والتخوّف معرضا للفرار ، عبّر عن إصابتهم بالعذاب بالأخذ ، وفي غيرهما بالاتيان.
ثمّ أشار سبحانه إلى علّة إمهالهم وتأخير عذابهم بقوله : ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ﴾ أيّها المشركون والله ﴿لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ لا يعاجل بالعقوبة ، ويمهلكم مع كمال الاستحقاق لها.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ
سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)﴾
ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بأنواع العذاب ، وكان الخوف متوقّفا على العلم بكمال القدرة ، بيّن سعة قدرته ، ويحتمل أن يكون وجه النظم أنّه تعالى بعد تهديد المشركين بيّن كمال قدرته ونهاية عظمته ومهابته ، ازديادا للرعب في القلوب بقوله : ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ والتقدير على الأول : ألم يتبيّن لهم كمال قدرة الله ولم يروا ، وعلى الثاني : ألم يخافوا الله ، ولم ينظروا ﴿إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ له ظلّ كيف ﴿يَتَفَيَّؤُا﴾ ويرجع ﴿ظِلالُهُ﴾ وفيؤه شيئا فشيئا ﴿عَنِ الْيَمِينِ﴾ إلى الشمائل ﴿وَ﴾ عن ﴿الشَّمائِلِ﴾ حال كونهم (١)﴿سُجَّداً﴾ ومنقادين وخاضعين ﴿لِلَّهِ﴾ مقهورين لإرادته ﴿وَهُمْ داخِرُونَ﴾ وصاغرون ومذلّلون تحت مشيئته ، وإنّما أضاف سبحانه الظلال إلى ضمير المفرد مع أنّ المراد ذوي الظلّ وهي كثيرة اعتبارا بلفظ الشي ، كما أنّ توصيف الظلال بالجمع وإرجاع ضمير الجمع إليه اعتبارا بمعنى الظلال ، وهو كثير.
وقيل : إنّ المراد باليمين يمين الفلك ، وهو المشرق ، لكونه أقوى الجانبين (٢) منه ؛ لأنّ منه تظهر الحركة القوية للفلك ، فاذا طلعت الشمس حدث لكلّ شيء قائم على وجه الأرض ظلّ في طرف المغرب ، وهو شمال الفلك ، فكأنّه رجع من اليمين الى الشمال ، فكلّما ارتفعت الشمس ينقص ذلك الظلّ ويرجع شيئا فشيئا إلى أن تبلغ وسط الفلك ، فحينئذ ينعدم من الطرف ، ويحدث أو يرجع في طرف المشرق ، وهو معنى ( عن الشّمائل ) ثمّ يزداد شيئا فشيئا ، فالرجوع من طرف اليمين واحد ، وهو حدوث الظلّ في أوّل طلوع الشمس أو أوّل الزوال ، ومن طرف الشمال كثير باعتبار نقاط الأرض حين النقص ، ولذا أفرد لفظ اليمين وجمع الشمال ، ولعلّ إلى ما ذكرنا يرجع ما قيل من أنّ إفراد لفظ اليمين لأنّ نقطة مشرق الشمس واحدة ، وأمّا الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على وجه الأرض ، وهي كثيرة (٣) .
وقيل : إنّ لكلّ شيء يمينا وشمالا ، وهما جانباه ، استعارة من يمين الانسان وشماله ، وذكر اليمين
__________________
(١) في النسخة : كونها.
(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٤١.
(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ٤٢.