ويحكم عدلا يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من فيه ، يستوحش من الدنيا وزهراتها ، ويستأنس بحنادس الليالي وظلماتها ، وكان والله غزير الدمعة ، كثير الفكرة ، يقلّب كفّه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما غلظ وقصر ، ومن الطعام ما خشن ، كان والله كأحدنا وأفضل ، يجيبنا إذا سألناه ، ويبتدئنا إذا استحييناه ، ويعظّم الدين ، ويحبّ المساكين ، لا يطمع القويّ في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فاشهد بالله لقد أتيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، واشتبكت نجومه ، وقد مثل في محرابه قائما ، قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، وكأنّي أسمعه وهو يقول : يا دنيا إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت ، هيهات هيهات ، غرّي غيري ، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة عليك ، لأنّ عمرك قصير ، وشأنك حقير ، وخطرك يسير ، وحسابك كثير ، ثم بدا واجدا باكيا قائلا : آه من قلّة الزاد ، وبعد السفر ، وخشونة الطريق.
قال ضرار : فبكى معاوية حتى ابتلت لحيته من دموعه بما يملكها وهو يشهق حتى انتحب الحاضرون بالبكاء ، وقال معاوية : رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟
قال : حزن والدة ذبح ولدها في حجرها ، فما ترقى عبرتها ، ولا تسكن حرارتها (١).
حدّث جابر الجعفي ، عن أبي جعفر محمّد بن علي عليهالسلام ، قال : خطب أمير المؤمنين عليهالسلام بالكوفة عند منصرفه من النهروان وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه ، فقام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذكر ما أنعم الله عزّ وجلّ على نبيّه وعليه. ثمّ قال : لو لا آية في كتاب الله ما ذكرت ما أنا ذاكر في مقامي هذا ، يقول الله عزّ وجلّ : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (٢) اللهمّ لك الحمد على نعمك التي لا تحصى ، وفضلك الذي لا ينسى.
__________________
(١) لم نقف على مصدره بالسند والمتن المذكورين ، وقد ورد بعض عباراته في نهج البلاغة : ص ٤٨٠ ، قصار الحكم : ٧٧. ورواه الصدوق مسندا عن أصبغ بن نباته باختلاف في المتن ، راجع الأمالي : ٤٩٩ ، المجلس ٩١ ، ح ٦.
(٢) الضحى : ١١.