فى نشأة البيان. والشريف الرضى فى القرن الرابع الهجري يرخى الطّول لحبل البيان ، ويمزج فى ذلك بين التطور البلاغى الذي صار إليه الأمر فى عصره ، وبين ذوقه الأدبى الخاص الذي انحدر إليه من ميراث آبائه الكرام ، والذي صار إليه من طبيعته الأدبية الشعرية الخاصة. فإذا بلغنا القرن الخامس رأينا الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١ ه والذي جمع فى البلاغة بين العلم والعمل ، فكان بجانب نظرياته وقوانينه البلاغية التي وضعها ، أديبا عمليا بليغا يختلف عن المتأخرين بعده من البلاغيين الذي سلكوا بالبيان العربي مسلك العلوم النظرية الجافة ، فأحالوا البلاغة العربية إلى ألغاز وأحاج ومعميات ، بعد أن كانت عند رجل ـ كالشريف الرضى ـ تطبيقا عمليا رائعا للبيان العربي الناصع المشرق الملامح ، الواضح القسمات.
ولن ننسى هنا موازنة ثانية بين ابن قتيبة والشريف الرضى فى بيان المجاز فى قوله تعالى فى سورة ق : ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ ، وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ قال ابن قتيبة : [ وليس يومئذ قول منه لجهنم ، ولا قول من جهنم. وإنما هى عبارة عن سعتها (١) ] ولم يزد ابن قتيبة على هذا كلمة واحدة ، مع أنه ساق هذه الآية فى باب المجاز المغاير للحقيقة. أما الشريف الرضى فإنه قال فى هذه الآية : [ وهذه استعارة. لأن الخطاب للنار والجواب منها فى الحقيقة لا يصحان. وإنما المراد ـ والله أعلم ـ أنها فيما ظهر من امتلائها ، وبان من اغتصاصها بأهلها ، بمنزلة الناطقة بأنه لا مزيد فيها ، ولا سعة عندها ، وذلك كقول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطنى |
|
مهلا رويدا ! قد ملأت بطني ! |
__________________
(١) تأويل مشكل القرآن ، لابن قتيبة ص ٧٩.