وقوله سبحانه : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [٢٤] . وهذه استعارة عجيبة ، وعبارة شريفة. والمراد بذلك : الإخبات للوالدين ، وإلانة القول لهما ، والرفق واللطف بهما.
وخفض الجناح فى كلامهم عبارة عن الخضوع والتذلل ، وهما ضد العلو والتعزز. إذ كان الطائر إنما يخفض جناحه إذا ترك الطيران ، والطيران هو العلوّ والارتفاع. وقد يستعار ذلك لفرط الغضب والاستشاطة (١) . فيقال : قد طار فلان طيرة (٢) . إذا غضب واستشاط. وقد أومأنا إلى هذا المعنى فيما تقدم من هذا الكتاب.
وإنما قال سبحانه : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [٢٤] . ليبين تعالى أن سبب الذل لهما الرأفة والرحمة ، لئلا يقدر أنه الهوان والضراعة. وهذا من الأغراض الشريفة ، والأسرار اللطيفة.
وقوله سبحانه : ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ، وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾ [٢٩] وهذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هى الجارحة على الحقيقة ، وإنما الكلام الأول كناية عن التقتير ، والكلام الآخر كناية عن التبذير وكلاهما مذموم ، حتى يقف كل منهما عند حده ، ولا يجرى إلا إلى أمده. وقد فسّر هذا قوله سبحانه : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ، وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾ (٣) .
__________________
(١) فى الأصل « الاستشاط » وهو تحريف من الناسخ. لأن الفعل استشاط ، والمصدر استشاطة. مثل استقام استقامة.
(٢) فى الأصل « طيره » بالهاء وهو تحريف. والصواب بالتاء المربوطة المنقوطة.
(٣) سورة الفرقان. الآية رقم ٦٧.