القاهر﴿مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ﴾ وأصابتنا الشدّة من الجوع والضعف والهزال ﴿وَجِئْنا﴾ إليك ﴿بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ﴾ وعوض غير قابل للقبول لغاية قلّته وحقارته و﴿فَأَوْفِ﴾ وأكمل مع ذلك بكرمك ﴿لَنَا الْكَيْلَ﴾ من الطعام كما توفيه لغيرها بالأمتعة المرغوبة والدراهم الجياد ﴿وَتَصَدَّقْ﴾ ومنّ ﴿عَلَيْنا﴾ بقبول ما عندنا من العوض القليل والمتاع الحقير باعطاء (١) الطعام الكثير ، أو باطلاق أخينا بنيامين - عن الصادق عليهالسلام : « وتصدق علينا بأخينا بنيامين » (٢) - وهذا كتاب يعقوب أرسله إليك في أمره يسألك تخلية سبيله ، فمنّ به علينا ﴿إِنَّ اللهَ يَجْزِي﴾ أحسن الجزاء ، ويثيب بفضله أعلى الثواب ﴿الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ على المحتاجين ، والمتفضّلين على السائلين.
قيل : إنّهم لم يقولوا : إنّ الله يجزيك لأنّهم لم يعلموا بأنّه مؤمن (٣) .
﴿قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩)﴾
ثمّ روي أنّه لمّا سمع من إخوته عرض الحاجة الشديدة ، وإظهار غاية المسكنة ، وتضرّعهم إليه وإلحاحهم لديه ، اغرورقت عيناه ، وسال دمعه ، ولما قرأ كتاب أبيه ارتعدت فرائصه ، واقشعر جلده ، وكثر بكائه ، وعيل صبره ، ولم يتمالك حتّى عرّفهم نفسه (٤) و﴿قالَ﴾ لهم تصديقا لما أوحى الله إليه حين ألقوه في الجبّ من قوله : ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا﴾(٥)﴿هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ﴾ من القبائح والشنائع ﴿بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ بنيامين وهل تنبّهتم بسوء ما أقدمتم عليه في حقّها حين كانا مقهورين تحت أيديكم من ضربكم يوسف وإلقائه في الجبّ ، وإيذائكم أخيه ، ونسبتكم إياه إلى السرقة ، وشتمكم له ﴿إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ﴾ بشدّة قبحه لغروركم ، أو بما يئول إليه أمر يوسف ، وإنّما كان كلامه هذا شفقة عليهم ونصحا لهم في الدين ، وحثّا لهم على التوبة ، لا معاتبة وتثريبا عليهم ، إيثارا لحقّ الله تعالى على حقّ نفسه.
﴿قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا
وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩٠) * (٩١)﴾
__________________
(١) في النسخة : واعطاء.
(٢) مجمع البيان ٥ : ٣٩٩ ، نسبه إلى القيل ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠.
(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٣١١.
(٤) تفسير الرازي ١٨ : ٢٠٣.
(٥) يوسف : ١٢ / ١٥.