وروي أنّه أمر بغرس الأشجار ، فنمت تلك الأشجار ، في مدّة عشرين سنة ، فلم يولد في تلك المدّة مولود ، وبلغت الأطفال التي ولدت من قبل ، وكفروا وعارضوا نوحا تبعا لآبائهم (١) .
ثمّ لمّا كان نوح عليهالسلام كثير الشّفقة على قومه ، أوحى الله إليه بقوله : ﴿وَلا تُخاطِبْنِي﴾ ولا تراجعني ﴿فِي﴾ شأن ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالكفر والطّغيان ، ولا تشفع لهم في دفع العذاب عنهم ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ بالطّوفان لا محالة في حكمي وقضائي ، فلا يمكن صرفه عنهم.
﴿وَ﴾ كان نوح ﴿يَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ التي أمر بصنعها ﴿وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ﴾ وأشراف ﴿مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ إمّا لعدم معرفتهم بنفعها - قيل : إنّ قومه قالوا : ما تصنع يا نوح ؟ فقال : أصنع بيتا يمشي على الماء ، فتعجّبوا وسخروا منه - وإمّا لأنّه كان يصنعها في أبعد موضع من الماء في وقت غاية عزّته (٢) ، وكان القوم يتضاحكون ويقولون : يا نوح ، صرت نجّارا بعد ما كنت نبيّا ، ويقولون : أتجعل للماء إكافا (٣) ، فأين الماء (٤) ؟ !
وعن الباقر عليهالسلام : « أنّ نوحا عليهالسلام لمّا غرس النّوى ، مرّ عليه قومه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون : قد قعد غرّاسا ، حتّى إذا طال النّخل ، وكان جبّارا طوالا ، قطعه ثمّ نحته ، فقالوا : قد قعد نجّارا. ثمّ ألّفه فجعله سفينة ، فمرّوا عليه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون : قد قعد ملّاحا في فلاة الأرض ؛ حتّى فرغ منها » (٥) .
وقيل : إنّه كان ينذرهم بالغرق ، فلمّا طال مكثه فيهم ولم يشاهدوا منه عينا ولا أثرا ، عدّوه من المحالات ، ثمّ لمّا رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص منه سخروا منه (٦) .
فلمّا رأى نوح عليهالسلام سخريتهم ﴿قالَ﴾ لهم : ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا﴾ اليوم ﴿فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ﴾ إذا وقع عليكم الغرق في الدّنيا ، والحرق في الآخرة ﴿كَما تَسْخَرُونَ﴾ منّا.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)﴾
ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وعن قريب تشهدون ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ﴾ عظيم في الدّنيا ﴿يُخْزِيهِ﴾ ويذلّه ، وهو الطّوفان ﴿وَيَحِلُ﴾ ويرد ﴿عَلَيْهِ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ﴾ بالنّار ﴿مُقِيمٌ﴾ دائم لا انقطاع له أبدا.
__________________
(١) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٣.
(٢) أي قلّته.
(٣) الإكاف : البرذعة أو البردعة ، وهي ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه كالسّرج للفرس.
(٤) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٥.
(٥) الكافي ٨ : ٢٨٣ / ٤٢٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٣.
(٦) تفسير الرازي ١٧ : ٢٢٤.