ثمّ أنّه تعالى بعد بيان بدائع صنعه في السماوات ، بيّن سعة قدرته في الأرض بقوله : ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْناها﴾ وبسطناها على وجه الماء ، كما عن ابن عبّاس (١)﴿وَأَلْقَيْنا﴾ وأوجدنا ﴿فِيها﴾ جبالا ﴿رَواسِيَ﴾ وثوابت ﴿وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من نبات وثمار ﴿مَوْزُونٍ﴾ ومتقدّر بقدر خاصّ.
وقيل : يعني موزون بميزان الحكمة والعقل ، ومتناسب بحكم العقل السليم بحسنه ومطابقته للمصلحة (٢) .
وقيل : يعني المقدّر بالميزان ، فإنّ المعادن والنباتات كلّها كذلك (٣) .
وعن القمي : لكلّ ضرب من الحيوان قدّرنا شيئا موزونا (٤) .
وعن الباقر عليهالسلام : « أن الله تعالى أنبت (٥) في الجبال الذّهب والفضة والجوهر والصّفر والنّحاس والحديد والرّصاص والكحل والزرنيخ ، وأشباه ذلك لاتباع إلّا وزنا » (٦) .
أقول : على هذا التفسير يكون الإنبات بمعنى الإيجاد ، ومرجع ضمير ﴿فِيها﴾ [ إلى ] الرواسي ، كما عليه بعض مفسري العامة (٧) .
ثمّ إنه تعالى بعد ذكر بسط الأرض ، وإلقاء الجبال فيها ، وإنبات الثّمار فيها ، ذكر خلق ما يعيش به الخلق في الأرض دليلا على قدرته بقوله : ﴿وَجَعَلْنا﴾ وخلقنا ﴿لَكُمْ فِيها مَعايِشَ﴾ وما به قوام الحياة من الأطعمة والأشربة والألبسة ﴿وَ﴾ جعلنا لكم ﴿مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ﴾ من العيال والعبيد والخدم والدوابّ ، فانّ نفعهم لكم ورزقهم علينا.
وقيل : إنّ المعنى وجعلنا لكم ولمن لستم برازقيه من المذكورين معايش (٨) .
ثمّ بالغ سبحانه في توضيح سعة قدرته بقوله : ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾ وما من موجود ﴿إِلَّا عِنْدَنا﴾ وتحت قدرتنا ﴿خَزائِنُهُ﴾ شبّه سبحانه مقدوراته وما يكون وجوده بإفاضة في الكثرة ، والستر عن الخلق ، والصّون من وصول الأيدي إليه مع شدّة الحاجة إليه وكمال الرغبة فيه بنفائس الأموال التي يجعلها السلطان في خزائنه.
قيل : إنّ الخزائن كناية عن الأعيان الثابتة (٩) ، والماهيات المتقرّرة.
عن السجاد عليهالسلام : « أنّ في العرش تمثال جميع ما خلق الله من البّر والبحر » قال : « وهذا تأويل قوله :
__________________
(١) تفسير الرازي ١٩ : ١٧٠.
(٢) تفسير الرازي ١٩ : ١٧٢.
(٣) تفسير الرازي ١٩ : ١٧٢.
(٤) تفسير القمي ١ : ٣٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٠٤.
(٥) في النسخة : أثبت.
(٦) تفسير القمي ١ : ٣٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٠٤.
(٧) تفسير الرازي ١٩ : ١٧١.
(٨) تفسير روح البيان ٤ : ٤٥٢.
(٩) تفسير روح البيان ٤ : ٤٥٢.