أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

الثاني ـ أعني إخفاء المنفصل ـ كما يظهر من الشيخ قدس‌سره (١) ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر أنّ باب احتمال النسخ منفتح ، لأنّا إنّما استبعدناه بالنظر إلى تمام تلك البيانات المتأخّرة ، أمّا كون بيان واحد أو بيانين أو أكثر يكون من النسخ ، فهذا ممّا لا يكون مستبعداً.

قوله : وعلى كلّ حال ، لو تردّد الخاصّ بين أن يكون مخصّصاً أو ناسخاً فقيل بتقديم التخصيص لكثرته وشيوعه حتّى قيل ما من عام إلاّوقد خصّ وقيل بتقديم النسخ فإنّه لا يلزم من النسخ إلاّتقييد الاطلاق ، وهو أولى من تخصيص العام عند الدوران بينهما كما تقدّم ... الخ (٢).

ربما يقال : إنّ النسخ من قبيل التخصيص أو التقييد الأزماني ، فيكون من قبيل الدفع ، وقد حرّرنا في مباحث العموم من الأدلّة اللفظية (٣) وفي بعض مباحث العموم الأزماني من تنبيهات الاستصحاب (٤) أنّ النسخ من قبيل الرفع لا الدفع ، وأنّ الحكم بطبعه يقتضي البقاء ما لم يرفعه رافع كما هو الشأن في كلّ موجود ، والرافع للحكم هو نسخه ، فإنّه يرفعه حقيقة ، وإن كان الحاكم حينما أوجد الحكم كان عالماً بأنّه يرفعه بعد ذلك ، ومجرّد كون المصلحة محدودة وقصيرة لا توجب كون الحكم مقيّداً ومحدوداً في عالم الجعل والتشريع بها ، بل إنّ الحاكم جرياً على محدودية المصلحة يجعل الحكم ثمّ يلتزم برفعه عند انتهاء أمد مصلحته على وجه لو جوّزنا على ذلك الحاكم مخالفة المصالح ولم يرفع الحكم عند انتهاء

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ٩٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٧ ـ ٧٣٨.

(٣) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٨٩ وما بعدها.

(٤) راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٥٥ وما بعدها.

٦١

أمد مصلحته يكون ذلك الحكم باقياً ولا يرتفع إلاّبرافعه.

نعم ، يمكن أن يجعل الحكم من أوّل الأمر محدوداً بأمد المصلحة ، لكنّه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّه لم يحدّده بذلك في مرحلة جعله ، وقد عرفت أنّ لازم جعل ذلك الحكم هو بقاؤه وعدم ارتفاعه إلاّبرافعه الذي هو نسخه ، وحينئذ ففي احتمال النسخ يكون المرجع هو استصحاب بقاء الحكم ، وهذا بخلاف الوجه الأوّل فإنّه عند الشكّ يكون المرجع بناءً عليه هو العموم الأزماني أو الاطلاق الأزماني.

لكنّا أخيراً حصل لنا تأمّل في ذلك أشرنا إليه في ذلك المبحث ، وهو أنّ الحكم في مقام الثبوت إمّا أن يكون محدوداً لكون مصلحته كذلك ، وإمّا أن لا يكون محدوداً لكون مصلحته أيضاً كذلك ، ولا يتصوّر فيه الاهمال من هذه الجهة بعد أن فرضنا إمكان أخذ العموم الأزماني في ناحيته.

وعلى كلّ من هاتين الصورتين لا مورد للنسخ ، وحينئذ ينحصر مورده بالصورة الأُولى وهي كون المصلحة محدودة لكن كانت هناك مصلحة تقتضي إظهار كون الحكم غير محدود وعند انتهاء أمد مصلحته ينشأ نسخه ، ويكون النسخ حينئذ من قبيل الدفع لا الرفع ، ويشكل الأمر حينئذ في استصحاب الحكم في مقام الشكّ في نسخه لكونه حينئذ من قبيل الشكّ في المقتضي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه وإن كان بالدقّة من قبيل الشكّ في المقتضي ، إلاّ أنّه لمّا كان النسخ بحسب النظر العرفي رافعاً للحكم كان الاستصحاب جارياً فيه. وفيه تأمّل.

نعم ، لو سلّمنا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من عدم إمكان أخذ العموم الأزماني ثبوتاً في ناحية الحكم ، وأنّه إنّما يثبت العموم الأزماني من جهة الحكمة أو دليل آخر ،

٦٢

كان الاهمال فيه من هذه الناحية في مقام الثبوت ممكناً بل متعيّناً ، لعدم إمكان كلّ من الاطلاق والتقييد من هذه الناحية في ذلك ، وحينئذ فالحاكم يجعل الحكم بذاته وهو بطبعه يقتضي البقاء ، فلو كانت مصلحته محدودة يلزمه نسخه عند انتهاء أمد مصلحته ، ويكون نسخه رفعاً حينئذ ، وإن كان بالقياس إلى الدليل الدالّ على دوام ذلك الحكم واستمراره ممّا أثبتنا به العموم الأزماني من قبيل التخصيص الأزماني ، هذا.

ولكن هذا التأمّل في كون النسخ رفعاً أو دفعاً لا يؤثّر فيما نحن بصدده من ترجيح أصالة العموم على أصالة عدم النسخ عند دوران الأمر بينهما ، وذلك لأنّ الرجوع إلى العموم الأزماني أو الاطلاق الأزماني أو استصحاب بقاء الحكم إنّما هو بعد تحقّق الحكم الوارد على العام ، ووجود هذا المخصّص مانع من الأخذ بعموم العام الأفرادي ، فهو يقلب العام إلى ما عدا مورد ذلك الخاصّ قبل وصول النوبة إلى الشكّ في شمول العموم أو الاطلاق الأزماني بالنسبة إلى ذلك الخاصّ بعد صدوره أو إلى الشكّ في بقاء الحكم العام فيه بعد صدوره.

وحاصل الأمر أنّ مرتبة العموم الأفرادي وتخصيص ذلك العموم الأفرادي بذلك الخاصّ الوارد بعده قبل مرتبة شمول العام الأزماني في ذلك العام بالنسبة إلى ذلك الخاصّ بعد صدوره ، أو مرتبة بقاء الحكم العام فيه واستصحابه إلى ما بعد صدوره ، وقد حرّرنا تفصيل ذلك في المبحث المشار إليه ، فراجع.

وربما يتخيّل في المقام سقوط كلّ من أصالة عدم النسخ وأصالة عدم التخصيص ، بتوهّم أنّ مورد الخاصّ بعد صدوره نقطع بأنّ حكم العام لا يجري فيه من الآن فصاعداً ، لأنّه إمّا ناسخ للعام أو مخصّص له ، وعلى كلّ منهما لا يمكن إجراء أصالة عدم النسخ فيه بالنسبة إلى ما يأتي ، ولا أصالة عدم

٦٣

التخصيص ، للقطع بأنّه بعد صدور هذا الخاصّ لا يبقى محل للعمل بالعام فيه بالنسبة إلى ما يأتي.

وفيه : ما لا يخفى ، أمّا أوّلاً : فلأنّ إجراء هذين الأصلين وتعارضهما إنّما هو بالنسبة إلى ما مضى ولو باعتبار ترتّب القضاء أو الاعادة ، ولا ريب في إمكان إجراء كلّ من الأصلين في حدّ نفسه بالنسبة إلى ما مضى ، غايته أنّهما يتعارضان فيسقطان ، أو أنّ الساقط هو أصالة عدم النسخ ، لما عرفت من حكومة التخصيص عليها.

وثانياً : أنّ إجراء الأُصول في الطرفين إنّما هو بحساب كلّ طرف على حدة ، وبعد عدم إمكان الجمع بينهما نرجع إلى التساقط أو التقدّم الرتبي المذكور ، ومن الواضح أنّا لو خلّينا نحن واحتمال كون ذلك الخاصّ ناسخاً للعام ، لكان المرجع هو أصالة عدم النسخ ، كما أنّا لو خلّينا نحن واحتمال كونه مخصّصاً له لكان المرجع هو أصالة عدم التخصيص ، غايته أنّ هذين الاحتمالين المتولّدين من العلم الاجمالي بأحدهما يوجب العلم التفصيلي بأنّ ذلك العام لا يمكن العمل به في مورد ذلك الخاصّ من حين صدوره ، وهذا العلم التفصيلي المتولّد من ذلك العلم الاجمالي لا يضرّ بجريان كلّ واحد من الأصلين في حدّ نفسه في ناحية الشكّ فيه مع قطع النظر عن الطرف الآخر.

وقد تعرّض قدس‌سره لذلك مفصّلاً في هذه المسألة في آخر مباحث العموم فراجعه ، فإنّه قدس‌سره أفاد هناك أنّه لا يمكن الرجوع في هذه المسألة إلى أصالة عدم النسخ لوجهين ، فراجعه (١)

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٠٠.

٦٤

وقد يقرّب (١) هذا القول بتقريب آخر ، وهو مبني على كون أصالة عدم النسخ من الأُصول الجهتية وأصالة العموم من باب الظهور ، وحينئذ يكون المقام من دوران الأمر بين رفع اليد عن أصالة العموم في العام أو رفع اليد عن الأصل الجهتي فيه ، ولا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني ، لأنّ حجّية الظهور إنّما هي فيما لو أُحرز كون المتكلّم في مقام بيان الواقع ، ففي المقام يعلم بأنّ أصالة الظهور على خلاف الواقع بالنسبة إلى ذلك الخاصّ ، إمّا لعدم العموم أو لعدم كون المتكلّم في [ مقام ] بيان الواقع ، وحينئذ لا يمكن إعمال أصالة الظهور في ناحية شمول العام للخاصّ ، فيبقى أصالة الجهة بحاله.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ هذا العلم المتعلّق بأنّ الحكم في الخاصّ هو على خلاف العام إمّا لكونه مخصّصاً به أو لكونه ناسخاً له ، يقتضي سقوط كلا الأصلين على ما مرّ في التقريب السابق ، لا أن يكون الساقط هو أصالة العموم فقط لتبقى أصالة عدم النسخ التي هي أصل جهتي جارية بلا معارض ، هذا.

مضافاً إلى ما عرفت ممّا يرد على التقريب الأوّل من ظهور الثمرة فيما يقدّم من الأعمال على صدور الخاصّ ، ومن أنّه لا أثر للعلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي في عدم جريان الأصلين ، بل يكون كلّ منهما جارياً ولكنّه معارض بالآخر ، ومن أنّ الأصل الجهتي بعد تمامية الأصل المرادي أعني أصالة العموم ، ومع وجود الخاصّ لا يجري الأصل المرادي أعني أصالة العموم ، وهذا الأخير ـ أعني تقدّم الأصل المرادي رتبة على الأصل الجهتي ـ يكون جارياً ونافعاً حتّى في مورد تقدّم الخاصّ وتأخّر العام ، فمع الاعتراف بكون أصالة عدم النسخ من

__________________

(١) حقائق الأُصول ٢ : ٥٧٩ [ ولا يخفى أنّ هذا تقريب للقول بتقديم أصالة عدم النسخ ، فلاحظ ].

٦٥

الأُصول الجهتية لا وجه للتفصيل بين الصورتين ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّه يبقى إشكال آخر على التقريب المزبور ، وهو أنّه بعد فرض عدم إمكان إجراء أصالة الظهور في ناحية العموم للعلم بأنّها على خلاف الواقع إمّا للتخصيص أو للنسخ ، يكون المرجع هو أصالة عدم النسخ ، ولكن ماذا يترتّب على هذا الأصل ، هل يحكم بالتخصيص ليكون من باب كون نفي أحد الضدّين بالأصل موجباً لإثبات الآخر ، أو أنّه لا يترتّب عليه سوى لزوم العمل بالخاصّ وإن لم نثبت أنّه مخصّص للعام ، فيتوجّه حينئذ أنّ العمل بالخاصّ يجتمع مع كونه ناسخاً ، فلا فائدة في أصالة عدم النسخ ، فراجع وتأمّل ، بل لا محصّل لعدم النسخ فيما يأتي من الأعمال ، للعلم بأنّ ذلك الخاصّ غير محكوم فيما يأتي بحكم ذلك العام ، أمّا ما مضى من الأعمال فلا محصّل فيها أيضاً لأصالة عدم النسخ بالنسبة إليها ، للعلم بأنّ حكم العام لم ينسخ عن هذا الخاصّ فيما مضى ، وإنّما نحتمل طروّ النسخ فيما يأتي ، أمّا ما مضى فلا نحتمل فيه إلاّ التخصيص ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ولذلك أُورد على الشيخ قدس‌سره من قوله بتقديم التخصيص على النسخ (١) مع التزامه بتقديم تقييد الاطلاق على تخصيص العام (٢) ـ (٣).

المورد هو المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره ، فإنّه قال في هذه المسألة : ولا يخفى أنّ دلالة الخاصّ أو العام على الاستمرار والدوام إنّما هو بالاطلاق لا بالوضع ، فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص كان اللازم في هذا

__________________

(١) مطارح الأنظار ٢ : ٢٣١ / الرابعة ، فرائد الأُصول ٤ : ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) فرائد الأُصول ٤ : ٩٧ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٨.

٦٦

الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضاً (١).

وحيث إنّه قدس‌سره قد أنكر هذا الوجه المشار إليه بما تقدّم (٢) ذكره عنه من عدم كون العام رافعاً لمقدّمات الحكمة في المطلق ، فكان التخصيص والنسخ عنده فيما نحن فيه متساويين ، ولأجل ذلك قال ـ بعد أن جوّز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأجل المصلحة في الاخفاء أو المفسدة في الاظهار ، وأنّه لا بأس بكون تلك الأدلّة الخاصّة الواردة بعد حضور وقت العمل مخصّصة للعام المتقدّم ـ ما نصّه : ولأجله لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات باطلاقها في الاستمرار والدوام أيضاً ، فتفطّن (٣).

وقد أورد عليه شيخنا قدس‌سره بما محصّله أوّلاً : بالمنع من كون النسخ من قبيل التقييد الأزماني بل هو تخصيص أيضاً ، لكنّه بالنسبة إلى عموم آخر وهو قوله عليه‌السلام « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » (٤) وحينئذ لا يكون ما نحن فيه من قبيل التعارض بين العموم الأُصولي والاطلاق الشمولي كي يرد على الشيخ قدس‌سره ما أورده من لزوم تقديم النسخ على التخصيص.

وثانياً : بما أفاده بقوله : مع أنّه لو سلّم كونه من تقييد الاطلاق الخ (٥) ، وقد تقدّم شرح ذلك بما لا مزيد عليه (٦)

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٥١.

(٢) في الصفحة : ٥٠.

(٣) كفاية الأُصول : ٤٥١.

(٤) الكافي ١ : ٥٨ / باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

(٥) فوائد الأُصول ٤ : ٧٤٠.

(٦) راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد العاشر من هذا الكتاب في الصفحة :

٦٧

قوله : وثبوت أحكام الشريعة في جميع الأزمنة ليس من جهة إطلاق الأدلّة ، بل من جهة قوله عليه‌السلام : حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لا يمكن أن يكون المدرك لأصالة عدم النسخ هو عموم قوله عليه‌السلام : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » الخ ، فإنّ هذه الجملة ليست مسوقة لعدم النسخ في أحكامه وإلاّ لم يمكن صدور النسخ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد صدور هذه الجملة ، بل الظاهر أنّ هذه الجملة إنّما سيقت لبيان أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا نبي بعده ، وأنّ أحكامه التي حكم بها صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يرفعها رافع ، وحيث إنّ من جملة أحكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يكون ناسخاً لحكم سابق صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون ذلك الحكم الناسخ داخلاً في جملة قوله عليه‌السلام : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » فإنّ النسخ الذي نحتمله إنّما هو النسخ الصادر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الصادر من أحد أوصيائه ببيان خاصّ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم عليهم‌السلام أو بتفويض منه صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم. وعلى كلّ حال يكون الناسخ من جملة أحكامه التي حكم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّها باقية لا تنسخ ، يعني لا ينسخها نبي بعده أو أحد آخر لا يكون نسخه منتهياً إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد سقوط الاستدلال على هذا الأصل ـ أعني أصالة عدم النسخ ـ بالعموم الأزماني كما أفاده قدس‌سره ، ينحصر الدليل على هذا الأصل بالاستصحاب ، أعني استصحاب بقاء الحكم وعدم حدوث رافع وناسخ له.

__________________

٣١١ وما بعدها ، وراجع أيضاً المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٦٨ وما بعدها.

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٩.

٦٨

وما ربما يقال : من أنّ أصالة عدم النسخ أصل مستقل عقلائي لا يناط بالاستصحاب ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ بناء العقلاء على عدم النسخ ليس إلاّمن جهة الاستصحاب ، وإلاّ فإنّهم لا يعرفون النسخ أو لا يعرفون أنّ له خصوصية زائدة على كونه حادثاً رافعاً للحكم.

والاستدلال على كونه أصلاً عقلائياً مستقلاً بجريانه لو حصل الشكّ في نسخ الحكم القائل « لا تنقض اليقين بالشكّ » الذي هو مدرك الاستصحاب ، لا يخفى ما فيه ، فإنّه لو انحصر مدرك الاستصحاب بقوله « لا تنقض » الخ ، المفروض كونه مشكوك النسخ ، سقط التمسّك على بقاء ذلك الحكم بمفاد قوله « لا تنقض » الخ ، والقول بأنّ أصالة عدم النسخ جارية حتّى مع الشكّ في بقاء هذا الحكم ممنوع أشدّ المنع.

وعلى كلّ حال ، وكيف كان المدرك في أصالة عدم النسخ ، هل هو الاستصحاب ، أو أنّه أصل عقلائي مستقل ، أو أنّه مفاد العموم الأزماني ، أو أنّه مأخوذ من عموم قوله عليه‌السلام « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال » الخ ، لا يكون إلاّفي الرتبة المتأخّرة عن العموم الأفرادي الذي لا يمكن الأخذ به مع وجود المخصّص في قباله ، ومع التخصيص لا يبقى موضوع لأصالة عدم النسخ ، لأنّها فرع ثبوت الحكم العام في مورد الخاصّ المفروض عدمه بواسطة التخصيص السابق في الرتبة على النسخ.

ويتّضح ذلك جليّاً في صورة كون المتقدّم هو الخاصّ والمتأخّر هو العام بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، ودار الأمر بين كون ذلك الخاصّ المتقدّم مخصّصاً للعام المتأخّر أو كون ذلك العام ناسخاً للخاصّ ، فإنّ هذه الصورة هي

٦٩

التي يظهر الأثر الجلي للترديد فيها ، فإنّه بناءً على التخصيص يكون الحكم فيما بعد صدور العام على طبق الخاصّ السابق ، وبناءً على النسخ يكون الحكم فيما بعد على طبق العام ، بخلاف صورة العكس فإنّه لا يظهر أثر عملي للوجهين إلاّ بالنسبة إلى صحّة الأعمال السابقة ، وذلك لا أهميّة له بعد فرض المعذورية وعدم الاعادة والقضاء إلاّفي فروض قليلة.

٧٠

[ مبحث انقلاب النسبة ]

قوله : الصورة الأُولى : ما إذا ورد عام وخاصّان متباينان ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام النحويين ، ودليل آخر على عدم وجوب إكرام الكوفيين من النحويين ، وقام دليل ثالث على عدم وجوب إكرام البصريين منهم ـ إلى قوله ـ ولا إشكال في تخصيص العام بكلّ من الخاصّين ... الخ (١).

لو كان الخاصّان متوافقين في الحكم كان الأمر كذلك ، لكن لو كان أحدهما موافقاً للعام والآخر مخالفاً له في الحكم مثل قوله : أكرم النحويين ، ودليل ثانٍ يقول : لا تكرم الكوفيين منهم ، وآخر يقول : أكرم الكوفيين منهم ، فإنّ قوله : لا تكرم الكوفيين منهم وإن كان أخصّ من العام ، إلاّ أنّه لمّا كان مبتلى بالمعارض وهو قوله : أكرم الكوفيين منهم ، لم يمكن أن يكون مخصّصاً للعام ، وحينئذ يبقى العام على عمومه ويسقط الخاصّان كلاهما.

ومثله ما لو كان كلّ منهما مخالفاً للعام مع كونهما معاً متخالفين ، مثل قوله : لا تكرم النحويين وقوله : يستحب إكرام النحويين الكوفيين وقوله : يجب إكرام النحويين الكوفيين.

ويمكن أن يقال : إنّ التباين في اصطلاح باب التعارض لا يصدق على مثل لا تكرم نحوي الكوفة ولا تكرم نحوي البصرة ، وإنّما يصدق التباين في اصطلاح

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٤٢.

٧١

باب التعارض فيما لو اختلفا في الحكم واتّحدا في الموضوع مثل هذين المثالين المذكورين.

ثمّ إنّه في الأخير من المثالين يمكن أن يقال : إنّ الخاصّين وإن سقطا بالتعارض ، إلاّ أنّهما متّفقان على نفي الثالث وهو العام ، فيكون العام ساقطاً ويتعيّن الرجوع إلى ما تقتضيه الأُصول أو الترجيح السندي.

قوله : ففي مثل ذلك لابدّ من معاملة التعارض بين العام ومجموع الخاصّين ... الخ (١).

فتارة يكون سند العام أقوى منهما ، وتارةً بالعكس ، وثالثة يكون مساوياً لسندهما ، هذه صور ثلاث واضحة الحكم. لكن لو اختلفا في قوّة السند وضعفه ، بأن كان أحدهما أقوى سنداً من العام والآخر أضعف سنداً منه ، أو كان أحدهما أقوى سنداً من العام والآخر مساوياً له ، أو كان أحدهما مساوياً للعام وكان الآخر أضعف ، فهل في هذه الصور يقدّم العام ، أو يقدّمان عليه ، أو يسقط الجميع؟ فيه تأمّل ، راجع ما حرّرناه عن السيّد قدس‌سره في هذا المقام (٢). وأصله ما في حاشية الرسائل للعلاّمة صاحب الكفاية ، فإنّه أشار إلى هذه الصور الست بقوله : ثمّ لا يخفى أنّ الترجيح والتخيير في المقام لمّا كان بين مجموع المخصّصات والعام الخ ، وذلك هو ما علّقه على قول الشيخ قدس‌سره : فحكم ذلك كالمتباينين الخ ، فراجع (٣)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٤٢ ـ ٧٤٣.

(٢) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٣) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٢٧٨.

٧٢

قوله في الصورة الثانية : إن لم يلزم التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ... الخ (١).

لزوم التخصيص المستهجن ممكن ، لكن بقاء العام بلا مورد غير ممكن في هذه الصورة ، لأنّ المفروض فيها كون الخاصّين أخصّ من العام وإن كان أحدهما أخصّ من الآخر ، وحاصلها أنّ الخاصّين المتوافقين في الحكم يكون أحدهما أخصّ من الآخر مع فرض كون ذلك الآخر أخصّ من العام ، فكيف يعقل بقاء العام بلا مورد بعد التخصيص ، ولو فرض بقاء العام بعدهما بلا مورد لم يعقل انقلاب النسبة فيما لو خصّصناه أوّلاً بأخصّ الخاصّين.

نعم ، في الصورة الأُولى ـ وهي صورة التباين بين الخاصّين ـ لا يعقل انقلاب النسبة فيما لو خصّصناه بأحدهما قبل الآخر. ومنه يظهر الخدشة فيما نقله في تحرير السيّد سلّمه الله : فلا وجه للتخصيص بأحدهما أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بين الباقي والخاصّ الآخر (٢).

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المثال ـ أعني أكرم العلماء ، ولا تكرم النحويين ، ولا تكرم الكوفيين من النحويين ـ يكون على أنحاء :

الأوّل : ما يكون الخاصّان فيه المخالفان للعام متّحدي الحكم كما في المثال.

النحو الثاني : ما يكون الخاصّان فيه مختلفي الحكم مع كونهما معاً مخالفين للعام في الحكم ، كأن يقول : يجب إكرام العلماء ويحرم إكرام النحويين ويكره إكرام الكوفيين من النحويين.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٤٣.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٣٠٢.

٧٣

والحكم فيه أنّ الأخير يخصّص كلاً ممّا فوقه ، وما يبقى للثاني يخصّص به الأوّل ، فيحكم بكراهة إكرام نحوي الكوفة ، وبحرمة إكرام النحوي غير الكوفي ، ووجوب إكرام باقي العلماء غير النحويين.

النحو الثالث : أن يكونا مختلفي الحكم مع كون أحدهما موافقاً للعام ، فإن كان الموافق له هو الأكبر منهما كان الأصغر مخصّصاً له وللعام ، مثل أن يقول : يجب إكرام العلماء ويجب إكرام النحويين ويحرم إكرام نحوي الكوفة ، وحينئذ يكون الحكم هو حرمة إكرام الكوفي من النحويين ، ووجوب إكرام من عداه من العلماء والنحويين.

وإن كان الموافق له هو الأصغر ، مثل أن يقول : يجب إكرام العلماء ويحرم إكرام النحويين ويجب إكرام الكوفي من النحويين ، كان اللازم جعل الأصغر مخصّصاً للأكبر والأكبر بما يبقى منه مخصّصاً للعام ، ويكون الحاصل أنّه يجب إكرام العلماء ما عدا غير الكوفي من النحويين.

وهذا النحو الثالث لا يتصوّر فيه انقلاب النسبة بكلا شقّيه ، وإنّما يتصوّر في النحو الأوّل والنحو الثاني ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا يخفى أنّه لو اتّفق لزوم التخصيص المستهجن في العام فهو إنّما يكون من ناحية أكبر الخاصّين ، أمّا الأصغر منهما فلا مانع من تخصيص العام به ، وحينئذ تنقلب النسبة بين العام والخاصّ الأكبر إلى العموم من وجه ، فيقدّم العام ، لأنّه لو قدّمنا عليه الخاصّ الأكبر لبقي العام على مورد نادر ، إلاّ أن يمنع من انقلاب النسبة ويدّعى بقاؤها على ما كانت عليه قبل تخصيصه بالخاصّ الأصغر من كونها ملحقة بالتباين ، وفيه تأمّل.

لا يقال : قد تقدّمت الاشارة إلى عدم إمكان التخصيص مع وجود

٧٤

المعارض.

لأنّا نقول : إنّ ذلك إنّما هو في الخاصّ الذي له معارض ، فإنّه مع وجود المعارض له لا يمكن أن يكون مخصّصاً للعام ، وما نحن فيه إنّما هو في العام الذي له معارض وله خاصّ ، فإنّ العام لا يمكن أن يكون معارضاً للعام الآخر إلاّ بعد تمامية دلالته المتوقّفة على عملية التخصيص.

والحاصل : أنّ الخاصّ لا يمكن أن يخصّص العام مع فرض وجود المعارض لذلك الخاصّ ، والعام لا يمكن أن يعارض مثله مع وجود الخاصّ ، بل لابدّ أوّلاً من إعمال التخصيص ثمّ بعد التخصيص ننظر النسبة بينه وبين معارضه فربما انقلبت إلى كونه أخصّ مطلقاً من معارضه ، كما لو قال : أكرم العلماء ، وقال : لا تكرم العلماء ، وكان في البين قوله : لا تكرم فسّاق العلماء ، فإنّه بعد تقديم الثالث على الأوّل وتخصيصه به يكون محصّل الأوّل أكرم العلماء العدول ، وهو أخصّ مطلقاً من قوله : لا تكرم العلماء ، فيقدّم عليه ، وربما انقلبت النسبة إلى العموم من وجه كما فيما نحن فيه ، وربما ارتفع التعارض كما لو كان بين الدليلين المتعارضين عموم من وجه ، وكان في البين خاصّ يخرج مورد الاجتماع عن أحدهما فقط ، بأن كان ذلك الخاصّ موافقاً للآخر ، أو يخرجه عن كليهما ، بأن كان ذلك الخاصّ مخالفاً لهما معاً ، أمّا إذا أخرج مورد انفراد أحدهما انقلبت النسبة بينهما من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، ويكون ذلك المخصَّص الذي أُخرج منه مورد الانفراد أخصّ مطلقاً من مقابله فيقدّم عليه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك في شرح موارد انقلاب النسبة (١)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٤٥ ، وأشار إليه المصنّف في الصفحة : ٩١ من هذا المجلّد.

٧٥

قوله : فقد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه ... الخ (١).

ظاهره أنّه ربما لا تنقلب النسبة إلى العموم من وجه ، لكن الظاهر أنّ الانقلاب المذكور متعيّن ، حيث إنّه بعد إخراج أخصّ الخاصيين من العام وتقييده بعدمه يتعيّن ذلك أعني العموم من وجه ، لأنّ للعام المقيّد مادّة ينفرد بها وهي ما عدا الخاصّين ، كما أنّ للخاص الأكبر مادّة ينفرد بها وهي مورد الخاصّ الأصغر ، ويجتمعان في ثالث وهو المورد الذي ينفرد به الخاصّ الأكبر عن الخاصّ الأصغر.

وبرهان ذلك : أنّ نقيض الأخصّ من شيء أعمّ من وجه من ذلك الشيء ، فإذا أُخذ نقيض ذلك الأخصّ من الشيء قيداً في الأعمّ من ذلك الشيء ، كان بين ذلك الشيء وبين الأعمّ منه المقيّد بنقيض الأخصّ منه عموم من وجه ، مثلاً الإنسان أخصّ من الحيوان والحيوان أخصّ من الجسم المطلق ، فإذا قيّد الجسم المطلق بغير الإنسان كان بين الجسم المقيّد بغير الإنسان وبين الحيوان عموم من وجه ، لاجتماعهما في الفرس فإنّها حيوان وجسم غير إنسان ، وينفرد الحيوان عن الجسم غير الإنسان في الإنسان ، فإنّه يصدق عليه أنّه حيوان ولا يصدق عليه أنّه جسم غير إنسان ، وينفرد الجسم غير الإنسان في الحجر لأنّه جسم غير إنسان وليس بحيوان.

قوله : وكما أنّ النسبة بين العام المتّصل به الأخصّ وبين الخاصّ الآخر تكون العموم من وجه ، كذلك تكون النسبة بين العام الفوق الذي لم يتّصل به الخاصّ لو كان وبين الخاصّ الآخر العموم من وجه ... الخ (٢).

فرض هذه المسألة هو ما لو قال : أكرم العلماء غير نحاة الكوفة ، وقال : لا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٤٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٤٤.

٧٦

تكرم النحاة ، وكان لنا عام فوق الجميع وهو قوله : أكرم العلماء ، فيكون ذلك نظير ما لو قال : جئني بأبيض ، وقال : لا تجئني بإنسان ، فإنّهما يتعارضان في الإنسان الأبيض لأنّه مورد الاجتماع ، وينفرد الأوّل في القرطاس ، وينفرد الثاني في الإنسان الأسود ، فلو كان لنا عام فوقهما وهو جئني بجسم ـ مثلاً ـ كان شاملاً لمورد الاجتماع ، ولا يمكن أن نخصّص هذا العام الفوق ونخرج منه مورد اجتماع الخاصّين ـ أعني الإنسان الأبيض ـ بشيء من ذينك الخاصّين ، أمّا قوله :

جئني بأبيض ، فلأنّه موافق للعام ، وأمّا قوله : لا تجئني بإنسان ، فلكونه مبتلى بالمعارض الذي هو جئني بأبيض ، وحينئذ لابدّ من بقاء مورد اجتماعهما تحت ذلك العام الفوق.

أمّا ما ينفرد فيه الأوّل منهما وهو القرطاس فهو باقٍ تحت العموم أيضاً ، لكون الأوّل موافقاً فيه لذلك العام الفوق.

وأمّا ما ينفرد فيه الخاصّ الثاني وهو الإنسان الأسود فيحكم بخروجه عن ذلك العام ، لكون الثاني أخصّ منه مع عدم المعارض للثاني فيه. والحكم بخروج الإنسان الأسود عن العام الفوق ـ أعني ائتني بجسم ـ وإن أوجب تقييد ذلك العام الفوق بغير الإنسان الأسود ، وكان محصّل ذلك العام الفوق ائتني بجسم غير الإنسان الأسود ، إلاّ أنّ ذلك لا يعقل أن يكون موجباً لانقلاب النسبة بينه وبين قوله : لا تأتني بإنسان ، إلى العموم من وجه ، لأنّ تخصيص العام الفوق إنّما جاء من قبله ، فبعد تخصيصه به لا يعقل انقلاب النسبة بينهما ، وإنّما يعقل ذلك فيما لو كان المخصّص لذلك العام الفوق دليلاً آخر غير هذا الدليل.

هذا هو الشأن في كلّ دليلين بينهما عموم من وجه وكانا مختلفين في الحكم ، وكان فوقهما دليل أعمّ منهما جميعاً ، وكان ذلك الأعمّ الفوق موافقاً

٧٧

لأحدهما في الحكم ومخالفاً للآخر ، ولا يمكن القول بأنّه بعد خروج ما ينفرد فيه الخاصّ الآخر المخالف للعام الفوق عن ذلك العام تنقلب النسبة بين ذلك العام الفوق وذلك الخاصّ المخالف له إلى العموم من وجه.

ولكن ما نحن فيه خارج عن هذه القاعدة لخصوصية فيه ، فإنّ قوله : أكرم العلماء غير نحاة الكوفة وإن كانت النسبة بينه وبين قوله : لا تكرم النحاة هي العموم من وجه ، فيجتمعان في نحاة البصرة ، وينفرد الأوّل في العالم غير النحوي ، وينفرد الثاني في نحاة الكوفة ، فلو ورد عام فوق الجميع وهو أكرم العلماء ، لم يكن ذلك العام الفوق شاملاً لما ينفرد فيه الثاني وهو نحاة الكوفة ، لأنّ كلاً من هذين العامين من وجه حاكم بعدم وجوب إكرامهم.

أمّا الثاني وهو قوله لا تكرم النحاة فواضح.

وأمّا الأوّل ، فلأنّ قوله أكرم العلماء غير نحاة الكوفة ينحلّ إلى حكمين : إيجابي وهو وجوب إكرام العلماء ، وسلبي وهو عدم وجوب إكرام نحاة الكوفة ، وبهذا الجزء السلبي يكون حاكماً بعدم وجوب إكرام نحاة الكوفة ، فيخرجون حينئذ عن قوله إكرام العلماء ، فصار خروجهم عن ذلك العام الفوق من قبيل القدر المتيقّن ، فكان ذلك الخروج المتيقّن كالقرينة المتّصلة بذلك العام الفوق ، وصار حال ذلك العام الفوق حال الدليل الأوّل أعني قوله أكرم العلماء غير نحاة الكوفة ، وتكون النسبة بينه وبين الدليل الثاني ـ أعني قوله : لا تكرم النحاة ـ هي العموم من وجه ، وحينئذ لا يمكن تحكيم ذلك العام الفوق في مورد الاجتماع أعني نحاة البصرة.

هذا غاية ما توفّقت له في تقريب ما أفاده قدس‌سره في توجيه انقلاب النسبة في هذا المقام.

٧٨

ولكن للتأمّل فيه مجال ، فإنّ النظر القاصر قاصر عن التصديق بأنّ توافق الدليلين المذكورين على عدم وجوب إكرام نحاة الكوفة من قبيل القرينة المتّصلة بذلك العام الفوق ، بحيث يكون حال هذا التوافق حال القرينة العقلية القطعية أو الإجماع القطعي الخارج عن هذين الدليلين اللفظيين ليلحق بالقرينة اللفظية المتّصلة ، بل هو لا يخرج عن كونه من قبيل قيام الدليل اللفظي المنفصل على عدم وجوب إكرام نحاة الكوفة.

فلا يكون حال ما نحن فيه من هذه الجهة ـ أعني جهة خروج نحاة الكوفة ـ إلاّ كحال المسألة السابقة فيما لو قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم النحاة ، الشامل لنحاة الكوفة والبصرة ، وورد مثل لا تكرم نحاة الكوفة الموجب لخروجهم عن قوله أكرم العلماء ، في عدم استلزامه لانقلاب النسبة بين ذلك العام وبين قوله لا تكرم النحاة من العموم المطلق إلى العموم من وجه.

فإنّ ما تضمّنه لفظ « غير » في الدليل الأوّل فيما نحن [ فيه ] أعني قوله : أكرم العلماء غير نحاة الكوفة ، لا يزيد على دليل منفصل يقول لا تكرم نحاة الكوفة ، في عدم إيجابه قلب النسبة بين ذلك العام الفوق وبين الدليل الثاني المخالف له القائل لا تكرم النحاة ، بل يبقى هذا الدليل الثاني على ما هو عليه من كونه أخصّ من العام الفوق ، غايته أنّه يخصّصه في أحد قسميه وهم نحاة الكوفة ، ولا يمكن أن يخصّصه في قسمه الآخر أعني نحاة البصرة ، لابتلائه في ذلك بالمعارض وهو الدليل الأوّل ، أعني قوله : أكرم العلماء غير نحاة الكوفة ، فلا يكون حال ما نحن فيه إلاّكحال ما قدّمنا مثاله ، أعني جئني بجسم وجئني بأبيض ولا تجئني بإنسان ، فتأمّل جيّداً.

٧٩

قال في تحرير السيّد ( سلّمه الله تعالى ) : ومن هنا يظهر أنّه لا فرق في انقلاب النسبة في فرض اتّصال المخصّص بالعام بين ما إذا كان هناك عام آخر غير متّصل به الخاصّ وبين عدمه ، ضرورة أنّ العام الآخر بعد وجود العام المخصّص بالمتّصل لا يكون حجّة في غير ما يكون العام المتّصل حجّة فيه ، فلا محالة يكون الظهور فيه منقلباً قبل ملاحظة التعارض بينه وبين المخصّص الآخر ، فلابدّ من ملاحظة التعارض بينه بعد التخصيص بالمتّصل وبين الخاصّ الآخر ، فتنقلب النسبة إلى العموم من وجه كما هو ظاهر.

وإن شئت قلت : إنّ نسبة المخصّص الغير المتّصل إلى العام الفوق وإن كان هو العموم والخصوص المطلق ، إلاّ أنّه لا يصلح لكونه مخصّصاً له ، فإنّ المفروض معارضته بالعموم من وجه مع العموم المتّصل به المخصّص ، والخاصّ المبتلى بالمعارض لا يصلح للتخصيص ، فيكون العام الفوق من أطراف المعارضة أيضاً (١).

ولا يخفى أنّ ما أفاده بقوله : وإن شئت قلت الخ ناقض لما أفاده أوّلاً من جعل العام المتّصل مخصّصاً للعام الفوق ، لأنّ الخاصّ الآخر المعارض للعام المتّصل بالخاص مانع من تخصيص العام الفوق به ، ثمّ بعد فرض المعارضة بين الخاصّين كيف يكون العام الفوق من أطراف المعارضة ، لأنّ مقتضى المعارضة بين الخاصّين هو تساقطهما والرجوع بعد التساقط إلى العام الفوق ، فلاحظ وتأمّل فإنّ العمدة هو كون ذلك العام المخصّص بالمتّصل منحلاً إلى جزأين إيجابي وسلبي ، فيتّحد هو والخاص الآخر في نفي حكم العام عن النحوي البصري كما

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٨٠