ثمّ لمّا كان من وسائل النّيل إلى المقصود للبعد عنه المشي والصوت ، أردف ذكر الأدب في المشي بذكر الأدب في الصوت بقوله : ﴿وَاغْضُضْ﴾ وانقص ﴿مِنْ صَوْتِكَ﴾ في التكلّم والتخاطب ، فانّ رفع الصوت ليس فيه فضيلة ، بل هو ممّا ينكره الطبع ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ﴾ وأقبحها وأوحشها والله ﴿لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ عند أغلب الناس سيما العرب ، قيل : إنّ المشركين كانوا يفتخرون برفع الصوت ، فردّهم الله بتشبيه الصوت الرفيع بصوت الحمار مبالغة في الذمّ. قيل : إنّ صوت كلّ حيوان تسبيح إلّا صوت الحمير ، فانّها تصيح لرؤية الشيطان »(١) . وفي الحديث : « إذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذّوا بالله من الشيطان ، فانّها رأت شيطانا » (٢) وإنّما حكى سبحانه تلك الوصايا من لقمان لشيوع الشّرك وما يليه من الصفات القبيحة المنهيّ عنها في العرب (٣) .
﴿أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ
نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا
كِتابٍ مُنِيرٍ * وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ
آباءَنا أَ وَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢٠) و (٢١)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على توحيده بخلق السماوات بغير عمد ، وببعض نعمه كانزال المطر وإلقاء الجبال في الأرض وإنبات النباتات النافعة ، عاد إلى الاستدلال عليه بتسخير ما في السماوات والأرض وعموم نعمه بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَوْا﴾ ولم تعلموا يا بني آدم ﴿أَنَّ اللهَ﴾ بقدرته ﴿سَخَّرَ﴾ وساق بالقهر إلى المنافع التي تكون ﴿لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ﴾ من الملائكة والكواكب ، وجعلها مدبّرات العالم السفلي من الزمانيّ كالفصول الأربعة والليل والنهار والشهور ، ومن الجسماني كالمعادن والنباتات وغيرهما ﴿وَما فِي الْأَرْضِ﴾ كالجبال والأنهار والبحار وغيرها بأن مكّنكم من الانتفاع بها بواسطة وبلا واسطة ﴿وَأَسْبَغَ﴾ وأكمل ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بلطفه ﴿نِعَمَهُ﴾ والامور النافعة في حياتكم وتربيتكم وكمالكم كانت ﴿ظاهِرَةً﴾ ومحسوسة كحسن الصورة ، واستواء القامة ، وكمال الأعضاء والحواسّ الظاهرة ﴿وَباطِنَةً﴾ وغير محسوسة كالرّوح والعقل والفهم والفكر والمعرفة ، ودين الاسلام ، وإرسال الرسول ، وإنزال الكتاب.
عن ابن عباس قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوآله ما هذه النعمة [ الظاهرة ] والباطنة ؟ قال : « أما الظاهرة : فالاسلام وما حسن من خلقك وما أفضل عليك من الرّزق ، وأمّا الباطنة : فما ستر من سوء عملك
__________________
(١-٣) تفسير روح البيان ٧ : ٨٧.