ثمّ لمّا كان التدبّر في القرآن شفاء لما في الصدور من مرض الكفر والشكّ والنفاق ، وبّخ سبحانه المنافقين والكفّار على ترك تداوي أمراضهم بالتدبّر فيه بقوله : ﴿أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ قيل : إنّ التقدير ألا يلاحظون القرآن فلا يتصفحون ما فيه من المواعظ والعبر والزواجر حتى تشفى أمراضهم ، ولا يقعوا في المعاصي الموبقة (١) ، لكونهم ملعونين مبعدين من كلّ خير.
وعن الصادق عليهالسلام : « فيقضوا ما عليهم من الحق » (٢) .
﴿أَمْ﴾ يتدبّرون ويتفكّرون فيه ، ولكن ﴿عَلى قُلُوبٍ﴾ قاسية ﴿أَقْفالُها﴾ الخاصة بها ، وهي أقفال اللّجاج والعناد والعصبية ، فلا تدخل فيها معانية.
قيل : إن تنكير القلوب لإفادة البعض (٣) ، أو للتنبيه على أنّ القلوب لعدم استفادتهم بها كأنّها ليست لهم (٤) ولا صاحب لها ، أو لتهويل حالها ، وتفظيع شأنها في الفساد ، والجهالة بابهامها ، كأنّه قيل : على قلوب منكرة لا يعرف حالها ولا يقادر قدرها في القسوة (٥) .
عن الصادق عليهالسلام : أنّ لك قلبا ومسامع ، وإن أراد الله أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإن أراد غير ذلك ختم مسامع قلبه ، فلا يصلح أبدا ، وهو قول الله عزوجل : ﴿أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾(٦).
﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٥) و (٢٦)﴾
ثمّ بيّن سبحانه غاية ضلال المنافقين والمصرّين على الكفر من أهل الكتاب بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا﴾ ورجعوا ﴿عَلى أَدْبارِهِمْ﴾ وكفرهم السابق الذي كانوا عليه ، وأصرّوا عليه ﴿مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ﴾ ووضح ﴿لَهُمُ الْهُدَى﴾ وطريق الحقّ ، وهو نبوة محمد صلىاللهعليهوآله ، وصحّة دين الاسلام بالدلائل والمعجزات ، ورؤية نعت محمد صلىاللهعليهوآلهفي التوراة وسائر الكتب السماوية.
﴿الشَّيْطانُ﴾ المغوي ﴿سَوَّلَ﴾ وسهّل ﴿لَهُمُ﴾ مخالفة الحقّ ، وزيّن لهم ارتكاب العظائم ﴿وَأَمْلى﴾ وأمدّ ﴿لَهُمُ﴾ في الأماني بأن يقولوا نعيش أياما ، ونؤمن به بعد نيلنا بمقاصدنا الدنيوية. وقيل : يعني أملى الله لهم وأمهلهم ، فلم يعاجلهم بالعقوبة (٧)﴿ذلِكَ﴾ الارتداد والتسويل ، أو الإملاء
__________________
(١) تفسير روح البيان ٨ : ٥١٨.
(٢) مجمع البيان ٩ : ١٥٨ ، وتفسير الصافي ٥ : ٢٨ ، عن الصادق والكاظم عليهماالسلام.
(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٦٥.
(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ٦٦.
(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٥١٨.
(٦) المحاسن : ٢٠٠ / ٣٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٨.
(٧) تفسير أبي السعود ٨ : ٩٩ ، تفسير روح البيان ٨ : ٥١٩.