فإذا انتقلنا إلى الشريف الرضى ـ فى القرن الرابع الهجري ـ وجدناه يفيض فى الشرح ، ويتوسع فى التأويل بما لا يكشف عنه إلا الموازنة بين هؤلاء الثلاثة فى مواضع متحدة ، وآيات بعينها من كتاب الله.
فأبو عبيدة يقول فى تأويل قوله تعالى : ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ﴾ من سورة الإسراء : [ مجازه فى موضع قولهم : لا تمسك عما ينبغى لك أن تبذل من الحق ، وهو مثل وتشبيه ] على حين أن الشريف الرضى يقول فى مجاز هذه الآية : [ وهذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هى الجارحة على الحقيقة ، وإنما الكلام الأول كناية عن التقتير ، والكلام الآخر كناية عن التبذير. وكلاهما مذموم ، حتى يقف كل منهما عند حده ، ولا يجرى إلا إلى أمده ، وقد فسر هذا قوله سبحانه : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾] .
وأبو عبيدة يقول فى تأويل قوله تعالى : ﴿ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ : [ الخيط الأبيض هو الصبح المصدق ، والخيط الأسود هو الليل ، والخيط هو اللون ] (١) ثم لا يزيد على هذا كلمة واحدة فى تفسير هذه الآية ، على حين أن الشريف الرضى يقول فى بيان مجازها : [ وهذه استعارة عجيبة. والمراد بها على أحد التأويلات : حتى يتبين بياض الصبح من سواد الليل ، والخيطان هاهنا مجاز ، وإنما شبها بذلك لأن خيط الصبح يكون فى أول طلوعه مستدقا خافيا ، ويكون سواد الليل منقضيا موليا ، فهما جميعا ضعيفان ، إلا أن هذا يزداد انتشارا ، وهذا يزداد استسرارا ] فهل ترك الشريف الرضى ـ رضى الله عنه ـ بهذا الشرح اللطيف ، والبيان الدقيق ، والبلاغة
__________________
(١) مجاز القرآن ، لأبى عبيدة ص ٦٨.