وفي مقامنا وإن كان يوجد لفظ موضوع لمعنى يقبل التقييد والإطلاق ـ لأنّ لفظ الأمر مادّة وهيئة يدلّ على الطلب والإرادة وهي تنقسم إلى الإرادة الشديدة الوجوبيّة وإلى الإرادة الضعيفة الاستحبابيّة ـ إلا أنّ اختلاف الحدّين والتعريفين ليس من الأمور التي يلتفت إليها العرف ويدركها ، بل اختلاف الحدّين من الأمور العقليّة البالغة الدقّة التي لا تدرك إلا بالتحليل والتدقيق ؛ لأنّ كون الإرادة الشديدة الوجوبيّة من سنخ الإرادة ، وكون الإرادة الضعيفة الاستحبابيّة ليست من سنخها لا يمكن فهمها عرفا ، بل تحتاج إلى التأمّل والتدقيق العقلي البالغ.
وهذا معناه أنّ العرف لا يرى فرقا بين الوجوب والاستحباب في كونهما إرادة ؛ لأنّ فارق الوجوب عن الاستحباب أمر عقلي بالغ الدقّة ، فهو ليس موجودا بنظر العرف والبناء العقلائي ، ولذلك كان لا بدّ من دليل على إرادة الوجوب ، كما أنّه لا بدّ من دليل على إرادة الاستحباب عند العرف.
ثمّ لو سلّمنا بكون الوجوب لا يحتاج إلى بيان زائد ، فمع ذلك نقول : إنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات الوجوب ؛ لأنّ مقدّمات الحكمة كما قلنا ظهور عرفي سياقي لحال المتكلّم ، والوجوب والاستحباب بهذين الحدّين ليسا من الظهورات العرفيّة ، بل هما من التحليلات العقليّة. فلا يؤثّر هذا الإطلاق في تعيين أحدهما ونفي الآخر ؛ وذلك لأنّ المرتكز المبني عليه الإطلاق هو العرف بينما الكلام هنا في الأمور العقليّة الدقيقة جدّا (١).
__________________
(١) والمحقّق العراقي كأنّه التفت إلى هذا الإشكال :
فأجاب عنه بأنّ هذين الحدّين وإن كانا من الأمور العقليّة إلا أنّهما مرتكزان عند العرف ، بحيث إنّ العقلاء لو التفتوا إلى ذلك لم ينكروا ، فهما من المرتكزات العقلائيّة التي تحتاج إلى التحليل والدقّة ليتمّ الالتفات ، ولكن الغفلة عنهما وعدم الالتفات الفعلي إليهما لا يضرّ في تعقّل العرف والعقلاء لهما لو التفتوا إليهما.
وجوابه : أنّ العرف لا يلتفت إلى هذا الفارق ولو إجمالا وارتكازا ، بل هذا الفارق يحتاج إلى الخواصّ من أهل التدقيق والتحقيق. فحال الحدّين لا يدركهما حتى بعد التحليل إلا القليل من العلماء ، فهما ليسا من الأمور العرفيّة ولو ارتكازا.
وبالجملة يضاف إلى ذلك : أنّ مفهوم الإرادة كلّي مشكّك لا ينطبق على أفراده بالتساوي ، بل بالتفاوت. وهذا يعني أنّ الوجوب والاستحباب أي الإرادة الشديدة والإرادة الضعيفة ..