باتوا ليلتهم وناموا ، ثمّ استيقظوا وقد أجنب أكثرهم ، وغلب المشركون على ماء بدر وليس معهم ماء ، فتمثّل لهم الشيطان فوسوس إليهم وقال : أنتم يا أصحاب محمّد تزعمون أنّكم على الحقّ ، وأنّكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وأنّكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة ، وقد عطشتم ، ولو كنتم على الحقّ ما سبقكم المشركون إلى الماء ، وما غلبوكم عليه ، وما ينتظرون إلّا أن يضعفكم العطش ، فإذا قطع أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبّوا وساقوا بقيّتكم إلى مكّة ؛ فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا ، فأنزل الله عليهم المطر ليلا حتّى سال الوادي وامتلأ من الماء ، فاغتسل المسلمون وتوضّأوا وشربوا وسقوا دوابّهم ، وبنوا على عدوته - أي جانبه - حياضا ، واشتدّ الرّمل وتلبّدت بذلك أرضهم - وأوحلت أرض عدوّهم - حتّى ثبتت عليها الأقدام ، وزالت وسوسة الشّيطان ، فطابت نفوسهم ، وقويت قلوبهم. وتهيّأوا للقتال من الغد(١) .
فذكّرهم الله ذلك بقوله : ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ﴾ ويحيط بكم ﴿النُّعاسَ﴾ والنّوم الخفيف العارض في البدء ؛ لأنّه وجدت قلوبكم ﴿أَمَنَةً﴾ من ضرر العدوّ لا كلالا ولا إعياء ، وتلك الأمنة كانت ﴿مِنْهُ﴾ تعالى وبلطفه ، لا بالأمارات والأسباب العادية ﴿وَيُنَزِّلُ﴾ الله ﴿عَلَيْكُمْ﴾ حال كونكم نائمين ﴿مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ نافعا مباركا ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ من حدث الجنابة وغيره ﴿وَيُذْهِبَ﴾ ويزيل ﴿عَنْكُمْ﴾ ذلك المطر ﴿رِجْزَ الشَّيْطانِ﴾ ووسوسته المخوّفة لكم ، والشّكوك العارضة لقلوبكم - وقيل : اريد بالرّجز الجنابة - ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ﴾ ويقوّيها بالثّقة بلطفه وتأييده ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ﴾ منكم على الأرض حتى تتمكّنوا وتقدروا على المشي والكرّ بسهوله ، وقيل : يعني يثبّت أقدامكم في الحرب.
عن القمّي رحمهالله : ﴿وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ﴾ وذلك أنّ بعض أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله احتلم - إلى أن قال - وكان المطر على قريش مثل العزالي (٢) ، وكان على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله رذاذا بقدر ما تلبّد به الأرض ، وخافت قريش خوفا شديدا فأقبلوا يتحارسون ويخافون البيات ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوآله عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود فقال : « ادخلا في القوم وآتونا بأخبارهم » . فكانا يجولان بعسكرهم فلا يرون إلّا خائفا ذعرا ، إذا صهل الفرس وثب على جحفلته (٣) ، فسمعوا منبّة بن الحجّاج يقول :
__________________
(١) تفسير روح البيان ٣ : ٣٢٠.
(٢) العزالي : جمع عزلاء ، وهي مصبّ الماء من القربة ، كناية عن شدّته.
(٣) الجحفلة : شفة الفرس ، بمعنى أنه يريد إسكانه عن الصهيل.