كون التبادر

__________________

(١) النساء : ٢٢.

٥٢٥

علامة للحقيقة قد يحرز به كون « الغناء » مثلا عبارة عن الصوت اللهوي وهو من الموضوعات ، وقد يحرز به كون الأمر حقيقة في الوجوب ، والنهي حقيقة في التحريم وهو من المسائل الاصوليّة.

وظاهر أنّ من المسائل الاصوليّة الّتي هي الأحوال العارضة للأدلّة وجوب التأويل في الدليل عند تعذّر الأخذ بحقيقته أو مطلق ظهوره وعدم وجوبه ، بل عدم جوازه عند عدم تعذّر الأخذ بظهوره ، وجواز استعمال المشترك وعدم جوازه يثمران هذين الحكمين الاصوليّين فيما إذا قام دلالة معتبرة على اعتبار أكثر من معنى من معاني المشترك ودار الأمر بين كونه من باب الاستعمال في الأكثر أو على نهج آخر من وجوه التأويل ، كما في قوله عليه‌السلام : « إغتسل للجنابة ولمسّ الميّت وللجمعة وللزيارة » بناء على القول باشتراك الصيغة بين الوجوب والندب مثلا.

فعلى القول بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى يجوز كونهما في هذا المثال مرادين من قوله : « إغتسل » في إطلاق واحد من دون الحاجة إلى التأويل بتجوّز أو تقدير.

وعلى القول بعدم الجواز لا بدّ من التأويل بالتجوّز بحمل الصيغة على إرادة الطلب الراجح مطلقا من باب عموم الاشتراك ، أو بالإضمار بتقدير « إغتسل » مع كلّ من الامور المتعاطفة لئلاّ يلزم الغلط في كلام الحكيم.

وقد تقدّم نظير هذا التأويل على القول المذكور في آيتي الصلاة على النبيّ والسجود لله ، وهكذا نقول في آية تحريم امّهات النساء والربائب على القول بظهور القيد في الرجوع إلى الجميع ، فعلى القول بعدم جواز استعمال لفظة « من » في البيان والابتداء معا يجب صرف هذا الظاهر عن ظهوره بتخصيص القيد بالجملة الأخيرة فيختصّ اشتراط الدخول حينئذ بتحريم الربائب ، ولا يشترط في تحريم امّهات النساء ، فالحكم الفرعي متفرّع على الحكم الاصولي المترتّب على مسألة استعمال المشترك ، لا أنّه متفرّع على المسألة أوّلا وبالذات وبلا واسطة ليكون ثمرة لها فليتدبّر.

٥٢٦

معالم الدين :

أصل

واختلفوا في استعمال اللفظ في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ ، كاختلافهم في استعمال المشترك في معانيه فمنعه قوم ، وجوّزه آخرون. ثمّ اختلف المجوّزون فأكثرهم على أنّه مجاز. وربّما قيل بكونه حقيقة ومجازا بالاعتبارين.

حجّة المانعين : انه لو جاز استعمال اللّفظ في المعنيين ، للزم الجمع بين المتنافيين. أمّا الملازمة ، فلأنّ من شرط المجاز نصب القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ؛ ولهذا قال أهل البيان : إنّ المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة ، ولهذا قال أهل البيان : إنّ المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة ، وملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء. وإلاّ لزم صدق الملزوم بدون اللازم وهو محال ، وجعلوا هذا وجه الفرق بين المجاز والكناية. وحينئذ ، فإذا استعمل المتكلّم اللّفظ فيهما ، كان مريدا لاستعماله فيما وضع له ، باعتبار إرادة المعنى الحقيقيّ غير مريد له باعتبار إرادة المعنى المجازيّ ، وهو ما ذكر من اللاّزم. وأمّا بطلانه فواضح.

وحجّة المجوّزين : أنّه ليس بين إرادة الحقيقة وإرادة المجاز معا منافاة. وإذا لم يكن ثمّ منافاة لم يمتنع اجتماع الارادتين عند التكلّم.

واحتجّوا لكونه مجازا : بأنّ استعماله فيهما استعمال في غير ما وضع له أوّلا ؛ إذ لم يكن المعنى المجازيّ داخلا في الموضوع له وهو الآن داخل ، فكان مجازا.

واحتجّ القائل بكونه حقيقة ومجازا : بأنّ اللفظ مستعمل في كلّ واحد من المعنيين. والمفروض أنّه حقيقة في أحدهما ، مجاز في

٥٢٧

الآخر ، فلكلّ واحد من الاستعمالين حكمه.

وجواب المانعين عن حجّة الجواز ، ظاهر بعد ما قرّروه في وجه التنافي.

وأمّا الحجّتان الأخيرتان ، فهما ساقطتان بعد إبطال الأولى. وتزيد الحجّة على مجازيّته : بأنّ فيها خروجا عن محلّ النزاع ؛ إذ موضع البحث هو استعمال اللّفظ في المعنيين ، على أن يكون كلّ منهما مناطا للحكم ، ومتعلّقا للاثبات والنفي ، كما مرّ آنفا في المشترك. وما ذكر في الحجّة يدلّ على أنّ اللّفظ مستعمل في معنى مجازيّ شامل للمعنى الحقيقيّ والمجازيّ الأوّل ، فهو معنى ثالث لهما. وهذا ممّا لا نزاع فيه ؛ فانّ النّافي للصحّة يجوّز إرادة المعنى المجازيّ الشامل ويسمّى ذلك بـ « عموم المجاز » ، مثل أن تريد بـ « وضع القدم » في قولك : « لا أضع قدمى في دار فلان » الدخول ، فيتناول دخولها حافيا وهو الحقيقة ، وناعلا وراكبا ، وهما مجازان.

والتحقيق عندي في هذا المقام : أنّهم إن أرادوا بالمعنى الحقيقيّ الذي يستعمل فيه اللّفظ حينئذ تمام الموضوع له حتّى مع الوحدة الملحوظة في اللّفظ المفرد ، كما علم في المشترك ، كان القول بالمنع متوجّها ، لأنّ إرادة المجاز تعانده من جهتين : منافاتها للوحدة الملحوظة ، ولزوم القرينة المانعة ؛ وإن أرادوا به : المدلول الحقيقيّ من دون اعتبار كونه منفردا ، كما قرّر في جواب حجّة المانع في المشترك ، اتّجه القول بالجواز ، لأنّ المعنى الحقيقيّ يصير بعد تعريته عن الوحدة مجازيّا للّفظ ؛ فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده. وحيث كان المعتبر في استعمال المشترك هو هذا المعنى ، فالظاهر اعتباره هنا أيضا. ولعلّ المانع في الموضعين بناؤه على الاعتبار الآخر. وكلامه حينئذ متّجه ، لكن قد عرفت أنّ النّزاع يعود معه لفظيّا. ومن هنا يظهر ضعف القول بكونه حقيقة ومجازا حينئذ ، فإنّ المعنيّ الحقيقيّ لم يرد بكماله ، وإنّما أريد منه البعض ، فيكون اللّفظ فيه مجازا أيضا.

٥٢٨

[٥٨] قوله : (إختلفوا في استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي كاختلافهم في استعمال المشترك في معانيه ... الخ)

أراد من التشبيه تشبيه معنى الاستعمال في المعنيين هنا به حسبما تقدّم في بحث المشترك ، لا تشبيه أصل الاختلاف وإن كانت العبارة ظاهرة فيه.

وحاصل المراد من التشبيه : إنّ المراد من استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي استعماله فيهما على البدل ، على معنى استقلال كلّ منهما في كونه مستعملا فيه مطلوبا إفادته من اللفظ ، وعلامته أن ينعقد به حكمان شرعيّان فيما كان المعنيان من قبيل الحكم كالوجوب والندب في صيغة الأمر على القول بكونها حقيقة في الأوّل مجازا في الثاني ، إذا وقع استعمالها فيهما معا ، أو ينعقد به موضوعان لحكم خبري أو إنشائي ، كقوله : « رأيت أسدا » أو « إئتني بأسد » مثلا مريدا به المفترس والرجل الشجاع.

وظاهر إطلاق المعنى المجازي في عناوين المسألة يقضي بأنّ المراد به أعمّ ممّا كان مجازا من هذا المعنى الحقيقي المراد معه من اللفظ كالمثال المذكور وغيره ، كما في لفظ يكون حقيقة في معنيين ومجازا في ثالث مناسب لأحدهما دون الآخر ، واريد منه ذلك المعنى المجازي مع ما لا يناسبه من المعنيين الحقيقيّين.

والمناقشة فيه : بأنّ ظاهر استدلال المانعين بأنّ المجاز ملزوم لقرينة معاندة للحقيقة يأبى ذلك ، بتقريب : إنّ المعاندة عبارة عن المعارضة ، وهي تتأتّى غالبا بين القرينة وظهور الحقيقة باعتبار فيما إذا كان المعنيان متناسبين.

يدفعها : وضوح كون المراد من القرينة المعاندة اللازمة للمجاز هي القرينة الصارفة للّفظ عن إرادة الحقيقة ، وهي كما تصرفه فيما إذا كانت الحقيقة متّحدة كذلك تصرفه فيما إذا كانت متعدّدة ، كالمشترك إذا قامت معه قرينة المجاز ، وظاهر أنّه لم يؤخذ في ذلك المجاز كونه مناسبا لجميع الحقائق ، وإذا اريد منه هذا المجاز مع بعض ما لا يناسبه من الحقائق كان من محلّ النزاع أخذا بظاهر إطلاق العنوان

٥٢٩

من غير منافاة له في استدلال المانع ، ولذا لم يعترض عليه أحد بكونه أخصّ ممّا يقتضيه ظاهر العنوان. فتأمّل.

ثمّ إنّه يستفاد من العلاّمة في النهاية أنّ هذا النزاع متفرّع على النزاع السابق ، بدعوى : إنّ من جوّز الاستعمال ثمّة جوّزه هنا ، ومن منعه ثمّة منعه هنا (١).

وفيه نظر من وجوه ، فإنّه ممّا يبعّده :

أوّلا : تعدّد العنوان ، فلو صحّ ما ذكر لوجب الاكتفاء بعنوان واحد عامّ لهما ولغيرهما أيضا ، كاستعمال اللفظ في معنيين حقيقيّين أو مجازيّين أو مختلفين لخلوّ تعدّده عن الفائدة.

وثانيا : إنّه لو صحّ ذلك لجرى هنا سائر الأقوال المتقدّمة ثمّة أو بعضها ، لعدم وجود القول بالتفصيل هنا لا بين المفرد والتثنية والجمع ولا بين الإثبات والنفي.

وتوهّم : تفرّع إطلاق الجواز والنفي هنا على القولين بالجواز وعدمه مطلقا ثمّة.

يدفعه : أنّ القائل بكلّ من التفصيلين ثمّة لا بدّ وأن يكون له هنا مذهب ، وهو إمّا الجواز أو النفي. وأيّا مّا كان فتفريعه على إطلاق القول بالجواز أو النفي فقط غير صحيح.

وثالثا : إنّه ينافي ظاهر استدلال المانع هنا ، فإنّه يقضي بانحصار جهة المنع هنا في استلزام المجاز لقرينة مانعة عن إرادة الحقيقة بحيث لولاه لاتّجه الجواز ، بخلاف ما يظهر من المانعين ثمّة من كون الجهة المقتضية للمنع هو لزوم التناقض في الإرادة بالذات ، باعتبار أنّ إرادة الجميع تقتضي عدم الاكتفاء بكلّ واحد منفردا وإرادة كلّ واحد تقتضي الاكتفاء به كذلك.

فلو صحّ التفريع لكان على المانع هنا الاحتجاج بذلك ويضيف إليه علاوة وهو استلزام المجاز للقرينة المانعة.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : ورقة ٢٦ ( مخطوط ).

٥٣٠

فالّذي يختلج بالبال اختصاص النزاع هنا بالمجوّزين ثمّة ، فإنّهم بعد ما بنوا على أنّ ما اعتمد عليه المانعون ثمّة لا يصلح سندا للمنع ، تكلّموا في أنّ مجازيّة أحد المعنيين هل تصلح سندا للمنع أو لا ، فافترقوا فريقين.

وربما يؤيّده ما جزم به بعضهم من كون النزاع لفظيّا ، باعتبار أنّ المجوّز يجوّز ما لا ينكره المانع ، وهو الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى الكنائي الغير المستلزم للقرينة المانعة ، والمانع يمنع ما لا يجوّزه المجوّز وهو الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي باصطلاح البياني وهو المستلزم للقرينة المانعة ، فالفريقان مطبقان على الجواز في الأوّل وعلى عدمه في الثاني.

أمّا الأوّل : فلما ذكره علماء البيان في باب الكناية ، من تفسيرها : بلفظ اريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه ، وفي موضع آخر : أنّه لفظ اريد به غير ما وضع له مع جواز إرادته معه ، وظاهر الاتّفاق على ذلك.

وأمّا الثاني : فلأنّ امتناع الجمع بينهما معلوم بالضرورة ، فكيف يتصوّر تجويزه من العارف بالاصطلاح.

وظاهر أنّ الاتّفاق على الجواز هنا في الجملة لا يستقيم إلاّ على القول بالجواز في البحث السابق ، إذ قضيّة القول بالمنع ثمّة ودليله هو المنع هنا مطلقا.

وينبغي التنبيه على امور من باب مبادئ المسألة :

الأمر الأوّل : في بيان صحّة ما ذكره البعض وسقمه من لفظيّة النزاع ، كما عرفت وقد ذكره السيّد الطباطبائي في شرحه للوافية.

ويزيّفه أوّلا : أنّ النزاع اللفظي في المسائل العلميّة بعيد عن طريقة أهل النظر.

وثانيا : يأباه ظاهر قولهم : « اختلفوا في الجواز وعدمه » في عناوين المسألة على ما هو في الكتب الاصوليّة ، مضافا إلى أنّ هذه العناوين ظاهرة في توارد النفي والإثبات على موضوع واحد ، كما هو الأصل الكلّي في جميع المسائل الخلافيّة ، وعلى هذه القاعدة فالمعنى المجازي المأخوذ في العنوان قبالا للمعنى الحقيقي الّذي توارد عليه النفي والإثبات. إمّا أن يراد به ما يعمّ المعنى الكنائي

٥٣١

والمجازي باصطلاح البياني ، أو خصوص المعنى الكنائي أو خصوص المجازي باصطلاح البياني. وأيّا ما كان فالنزاع لا يكون إلاّ معنويّا.

غاية الأمر ، أنّ المجوّز على الأوّل يجوّز الجمع بين المعنيين مطلقا ، حتّى المعنى المجازي باصطلاح البياني ، والمانع يمنعه كذلك حتّى في المعنى الكنائي ، فكيف يدّعي اتّفاق الفريقين على الجواز في الكنائي ، وعلى المنع في المجازي البياني.

وعلى الثاني يكون محلّ النزاع هو المعنى الكنائي لا غير.

وعلى الثالث يكون هو المعنى المجازي البياني.

فكيف يدّعي على الجواز في الأوّل وعلى المنع في الثاني.

فالّذي يترجّح في النظر إنّما هو وقوع النزاع في المجازي بالمعنى الأعمّ ، ومرجعه إلى النزاع في جواز الجمع بين ما وضع له ، وغير ما وضع له سواء كان هو المعنى الكنائي أو المجازي باصطلاح البياني ، والمجوّز يجوّزه مطلقا والمانع يمنعه كذلك.

غاية الأمر أنّه يتوجّه إلى المانع في استدلاله بكون المجاز ملزوما لقرينة مانعة ، قصور دليله عن الوفاء بتمام الدعوى ، وكونه أخصّ من المدّعى ، وهذا ليس بعزيز في المسائل العلميّة واستدلالاتها بخلاف لفظيّة النزاع ، والالتزام بها ليس بأولى من الالتزام بأخصّيّة دليل المانع بل العكس أولى بالإذعان التفاتا إلى شيوعه وكثرة وقوعه في استدلالات المسائل النظريّة.

وممّا يفصح عن عموم النزاع بل عموم القول بالجواز للمجاز البياني ، اعتراض المجوّزين على دليل المانع تارة : بمنع لزوم القرينة المانعة في المجاز.

واخرى : بأنّ القرينة اللازمة للمجاز إنّما تمنع عن إرادة الحقيقة منفردا ، وأمّا إرادته مجتمعا مع المعنى المجازي فلا تمنعه.

وثالثة : بأنّها إنّما تمنع عن إرادتها بدلا عن المعنى المجازي ، لا ما اريد بإرادة مستقلّة اخرى منضمّة إلى إراة المعنى المجازي وهذه الاعتراضات كما ترى تدلّ

٥٣٢

على أنّ المجوّزين يجوّزون الجمع في المجاز البياني أيضا ، أو انّ فيهم من يجوّزه أيضا.

فكيف يدّعى الاتّفاق أو الضرورة في خلافه ، وأمّا دعوى على الجواز في المعنى الكنائي فلئن سلّمناه من علماء البيان فلا نسلّمه من علماء الاصول خصوصا ، مع ملاحظة أنّ التشاجر واقع بينهم في المجاز بقول مطلق ، وأنّ الكناية عندهم نوع من المجاز.

الأمر الثاني : في بيان صحّة ما في كلام جماعة ـ منهم السيّد المتقدّم ذكره والفاضل المحشّي ـ وسقمه من أنّ المجاز الاصولي أعمّ منه باصطلاح البياني ، فإنّ الكناية مندرجة في المجاز وقسم منه عند الاصوليّين ، بدليل أنّهم لم يعتبروا لزوم القرينة المانعة في تعريفه ، وقسيم له عند علماء البيان ولذا أخذوا القيد المذكور في تعريفه ، احترازا عن الكناية الّتي أخذوا فيها جواز إرادة الملزوم والمعنى مع اللازم وغير ما وضع له.

قال السيّد المذكور قدس‌سره : والسرّ في اختلاف الاصطلاحين اختلاف المقاصد والأغراض في العلمين ، فإنّ علم البيان لمّا كان باحثا عن الألفاظ من حيث إنّها طرق مختلفه للتعبير عن المعنى الواحد ، وكان التعبير عن المعنى بطريق الكناية طريقا معروفا متميّزا عن غيره بأقسام وأحكام كثيرة كان المناسب جعله أصلا برأسه مستقلاّ بنفسه ، وتعميم حدّ المجاز مع ذلك يوجب تداخل أبحاث الفنّ وهو غير مستحسن ، فلذا جعلوه قسيما للكناية مبائنا لها ، وزادوا في حدّه ما يميّزه عنها.

وأمّا علم الاصول فإنّما يبحث عن الألفاظ فيه من الوجه الّذي يبتنى عليه جمل الخطاب الشرعي ، أي من حيث إنّه في أيّ مقام يصلح للحمل على ما وضع له ، وفي أيّ مقام يحمل على غيره ، والمناسب لهذا الغرض هو البحث عنها من حيث إنّها تستقلّ بالإفادة والتفهيم لأجل أو لا تستقلّ لانتفائه بل يحتاج إلى القرينة ، ومرجعه إلى البحث عن الحقيقة والمجاز بالمعنى الأعمّ من الكناية والمجاز بالمعنى الأخصّ.

٥٣٣

وأمّا كون اللفظ كناية بخصوصها ـ أي اتّصافه بإمكان إرادة المسمّى ـ فممّا لا دخل له في ذلك الغرض ، لأنّه إنّما يتحقّق بتحقّق الإرادة دون احتمالها ، وليس للّفظ المتّصف بإمكان الإرادة حكم مخصوص يتعلّق به نظر الاصولي ، كما لا يخفى على المطّلع العارف بمباحث الكناية ، فبحث الاصولي عن الكناية ليس له وجه يعتّد به. انتهى كلامه رفع مقامه.

وتحقيق المقام : إنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ المجاز عند الاصولي هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له من حيث إنّه غير ما وضع له ، سواء اقترنه القرينة اللازمة للمجاز حين الخطاب أو لا. بل لحقته بعد الخطاب ، وسواء كان غير ما وضع له لازما بالمعنى الأخصّ لما وضع له بلزوم عقلي أو عرفي أو لا.

وعلى ذلك يبتنى انقسام القرينة عندهم إلى المتّصلة والمنفصلة ، وقولهم : « بأنّ تأخير البيان فيما له ظاهر عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز ، وإنّما لا يجوز التأخير عن وقت الحاجة فيما كان له وقت حاجة لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل » ولا نظنّ أنّ علماء البيان ينكرون شيئا من ذلك ، وإن لم يقع التصريح به أيضا في كلامهم.

فآل الكلام إلى أن يقال : إنّ القرينة اللازمة للمجاز عندهم ـ حسبما أخذوه في حدّه ـ أعمّ ممّا اقترن باللفظ حين الاستعمال ، وما لحقته بعده لدى الحاجة.

ومن ذلك ينقدح أنّ الكناية المجعولة قسيمة للمجاز ليس هو ما لم يقترنه القرينة حين الخطاب وإن لحقته بعده ، بل إنّما جعلت قسيمة لحيثيّة اخرى غير ذلك ، وهي حيثيّة جواز إرادة المعنى مع لازمه ، فهي حينئذ لفظ اريد به لازم معناه من حيث إنّه يجوز أن يراد معه المعنى أيضا.

بل عن صاحب المفتاح (١) إنّها ما اريد به لازم معناه من حيث إنّه يراد معه المعنى ، لأنّه قال ـ فيما حكى عنه ـ : المراد بالكلمة المستعملة إمّا معناها وحده

__________________

(١) مفتاح العلوم : ١٧٥ ـ وحكى عنه في المطوّل ـ : ٣٢٣ ( الطبعة الحجرية ).

٥٣٤

أو غير معناها وحده ، أو معناها وغير معناها ، والأوّل الحقيقة ، والثاني المجاز ، والثالث الكناية ، وإن كان ذلك ضعيفا مخالفا لرأي جمهورهم ، لأنّ المعتبر في الكناية عندهم إمكان إرادة المعنى مع لازمه ، سواء اريد فعلا أو لا ، لا فعليّة إرادته وتعيّنه.

ولذا أورد عليه في المطوّل : بأنّ الحقّ في الكناية أنّ المراد فيها إنّما هو لازم المعنى وإرادة المعنى جائزة لا واجبة ، لأنّها كثيرا مّا تخلو عن إرادة المعنى الحقيقي وإن كانت جائزة ، للقطع بصحّة قولنا : « فلان طويل النجاد » وإن لم يكن له نجاد قطّ ، وقولنا : « جبان الكلب » و « مهزول الفصيل » وإن لم يكن له كلب ولا فصيل. انتهى (١).

وحيث إنّ المأخوذ فيها عندهم حيثيّة إمكان إرادة المعنى مع لازمه ، فهو الباعث على أنّهم اعتبروا فيها تجرّد اللفظ عن قرينة عدم إرادة المعنى مطلقا.

وعلى هذا فالمجاز عندهم لفظ اريد به لازم معناه ، أو غير ما وضع له من حيث إنّه لا يجوز أن يراد معه المعنى ، أو ما وضع له وهو الباعث على أخذ القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة في حدّه.

وأمّا الاصوليّون فعموم اصطلاحهم فيه مبنيّ على تعرية مفهومه عن هذه الحيثيّة ، بأن يكون عبارة عن اللفظ المستعمل في غير ما وضع له مطلقا ، أي سواء جاز إرادة ما وضع له معه أو لم يجز.

والظاهر إنّه كذلك لشواهد كثيرة يقف عليها المتتبّع في كلامهم :

منها : حصرهم الاستعمال الصحيح في الحقيقة والمجاز ، وإنّه لا واسطة بينهما إلاّ الغلط ، والكناية ليست مندرجة في الحقيقة بالضرورة ، فتكون مندرجة في المجاز ، وإلاّ بطل الحصر المذكور.

ومنها : ما تكرّر في كلامهم من أنّ المصحّح للاستعمال في الألفاظ ، إمّا الوضع

__________________

(١) المطوّل : ٣٢٣ ( الطبعة الحجرية ).

٥٣٥

أو العلاقة ، الوضع في الحقائق والعلاقة في المجازات ، ولا ريب أنّ المصحّح للاستعمال في الكناية علاقة اللزوم بالمعنى الأخصّ فتكون من المجاز.

ومنها : خلوّ حدّ المجاز عن القرينة المانعة ، فلو لم يندرج الكناية فيه لانتقض بها طرد الحدّ ، ولم يقل به أحد حيث لم يتعرّض أحد لنقض طرده بها.

لا يقال : نراهم أنّهم عند بيان أقسام القرينة وأنّها صارفة ومعيّنة ومفهمة يخصّون القرينة الصارفة بالمجاز ، وهذا يقضي بأنّ المجاز عندهم أيضا ملزوم لقرينة مانعة عن إرادة الحقيقة ، وإن لم يأخذوه في حدّه ، إذ القرينة الصارفة لا تكون إلاّ مانعة.

لأنّا نقول : لا شهادة في التخصيص المذكور بذلك ، لأنّ المراد به أنّ القرينة الصارفة لا توجد إلاّ في المجاز من باب قصر الصفة على الموصوف ، لا أنّ المجاز لا يكون إلاّ مع القرينة الصارفة من باب قصر الموصوف على الصفة ، فاختصاص القرينة بالمجاز لا ينافي عموم اصطلاحهم فيه.

هذا كلّه بناء على تفسير الكناية بما تقدّم ، من لفظ اريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه ، كما هو المعروف عند علماء البيان.

وقد يوجد في كلامهم تفسيرها باستعمال اللفظ من الملزوم للانتقال إلى اللازم ، أو اللفظ المستعمل في الملزوم لينتقل إلى اللازم.

وقد عدّه جماعة من الأعلام طريقا آخر لهم في الكناية.

وعن التفتازاني في شرح المفتاح : إنّ لهم فيها طريقين ويظهر من مطاوي كلماته في المطّول أيضا (١).

وصرّح به الفاضل الچلبي في حواشيه على المطوّل ، في باب تعريف المسند إليه بالعلميّة (٢).

وقد زعم بعض الأعاظم ـ بناء على هذا الطريق ـ خروجها عن تعريف المجاز بقيد الاستعمال في غير ما وضع له.

__________________

(١ و ٢) المطوّل : ٥٢ ( الطبعة الحجرية ).

٥٣٦

قال : فإنّ الكناية مستعملة فيما وضعت له لينتقل منه إلى غير ما وضعت له.

والحقيقة مستعملة فيما وضعت له ليفهم منه الموضوع له ، والمجاز مستعمل في غير ما وضع له ليفهم منه ذلك ، والكناية في الاستعمال كالحقيقة وفي إرادة المعنى كالمجاز ، إلاّ أنّه يفترق بأنّ في الكناية استعمل اللفظ فيما وضع له ليحصل منه الانتقال إلى غيره بخلاف المجاز. انتهى (١).

وظاهره كونها خارجة عن الحقيقة والمجاز معا ، وهذا كما ترى غير جيّد بل خلاف التحقيق ، لمنع كونها في الاستعمال كالحقيقة ، بل هي في الاستعمال والإرادة معا كالمجاز ، فتكون مجازا لا غير ، فإنّ الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له ، أي طلب فهمه التصديقي على وجه يتعلّق به الحكم وينوط به الصدق والكذب ، والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له على الوجه المذكور ، وقولهم : « لينتقل إلى اللازم » في تعريف الكناية ، يراد به أيضا طلب فهمه التصديقي على الوجه المذكور.

فالاستعمال بالمعنى المأخوذ في حدّ الحقيقة والمجاز حاصل فيها بالنسبة إلى المعنى الكنائي.

وأمّا الاستعمال المعتبر فيها بالنسبة إلى الملزوم أو ما وضع له ، فهو كما ذكروه عبارة عن مجرّد طلب فهمه التصوّري ، ليكون وسيلة إلى الانتقال إلى اللازم على معنى فهمه التصديقي على الوجه المذكور ، وهذا ليس من الاستعمال بالمعنى المأخوذ في حدّ الحقيقة لتكون في الاستعمال كالحقيقة.

وهذا هو معنى قولنا : « إنّها مجاز لا غير » ولأجل هذا ربّما أمكن إرجاع التفسير الثاني إلى الأوّل ، بجعل الاختلاف بينهما في مجرّد اللفظ والعبارة ، بملاحظة أنّ الفهم التصديقي للازم المعنى مسبوق دائما في مثل « طويل النجاد » بالفهم التصوّري الملزوم.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٦.

٥٣٧

ويبقى الكلام في أنّ المتكلّم في الاستعمال الكنائي هل يطلب من اللفظ ذلك الفهم التصوّري كما يطلب الفهم التصديقي للاّزم الّذي هو المقصود بالأصالة ، أو لا؟

ويمكن القول بالتزامهم به على التفسير الأوّل أيضا ، إلاّ أنّهم لم يصرّحوا به فيه لوضوحه ، باعتبار وضوح سبق حصول الفهم التصوّري.

ويمكن أن يكون مبناه على نفي اعتباره فيها ، بناء على أنّه قهري الحصول فيها ، طلبه المتكلّم أو لم يطلبه ، فيكون طلبه اعتبارا لا حاجة إلى توجّه النفس إليه. فمقتضى الحكمة عدم الالتفات إليه.

الأمر الثالث : في أنّ المجاز بجميع أنواعه وأفراده ـ حتّى ما كان منه من قبيل الكناية ـ ملزوم لقرينة إرادة المعنى المجازي حذرا عن الإغراء بالجهل ، فإنّ اللفظ باعتبار الوضع حال تجرّده عن القرينة ظاهر في إرادة ما وضع له فيحمل عليه.

وهذا هو معنى أصالة الحقيقة ، فلا يحمل على إرادة خلاف ما وضع له إلاّ مع قرينة تدلّ عليه ، وعليه مبنى ما حقّقناه في محلّه من أنّ عدم القرينة جزء لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي ، ووجودها جزء لما يقتضي حمله على معناه المجازي ، وهذا في غير الكناية واضح.

وأمّا فيها فلأنّ اللفظ في موضع الكناية باعتبار وضعه الإفرادي والتركيبي أيضا ظاهر في إرادة الملزوم ، ويدلّ عليه مطابقة فلا يحمل على اللازم إلاّ لقرينة تدلّ على إرادته ، وإن دلّ عليه اللفظ بدونها التزاما ، فإنّ هذه الدلالة الالتزاميّة الحاصلة بواسطة دلالة المطابقة ليست معنى الكناية ، بل الكناية هي إرادة لازم المعنى على وجه يدلّ عليه اللفظ أصالة لا بواسطة دلالته المطابقيّة على المعنى ، فإنّ قولنا : « طويل النجاد » إنّما يصير كناية إذا اريد منه طول القامة ، بحيث يدلّ عليه أصالة فلا بدّ فيه من قرينة تدلّ عليه ، وبدونها يدلّ على طول النجاد مطابقة ، وعلى طول القامة التزاما ، ولا يقال له الكناية باعتبار هذه الدلالة.

٥٣٨

نعم الغالب عليها كون قرينتها اللازمة مقاميّة كمقام المدح في قولنا : « فلان مفتوح الباب » كناية عن جوده أو الذمّ في قولنا : « فلان مغلوق الباب » كناية عن بخله ، أو الدعاء في قولنا : « أغلق الله باب فلان » أي أماته ، وممّا قام عليه قرينة المقام قوله : ( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ )(١) فإنّه ورد في مقام استبعاد زكريّا لحصول ولد له ، وهذا قرينة على أنّ المراد من بلوغ الكبر بلوغ الهرم والشيخوخة لا ما يقابل الصغر ، ومنه قوله تعالى : ( وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ )(٢) فإنّ بياض العين كناية عن العمى وذهاب البصر ، وقرينته ورود الخطاب في مقام بيان كثرة حزن يعقوب وبكائه ، ففي نحو « طويل النجاد » لا يكفي في كوته كناية مجرّد احتمال إرادة طول القامة ، بل لا بدّ من مساعدة قرينة مقام عليه ، والغالب في قرائن المقام كونها امورا غير منضبطة.

وهل يعتبر في القرينة اللازمة للمجاز بقول مطلق كونها معاندة للحقيقة مانعة عن إرادته؟ الحقّ فيه التفصيل بين ما كان من قبيل الكناية فيعتبر في قرينته عدم المعاندة والمنع.

وبعبارة اخرى : يكفي فيها إثبات اللازم ولا يعتبر معه نفي الملزوم ، بل يعتبر عدم التعرّض لنفيه ، كما ينبّه عليه ما اخذ في حدّها من قيد « جواز إرادة المعنى وامكانه » فيعتبر فيها عدم القرينة المانعة لا عدم مطلق القرينة ، وما كان من قبيل المجاز البياني فيعتبر في قرينته المعاندة والمنع ، وضابطه عدم نهوضها دالّة على إرادة خلاف ما وضع له إلاّ حيث تعذّرت الحقيقة في موضع قيامها ، أو ما دامت قائمة فقوله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )(٣) مجاز في القدرة أو القوّة وقرينته العقل القاضي بتعذّر الجارحة في حقّه تعالى ، وقولنا : « أيادي فلان عندي كثيرة » مجاز في النعمة وقرينته جمعيّة الأيادي واعتبار المتكلّم كونها عنده ، فتقضى بتعذّر الحقيقة لأنّ الجارحة لا تكون جماعة ولا عند غير ذيها ، وقولنا : « سال

__________________

(١) آل عمران : ٤٠.

(٢) يوسف : ٨٤.

(٣) الفتح : ١٠.

٥٣٩

الوادي » مجاز في الماء لقرينة السيلان ، ويتعذّر معه الحقيقة لاستحالة سيلان حقيقة الوادي ، وطلب السؤال في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(١) قرينة على كون القرية مجازا في « الأهل » ويتعذّر معه الحقيقة لعدم صحّة سؤال حقيقة القرية ، وقولنا : « أسد يرمي » مجاز في الرجل الشجاع باعتبار « يرمي » ويتعذّر معه الحقيقة إذ لا ملائمة بين الرمي والمفترس ، وقولنا : « رعينا الغيث » مجاز في النبات لتعذّر رعي المطر ، وقولنا : « أمطرت السماء نباتا » مجاز في المطر ، لتعذّر إمطار حقيقة النبات.

وقوله تعالى : ( أَعْصِرُ خَمْراً )(٢) مجاز في العنب لتعذّر عصر المائع المسكر ، وقوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ )(٣) مجاز في البالغين بعد اليتم لتعذّر إعطاء حقيقة اليتيم شرعا ماله ، وقوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ )(٤) مجاز في الجنّة أو مطلق الفضل لتعذّر رقّة القلب في حقّه تعالى وهكذا في سائر أمثلة ما كان مجازا بالمعنى الأخصّ.

وبالتأمّل فيما حقّقناه يندفع الاعتراضات والأجوبة الّتي أوردوها على دليل المانع ، من كون المجاز ملزوما للقرينة المانعة ، مثل ما أورد من منع لزوم القرينة المانعة في المجاز ، فإنّ هذا المنع إن اريد به ما يؤول إلى السلب الكلّي وارد على خلاف التحقيق ، لأنّ من المجاز ما لا يمكن الاسترابة في ملزوميّته للقرينة المانعة.

نعم لو اريد به ما يرجع إلى رفع الايجاب الكلّي فهو في محلّه ، لأنّ من المجاز ما يكون من قبيل الكناية الملزومة لانتفاء القرينة المانعة.

ومثل ما يستفاد من كلام المصنّف فيما حقّقه ، وملخصّه : إنّهم إن أرادوا بالمعنى الحقيقي الّذي يستعمل فيه اللفظ حينئذ المدلول الحقيقي من دون اعتبار الوحدة المأخوذة في وضع المفرد معه اتّجه القول بالجواز ، لأنّ المعنى الحقيقي بعد تعريته عن الوحدة يصير مجازيّا للّفظ فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده.

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

(٢) يوسف : ٢٦.

(٣) النساء : ٢.

(٤) آل عمران : ١٠٧.

٥٤٠