أقول : ويجاب أيضاً معارضةً ، بأن هذا الدليل كما يدل على امتناع العلم بالمعارف الأصولية ، يدل على امتناع التقليد فيها أيضاً ، فينسد باب المعرفة بالله تعالى ، وكل من يرجع إليه في التقليد لا بد وأن يكون عالماً بالمسائل الأصولية ليصح تقليده ، ثم يجرى الدليل فيه فيقال : علم هذا الشخص بالله تعالى غير ممكن ، لأنه حين كلف به إن لم يكن عالماً به تعالى استحال أن يكون عالماً بأمره بالمقدمات ، وكل ما أجابوا به فهو جوابنا ، ولا مخلص لهم إلا أن يعترفوا بأن وجوب المعرفة عقلي ، فيبطل ما ادعوه من أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، أو سمعي فكذلك .
فإن قيل : ربما حصل العلم لبعض الناس بتصفية النفس أو إلهام إلى غير ذلك فيقلده الباقون .
قلنا : هذا أيضاً يبطل قولكم أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، نعم ما ذكروه يصلح أن يكون دليلاً على امتناع المعرفة بالسمع ، فيكون حجة على الأشاعرة ، لا دليلاً على وجوب التقليد .
واحتجوا أيضاً بأن النهي عن النظر قد ورد في قوله تعالى : مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا . والنظر يفتح باب الجدال فيحرم . ولأنه صلىاللهعليهوآله رأى الصحابة يتكلمون في مسألة القدر ، فنهى عن الكلام فيها وقال : إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم هذا ، ولقوله عليهالسلام : عليكم بدين العجائز ، والمراد ترك النظر ، فلو كان واجباً لم يكن منهياً عنه .
وأجيب عن الأول : إن المراد الجدال بالباطل ، كما في قوله تعالى : وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ، لا الجدال بالحق لقوله تعالى : وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، والأمر بذلك يدل على أن الجدال مطلقاً ليس منهياً عنه .
وعن الثاني : بأن نهيهم عن الكلام في مسألة القدر على تقدير تسليمه لا يدل على النهي عن مطلق النظر ، بل عنه في مسألة القدر ، كيف وقد ورد الإنكار على تارك النظر في قوله تعالى : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ ، وقد أثنى على فاعله في قوله تعالى : وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .