ثمّ بشّرهم الله بالثّواب الاخروي بقوله : ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ﴾ حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها أَبَداً ذلِكَ﴾ المذكور من رضاء الله عنهم ، وخلودهم في الجنّة هو ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز ولا نجاح أعظم منه.
﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ
لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين المشهورين في المدينة والبوادي ، أخبر بنفاق بعض المسلمين المبطنين للنّفاق بقوله : ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ وفي أطراف بلدكم ﴿مِنَ الْأَعْرابِ﴾ وأهل البوادي المشهورين بينكم بالإيمان ﴿مُنافِقُونَ﴾ مستور نفاقهم عنكم. قيل : هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا نازلين حول المدينة (١)﴿وَ﴾ بعض ﴿مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا﴾ وعتوا واستمرّوا ﴿عَلَى النِّفاقِ﴾ وبلغوا في المهارة فيه إلى درجة ﴿لا تَعْلَمُهُمْ﴾ مع كمال فطنتك ، وقوّة فراستك ، و﴿نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ ونعرفهم لإحاطتنا بضمائرهم وأسرارهم ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ﴾ قبل يوم القيامة ﴿مَرَّتَيْنِ﴾ مرّة في الدّنيا ، ومرّة في البرزخ والقبر. وقيل : إنّ المراد من ﴿مَرَّتَيْنِ﴾ تكرّر عذابهم في الدّنيا (٢)﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ﴾ في القيامة ﴿إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ﴾ لا يقادر قدره.
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)﴾
ثمّ ذكر سبحانه القسم الثّالث من أهل المدينة بقوله : ﴿وَآخَرُونَ﴾ منهم ﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ قيل : هم المنافقون الذين تابوا من نفاقهم (٣). وقيل : هم جمع من المسلمين تخلّفوا عن غزوة تبوك كسلا لا نفاقا وكفرا (٤) ، ثمّ أقرّوا على أنفسهم بالعصيان ، وأظهروا النّدامة ، وهم ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً﴾ من حضورهم في الغزوات ، واهتمامهم بالعبادات ، وندمهم على القعود عن غزوة تبوك ، وتوبتهم من التخلّف ﴿وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ من المعاصي السّابقة واللّاحقة.
روي أنّهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام (٥) .
وقيل : كانوا عشرة ، فسبعة منهم لمّا بلغهم ما نزل في المتخلّفين وأيقنوا بالهلاك ، أوثقوا أنفسهم
__________________
(١) تفسير الرازي ١٦ : ١٧٣ ، تفسير أبي السعود ٤ : ٩٧ ، تفسير روح البيان ٣ : ٤٩٣.
(٢) تفسير أبي السعود ٤ : ٩٨ ، تفسير روح البيان ٣ : ٤٩٤.
(٣ و٤) . تفسير الرازي ١٦ : ١٧٤.
(٥) تفسير الرازي ١٦ : ١٧٥.