وصية ابن الحواس الحبر الذكيّ الذي قدم عليكم من الشام فقال : تركت الخمر والخنزير (١) ، وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبيّ يبعث ، مخرجه مكّة ، ومهاجره هذه البحيرة ، يجتزئ بالكسيرات والتميرات ، ويركب الحمار العريّ ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، يضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لاقى منكم ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر ؟ » فقال : قد كان ذلك يا محمد ، ولو لا أنّ اليهود يعيّروني أنّي جزعت عند القتل لآمنت بك ، ولكنّي على دين اليهودية أحيى عليه وأموت. فأمر صلىاللهعليهوآله فقدّموه وضربوا عنقه.
ثمّ قدّم حيي بن أخطب ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآله « كيف رأيت صنع الله يا فاسق ؟ ». فقال : والله يا محمد ما ألوم نفسي في عداوتك ، ولقد قلقلت كلّ مقلقل ، وجهدت كلّ الجهد ، ولكن من يخذله الله يخذل ، فقدّم فضرب عنقه ، فقلتهم النبي صلىاللهعليهوآله في البردين : الغداة والعشيّ ، في ثلاثة أيام.
ثمّ بعث صلىاللهعليهوآله سعد بن زيد الأنصاري بسباياهم إلى نجد ، فابتاع بهم خيلا وسلاحا ، فقسّمها بين المسلمين ، ونهى أن يفرّق بين الوالده وولدها حتى يبلغ ، واصطفى لنفسه منهم ريحانة بنت شمعون وأسلمت ، فأعتقها وتزوّج بها ، وكانت هذه الوقعة سنة خمس من الهجرة (٢).
﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ
الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٨) و (٢٩)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وظيفة النبي صلىاللهعليهوآله في مقام عبوديته ، وهي التقوى واتّباع الوحي ، وبيان سلطنته المطلقة على أنفس المؤمنين وأموالهم ، وجلالة شأن نسائه ، وألطافة الخاصة بالمؤمنين به ، بيّن وظيفته في المداراة مع أزواجه بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُ﴾ العظيم الشأن ، والمخبر الصادق عن الله الملك المنّان ﴿قُلْ لِأَزْواجِكَ﴾ ونسائك اللاتي يكنّ الآن في حبالتك ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ﴾ السّعة والتنعّم فيها ، وتردن ﴿زِينَتَها﴾ من الثياب الفاخرة والحلّي والحلل ﴿فَتَعالَيْنَ﴾ واقبلن إلي ﴿أُمَتِّعْكُنَ﴾ واعطكنّ من مالي ما تنتفعن به ﴿وَأُسَرِّحْكُنَ﴾ وارسلكنّ إلى بيوتكنّ وقبائلكنّ ﴿سَراحاً جَمِيلاً﴾ وإرسالا لا ضرار فيه ولا تنازع ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ وتطلبن قربهما ورضاهما ﴿وَالدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ ونعمها التي لا تعدّ الدنيا وما فيها عندها بشيء ﴿فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ﴾ وهيّأ
__________________
(١) في النسخة : الحمر والحمير.
(٢) تفسير روح البيان ٧ : ١٦٢ ، تفسير القمي ٢ : ١٨٩ ، تفسير الصافي ٤ : ١٨٢.