رسول الله ، لا عليك أن لا تدنوا من هؤلاء الأخابيث قال : « لعلّك سمعت منهم لي أذى ؟ » قال : نعم. قال : « إنهم لو رأوني لأذلّهم الله » (١) فلمّا دنا من حصونهم قال : « يا إخوان القردة والخنازير ، وعبدة الطاغوت ، أتشتمونني أنا ، إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباحهم » فجعلوا يحلفون أنّهم لم يقولوا شيئا ، وأشرف عليهم كعب من الحصن فقال : والله يا أبا القاسم ما كنت جهولا ، أو قال : ما كنت فحّاشا. فاستحيى رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى سقط الرداء من ظهره حياء ممّا قال.
وكان حول الحصن نخل كثير ، فأشار إليه رسول الله صلىاللهعليهوآله بيده ، فتباعد عنه ، وتفرّق في المفازة ، فأنزل رسول الله صلىاللهعليهوآله العسكر حول حصنهم ، فحاصرهم ثلاثة أيام لم يطلع أحد منهم رأسه ، فلمّا كان ثلاثة أيام نزل عليه غزال بن شموئل (٢) فقال : يا محمد ، تعطينا ما أعطيت إخواننا من بني النضير ، احقن دمائنا ونخلّي لك البلاد وما فيها ، ولا نكتمك شيئا ؟» فقال : لا ، « أو تنزلون على حكمي » فرجع. وبقوا خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرّعب ، وبكت النساء والصبيان ، وجزعوا جزعا شديدا ، فقال كبيرهم كعب بن أسد : يا معشر اليهود ، نبايع هذا الرجل ونصدّقه ، فو الله لقد تبيّن لكم أنّه النبيّ الذي تجدونه في كتابكم ، وأنّ المدينة دار هجرته ، وما منعنا من الدخول معه إلّا الحسد للعرب ، حيث إنّه لم يكن من بني إسرائيل ، ولقد كنت كارها من نقض العهد ، ولم يكن البلاء والشؤم إلّا من هذا الجالس - وأشار إلى حييّ بن أخطب - فقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره - أي القرآن -.
فقال : فان أبيتم عليّ هذه الخصلة ، فهلمّوا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثمّ نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف حتى لا نترك وراءنا نسلا يخشى عليه إن هلكنا. فقالوا : كيف نقتل هؤلاء المساكين ، فلا خير في العيش بعدهم إن لم نهلك.
فقال : فإن أبيتم فانّ الليلة ليلة السبت ، وإنّ محمدا وأصحابه قد أمنوا فيها ، فانزلوا لعلّنا نصيب منهم غفلة. فقالوا : كيف نفسد سبتنا ، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا.
فقال لهم عمرو بن سعدي : فان أبتيهم فاثبتوا على اليهودية ، وأعطوا الجزية. فقالوا : نحن لا نقرّ للعرب بخراج في رقابنا ، فانّ القتل خير من ذلك.
فلمّا اشتدّ عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأمر بالرجال فكتّفوا ، وكانوا سبعمائة ، وأمر بالنساء فعزلن ، فقامت الأوس إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالوا : يا رسول الله ، حلفاؤنا وموالينا من دون
__________________
(١) في تفسير روح البيان : رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا.
(٢) في تفسير القي : غزال بن شمول.