العلماء ، بل هو من أول شروط النبوغ في العلم ، وهو الذي يصقل النفس فيظهر جوهرها الحقيقي ـ فكان صاحبنا قد تشتد به الفاقة فيعجز عن تدبير ثمن السراج الذي لا يتجاوز في عصره عن ان يكون من زيت أو شمع ، فيدعوه حرصه على العلم الى الدخول في بيوت مراحيض المدرسة ، ليطالع على سراجها ، ولكنه تأبى عزته ان يدع غيره يشعر بما هو فيه ، فيوهم الداخلين ـ بالتنحنح ـ انه جالس للحاجة الخاصة. وتتجلى في هذه الحادثة الصغيرة عزة نفسه وقوة إرادته وصبره على طلب العلم بدرجة غير اعتيادية إلا للنوابغ الافذاذ.
( الحادثة الثانية ) ـ ان أحد الكسبة الذي كان حانوته في طريق المدرسة بكاشان التي كان يسكنها هذا الطالب النراقي ، ان هذا الكاسب المؤمن لاحظ على هذا الطالب انه رث الثياب ، وكان معجبا به ، اذ كان يشتري منه بعض الحاجيات كسائر الطلاب ، فرأى ان يكسيه تقربا الى الله ، فهيأ له ملبوسا يليق بشأنه ، وقدمه له عند ما اجتاز عليه ، فقبله بالحاح. ولكن هذا الطالب الأبي في اليوم الثاني رجع الى رفيقه الكاسب وارجع له هذا الملبوس قائلا : اني لمّا لبسته لاحظت على نفسي ضعة لا اطيقها ، لا سيما حينما اجتاز عليك ، فلم اجد نفسي تتحمل هذا الشعور المؤلم ، وألقاه عليه ومضى معتزا بكرامته.
( الحادثة الثالثة ) ـ فيما ينقل عنه أيضا ـ وهي أهم من الأولى والثانية ـ انه كان لا يفض الكتب الواردة إليه ، بل يطرحها تحت فراشه مختومة ، لئلا يقرأ فيها ما يشغل باله عن طلب العلم. والصبر على هذا الامر يتطلب قوة إرادة عظيمة ليست اعتيادية لسائر البشر. ويتفق ان يقتل والده ( ابو ذر ) المقيم في نراق وطنه الاصلي ، وهو يومئذ في اصفهان ، يحضر على استاذه الجليل المولى اسماعيل الخاجوئي ، فكتبوا إليه من هناك بالنبإ ليحضر الى نراق ، لتصفية التركة وقسمة المواريث وشئون اخرى ، ولكنه على عادته لم يفض هذا الكتاب ، ولم يعلم بكل ما جرى. ولما طالت المدة على من في نراق ، كتبوا له مرة اخرى ، ولكن لم يجبهم أيضا. ولما يئسوا منه كتبوا بالواقعة الى استاذه المذكور ليخبره بالنبإ ويحمله على المجيء. والاستاذ في دوره ـ على عادة الناس ـ خشي أن يفاجئه بالنبإ ، وعند ما حضر مجلس درسه أظهر له ـ تمهيدا لاخباره ـ الحزن والكآبة ، ثم ذكر له : ان والده مجروح ، ورجح له الذهاب الى بلاده. ولكن هذا الولد الصلب القوى الشكيمة لم تلن قناته ، ولم يزد الا أن دعا لوالده بالعافية ، طالبا من استاذه أن يعفيه من الذهاب. وعندئذ اضطر الاستاذ الى ان يصرح له بالواقع ، ولكن الولد أيضا لم يعبأ بالامر ، واصر على البقاء لتحصيل العلم. إلا ان الاستاذ هذه المرة لم يجد بدأ من أن يفرض عليه السفر ، فسافر امتثالا لامره المطاع ، ولم يمكث في نراق اكثر من ثلاثة ايام ، على بعد الشقة وزيادة المشقة ، ثم رجع الى دار هجرته. وهذه الحادثة لها مغزاها العميق في فهم نفسية هذا العالم الإلهي ، وتدل على استهانته بالمال وجميع