ويتوقّى ﴿بِوَجْهِهِ﴾ الذي هو أشرف أعضائه ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾ وشديدة ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ لعجزه عن الاتقاء بغيره ، مع أنّ سائر الأعضاء تكون وقاية له ، كمن هو آمن من العذاب في ذلك اليوم ، ولا يعتريه مكروه حتى يحتاج إلى الأتقاء ﴿وَقِيلَ﴾ بعد وقوعهم في النار من جهة خزنة جهنم ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ الذين ضيّعوا حقوق الله ، وكفروا نعمه ، ووضعوا الكفر موضع الايمان ، وتكذيب الرسول موضع تصديقه ، والعصيان موضع الطاعة : أيّها الظالمون ﴿ذُوقُوا﴾ وأطعموا طعم ﴿ما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَكْسِبُونَ﴾ وتحصلون لأنفسكم من العذاب بالكفر والعصيان.
ثمّ استشهد سبحانه على شدّة سخطه وعذابه على الظالمين المكذبين للرسل في الآخرة بانزال العذاب على كثير منهم في الدنيا بقوله : ﴿كَذَّبَ﴾ كثير من الامم ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ رسلهم ﴿فَأَتاهُمُ﴾ ونزل عليهم ﴿الْعَذابُ﴾ المقدّر لكلّ امّة منهم بتكذيبهم ﴿مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ ومن الجهة التي لا يحتسبون ولا يتوهّمون نزول العذاب منها ، وكانوا آمنين. قيل : أشدّ العذاب ما يكون غير متوقع (١) وقيل : يعني لا يعرفون له مدفعا ولا مرّدا (٢) ﴿فَأَذاقَهُمُ اللهُ﴾ مع عذاب الاستئصال ﴿الْخِزْيَ﴾ والذّلّ والصّغار ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ كالمسخ بصورة القردة والخنازير ، والغرق والخسف ، والسبي والإجلاء ، ونحوها من فنون النّكال ، وهو العذاب الأدنى لهم ﴿وَ﴾ والله ﴿لَعَذابُ الْآخِرَةِ﴾ بالنار المعدّ لهم ﴿أَكْبَرُ﴾ وأشدّ من العذاب الدنيوي كما وكيفا مدة ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ كبره وشدّته لما تجرّءوا وما عصوا الله ورسوله ، وخلّصوا أنفسهم منه بالايمان والتوبة والقيام بالطاعة.
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيًّا
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٧) و (٢٨)﴾
ثمّ لمّا بيّن سبحانه ما يوجب الاتعاظ من هوان الدنيا ، وكون الهداية إلى الحقّ بانشراح وتنوّر القلب ، وغير ذلك من المطالب العالية ، والإبلاغ في التخويف والترهيب ، بيّن سبحانه أنّ القرآن في المواعظ والعبر وسائر ما يحتاج إليه الناس من العلوم بالغ حدّ الكمال بقوله : ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا﴾ وبيّنا ﴿لِلنَّاسِ﴾ عموما ولأهل مكة خصوصا ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾ الذي أنزلناه ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ ومطلب نافع هو في الحسن وكثرة النفع والغرابة كالمثل ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ وينبّهون لما هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم ، ويتّعظون به.
ثمّ مدح القرآن الجامع لجميع المطالب المهمّة النافعة بقوله : ﴿قُرْآناً﴾ متصفا بكونه ﴿عَرَبِيًّا﴾
__________________
(١و٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٠١.