وخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، فلمّا كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بشير بن أبي الزّغباء ومحمّد بن عمرو يتجسّسان خبر العير ، فأتيا ماء بدر فأناخا راحلتيهما واستعذبا من الماء ، وسمعا جاريتين قد تشبّثت إحداهما بالاخرى ، وتطالبها بدرهم كان لها عليها ، فقالت : عير قريش نزلت أمس في موضع كذا ، وهي تنزل غدا هاهنا ، وأعمل لهم وأقضيك.
فرجعا فأخبراه بما سمعا ، فأقبل أبو سفيان بالعير ، فلمّا شارف بدرا تقدّم العير وأقبل وحده حتّى انتهى إلى ماء بدر ، وكان بها رجل من جهينة يقال له الكسب الجهني فقال له : يا كسب ، هل لك علم بمحمد وأصحابه ؟ قال : لا ، قال : واللّات والعزّى لئن كتمتنا أمر محمّد ، لا تزال قريش. لك معادية آخر الدّهر ، فإنّه ليس أحد من قريش إلّا وله في هذه العير نشّ فصاعدا ، فلا تكتمني ، فقال : والله مالي علم بمحمد ، وما بال محمد وأصحابه بالتجّار ، إلّا أنّي رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا فاستعذبا من الماء ، وأناخا راحلتيهما ورجعا ، ولا أدري من هما. فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما ، ففتّ أبعار الإبل ، فوجد فيها النّوى فقال : هذه علائف يثرب ، هؤلاء والله عيون محمّد ، فرجع مسرعا وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر ، وتركوا الطّريق ومرّوا مسرعين.
ونزل جبرئيل على رسول الله صلىاللهعليهوآله فأخبره أنّ العير قد أفلتت ، وأنّ قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها ، وأمر بالقتال ووعده النّصر ، وكان نازلا ماء الصّفراء (١) ، فأحبّ أن يبلو الأنصار ، لأنّهم إنّما وعدوه أن ينصروه إذا كان في الدّار ، فأخبرهم أنّ العير قد أفلتت ، وأن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها ، وأنّ الله قد أمرني بمحاربتهم ، فجزع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله من ذلك ، وخافوا خوفا شديدا.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « أشيروا عليّ » فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله ، إنّها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت ، ولم تخرج على هيئة الحرب.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله « اجلس » فجلس ، فقال : « أشيروا عليّ » ، فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر ، فقال : « اجلس » ، ثمّ قام المقداد فقال : يا رسول الله ، إنّها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله ، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضى وشوك الهراس (٢) لخضنا معك ، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾(٣) ولكنا نقول : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون. فجزاه النبي صلىاللهعليهوآله خيرا فجلس.
__________________
(١) الصفراء : واد من ناحية المدينة ، كثير النخل والزرع ، بينه وبين بدر مرحلة.
(٢) الغضى : جمع غضاة ، وهي شجرة الأثل صلبة الخشب ، وجمره يبقى زمانا طويلا ، والهراس : شجر كبير من الفصيلة القرنية ، وله شوك كأنّه الحسك.
(٣) المائدة : ٥ / ٢٤.