قبل الله ﴿بِأَهْدى﴾ وأرشد إلى الحقّ ﴿مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ﴾ من الدين ؟ على فرض كونه هداية ورشادا ، مع أنّه ليس كذلك ﴿قالُوا﴾ عنادا ولجاجا وتعصّبا : يا أيها الرسل ﴿إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ من التوحيد ﴿كافِرُونَ﴾ ومنكرون ، وإن كان أهدى وأرشد ممّا وجدنا عليه آباءنا.
﴿فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٥) و (٢٨)﴾
فلمّا أعلنوا بالتعصّب والإصرار على دينهم ، وتبعية آبائهم ، وبارزوا الرسل بالتكذيب والاستهزاء ، ويأس الرسل من إيمانهم ﴿فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ﴾ باستئصالهم بالعذاب ، وأهلكناهم بأفظع الهلاك ﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمّد ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ أمر الأمم ﴿الْمُكَذِّبِينَ﴾ لرسلهم ، وإلى ما صار مآلهم ، فلا تكترث بتكذيب قومك ، فانّ الله سينتقم منهم كما أنتقم من الامم المكذّبة لرسلهم.
ثمّ حكى سبحانه قصّة دعوة إبراهيم الذي كان يفتخر العرب بانتسابهم إليه ، وأنّه تبرّأ من التقليد ، وتمسّك في دينه بالبرهان ، مع كونه أعقل الناس وأعظمهم شانا ، وأمتنهم رأيا ، وأصوبهم طريقة في اعتقاد الكلّ بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ﴾ قيل : إنّ التقدير واذكر يا محمد لقومك وقتا (١) قال ﴿إِبْراهِيمُ﴾ الذي يجب عليكم أيّها العرب اتّباعه ، دعوة إلى التوحيد ، وتنفيرا من الشرك ﴿لِأَبِيهِ﴾ آذر ﴿وَقَوْمِهِ﴾ الذين كانوا يعبدون الكواكب والأصنام تقليدا لأبائهم : يا قوم ﴿إِنَّنِي بَراءٌ﴾ ومنزجر قلبا ( من ) عبادة جميع ما ﴿تَعْبُدُونَ﴾ من الكواكب والأصنام وغيرها ، فلا أعبد شيئا ﴿إِلَّا﴾ الله ، لأنّه ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وبدأ خلقي من غير مثال.
قيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى أنّي بري من عبادة الأصنام ، لكن الذي خلقني لا أبرأ من عبادته (٢)﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ ويرشدني إلى معالم دينه ، وكيفية عبادته وطاعته ، ودرجات قربه ، وعليه يكون السين للتأكيد ، وقيل : إنّه للتسويف ، والمعنى سيثبّتني على الهداية ، وسيهديني إلى ما وراء الذي هداني إليه إلى الآن (٣) .
وقيل : إنّ في قوله في سورة الشعراء : ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾(٤) وقوله هنا : ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ دلالة على استمرار الهداية في الحال والاستقبال (٥) .
__________________
(١و٢) تفسير روح البيان ٨ : ٣٦٣.
(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ٣٧١ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٤٤ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٦٣.
(٤) الشعراء ٢٦ : ٧٨.
(٥) تفسير الرازي ٢٧ : ٢٠٨.