والعاصون المنكرون للحشر بالله على أنّهم ﴿ما لَبِثُوا﴾ وما مكثوا فيها ﴿غَيْرَ ساعَةٍ﴾ ومدّة في غاية القلّة.
وقيل : إنّ المراد مدّة لبثهم في القبور ، أو بعد فناء الدنيا إلى النشور (١) . وعلى كلّ تقدير كان جوابهم إفكا وكذبا و﴿كَذلِكَ﴾ الإفك والكذب ﴿كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يُؤْفَكُونَ﴾ ويصرفون من الحقّ إلى الباطل ، ومن الصدق إلى الكذب ﴿وَقالَ﴾ الملائكة أو الأنبياء والمؤمنون ﴿الَّذِينَ أُوتُوا﴾ من قبل الله ﴿الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ﴾ ردّا عليهم وإنكارا لكذبهم : والله ﴿لَقَدْ﴾ كذبتم بل ﴿لَبِثْتُمْ﴾ في المدة التي كانت مكتوبة ﴿فِي كِتابِ اللهِ﴾ واللّوح المحفوظ ، وهي المدّة المديدة ﴿إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ لا الساعة الحقيقية ﴿فَهذا﴾ اليوم ﴿يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ الذي وعدكم به الأنبياء ﴿وَلكِنَّكُمْ﴾ لفرط جهلكم وتفريط النّظر ﴿كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ في الدنيا أنّه الوعد الحقّ ، وتستعجلون به استهزاء ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بإنكار التوحيد والمعاد ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾ وكلمات تمحى بها ذنوبهم ﴿وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ ويؤمرون بما يرضون به ربّهم وبه يمحون ذنوبهم من التوبة والطاعة ، لعدم قبولها منهم ، كما يؤمرون به في الدنيا ويقبل منهم فيها.
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ * كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٥٨) و (٦٠)﴾
ثمّ بيّن سبحانه قطع عذرهم في الدنيا بقوله : ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا﴾ وو الله قد بيّنا ﴿لِلنَّاسِ﴾ عموما ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾ الكريم بأوضح بيان ﴿مِنْ كُلِ﴾ ما يحتاجون إليه من العقائد الصحيحة والأحكام الحقّة والأدب والحكم بحيث يكون في الغرابة ﴿مَثَلٍ﴾ فلا يبقى لهم العذر في ترك أخذها وعدم العمل بها من قبلنا ، وأمّا من قبلك في رسالتك فقد أتيت لهم ما يثبت به برسالتك ﴿وَ﴾ والله ﴿لَئِنْ جِئْتَهُمْ﴾ وأتيت لهم ﴿بِآيَةٍ﴾ من القرآن الذي هو أعظم المعجزات ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأصرّوا على العناد لك وللمؤمنين بك ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ وكاذبون فيما تدّعون ﴿كَذلِكَ﴾ الطّبع الفضيع والختم الشنيع ﴿يَطْبَعُ اللهُ﴾ ويختم ﴿عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ سوء عاقبة العقائد الفاسدة ، ولا يدركون الحقّ ودلائله ، فيصرّون على خرافات اعتقدوها وترّهات ابتدعوها.
﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمدّ على أذاهم ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ بنصرك عليهم وتعذيبهم ﴿حَقٌ﴾ لا خلف فيه ﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ ولا يغيضك ، أو لا يحملنّك على القلق والخفّة جزعا القوم ﴿الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٥ : ١٣٦.