حتّى يقول أنس بن النضر : ما يحبسكم عن القتال ؟ فيقول : قد قتل محمّد صلىاللهعليهوآله (١) ، وإن كان بعد حصول الأمن ، ورجوع الفارّين من الزّحف إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وخيبة المشركين ، وتوبيخ النبيّ إيّاهم ، واعتذارهم بأنّه أتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا (٢) ، فهذا إيمان بعد الارتداد ، والظّاهر أنّه كان بعد رجوع أبي سفيان وحزبه إلى مكّة.
ثمّ اعلم أنّ المهاجرين والأنصار الّذين كان إيمانهم في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله بهذه المثابة ، لا يبعد منهم الارتداد بعد وفاته صلىاللهعليهوآله للأحقاد الجاهليّة وطمع الرّئاسة.
ثمّ أنّه قال الفخر الرازي : إنّ الله تعالى بيّن في آيات كثيرة أنّه صلىاللهعليهوآله لا يقتل ، قال تعالى : ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾(٣) ، وقال : ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(٤) ، وقال : ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾(٥).
في ذكر اعتذار بعض العامّة لتجويز عمر قتل النبيّ صلىاللهعليهوآله وبيان فساده
ثمّ اعتذار أبو السّعود في تفسيره لتجويز عمر وجمع من المهاجرين والأنصار قتله صلىاللهعليهوآله ، وقال : تجويزهم لقتله ؛ مع قوله تعالى : ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ لما أنّ كلّ آية لا يسمعها كلّ أحد ، ولا كلّ من يسمعها يستحضرها في كلّ مقام ، لا سيّما في مثل ذلك المقام الهائل (٦) .
أقول : في إصلاح الاعتذارين فساد ما صدر من عمر ما لا يخفى ، أمّا الاعتذار بأنّ عمر لم يسمع الآيات ، فممّا لا يمكن قبوله - سيّما من المعتذر وأصحابه من أهل السّنّة - لاعتقادهم في عمر أنّه كان من بطانة الرسول صلىاللهعليهوآله ومع ذلك ، كيف يمكن القول بعدم اطّلاعه على هذه الآيات ، وعدم سماعه لها ، مضافا إلى أنّه لا يمكن أن يعتقد المؤمن برسالة محمّد صلىاللهعليهوآله قتله في احد ، مع إخباره صلىاللهعليهوآله قبل خروجه إلى احد برجوعه حيّا إلى المدينة ، حيث قال عند ذكره رؤياه : « ثمّ إنّي رأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة ، أوّلتها أنّي أرجع إلى المدينة » (٧) .
وأمّا الاعتذار بعدم استحضار الآيات ، ونسيانها والغفلة عنها ، ففي غاية البعد ، مع كون تلاوة القرآن والتدبّر في آياته من أعظم عبادات المؤمنين ، وأهمّ مشاغلهم ، بحيث كان مدلول ظواهرها نصب أعينهم راسخا في قلوبهم.
في زلة عمر بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله ورد الاعتذار له
ومن الغرائب : استشهاد أبي السّعود على غفلة الصّحابة عن تلك الآيات ، بغفلة عمر عن هذه الآية بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله (٨) ، وتبعه صاحب تفسير ( روح البيان ) حيث قال :
__________________
(١) تفسير روح البيان ٢ : ١٠٣.
(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١٠٤.
(٣) الزمر : ٣٩ / ٣٠.
(٤) المائدة : ٥ / ٦٧.
(٥) تفسير الرازي ٩ : ٢١ ، والآية من سورة الصف : ٦١ / ٩.
(٦) تفسير أبي السعود ٢ : ٩٣.
(٧) تفسير أبي السعود ٢ : ٧٨ ، تفسير روح البيان ٢ : ٨٧.
(٨) تفسير أبي السعود ٢ : ٩٣.