وعابس وجبير موليين لقريش ، فجعلوا يعذّبونهم ليردوهم عن الاسلام ، أمّا صهيب فقال لهم : إني رجل كبير ، إن كنت لكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضرّكم ، فافتدى منهم بماله ، فلمّا رآه أبو بكر قال : ربح البيع يا صهيب ، وأمّا سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الاسلام ، فتركوا عذابهم ، ثمّ هاجروا (١) .
وقيل : نزلت في المهاجرين إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة ، فجمعوا بين الهجرتين (٢) .
روي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لمّا رأى ما نزل بالمسلمين من توالي العذاب عليهم من كفّار قريش ، قال لهم : « تفرّقوا في الأرض ، فانّ الله سيجمعكم » . قالوا : إلى أين نذهب ؟ قال : « اخرجوا إلى الحبشة ، فان بها ملكا عظيما لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتّى يجعل الله لكم فرجا ممّا أنتم فيه » . فهاجر إليها ناس ذو عدد ، قيل : كانوا فوق ثمانين ، مخافة الفتنة وفرارا إلى الله تعالى بدينهم (٣) .
ثمّ وعدهم بالأجر الاخروي بقوله : ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ﴾ المعدّ لهم بإزاء الهجرة ﴿أَكْبَرُ﴾ وأعظم ممّا يعجّل لهم في الدنيا ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ عظم قدر أجر الآخرة لازدادوا في الصبر والمجاهدة.
وقيل : إنّ ضمائر الجمع راجعة إلى الكفار ، والمعنى : لو علم الكفّار أنّ الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدار لكفّوا عن أذاهم ووافقوهم في الدين (٤) .
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي
إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) و (٤٤)﴾
ثمّ وصف الله المهاجرين ومدحهم بقوله : ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على أذى المشركين ومفارقة الوطن الذي هو حرم الله ، والمجاهدة ببذل الأموال والأنفس وسائر الشدائد في سبيل الله ﴿وَعَلى رَبِّهِمْ﴾ اللطيف بهم خاصّة ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾ في جميع امورهم.
ثمّ لمّا كان من شبهات المشركين في النبوة أنّ الله أعلى وأجلّ من أن يكون رسوله بشيرا ، بل لو أراد إرسال رسول لأرسل ملكا من الملائكة ، لأنّهم أشرف من البشر وإخباره أقرب إلى القبول ، فردّ الله عليهم بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا﴾ إلى سائر الامم ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ وفي الأزمنة السابقة على بعثتك رسلا ﴿إِلَّا﴾ كانوا ﴿رِجالاً﴾ من البشر يأكلون ويشربون وينكحون ، والمائز بينهم وبين غيرهم أنّا ﴿نُوحِي
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٣٤.
(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٣٥.
(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٣٦.
(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ٣٤ ، تفسير البيضاوي ١ : ٥٤٥ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١١٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٦.