يقول : يا شابّ ، ويل لك من ديّان يوم الدّين يوم يقضيني وإيّاك (١) ، تركتني عريانة في عساكر الموتى ، ونزعتني من حفرتي ، وسلبتني إهابي (٢) ، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي ، فويل لشبابك من النّار. فما أظنّ أنّي أشمّ ريح الجنّة أبدا ، فما ترى يا رسول الله ؟
فقال النبيّ : « تنحّ عنّي يا فاسق ، إنّي أخاف أن احترق بنارك ، فما أقربك من النّار ! » ، ثمّ لم يزل صلىاللهعليهوآله يقول ويشير إليه حتّى أمعن من بين يديه فذهب.
فأتى المدينة فتزوّد منها ، ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها ولبس مسحا (٣) ، وغلّ يديه جميعا إلى عنقه ونادى : يا ربّ ، هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول ، يا ربّ أنت الذي تعرفني وزلّ منّي ما تعلم سيّدي ، يا ربّ إنّي أصبحت من النّادمين ، وأتيت نبيّك تائبا فطردني وزادني خوفا ، فأسألك باسمك وجلالك وعظم سلطانك أن لا تخيّب رجائي سيّدي ، ولا تبطل دعائي ، ولا تقنّطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة ، تبكي له السّباع والوحوش.
فلمّا تمّت له أربعون يوما وليلة ، رفع يديه إلى السّماء وقال : اللهمّ ما فعلت في حاجتي ؟ إن كنت استجبت دعائي ، وغفرت خطيئتي ، فأوح إلى نبيّك ، وإن لم تستجب دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي ، فعجّل بنار تحرقني ، أو عقوبة في الدّنيا تهلكني ، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة.
فأنزل الله تعالى على نبيّه ﴿وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً﴾ يعني الزّنا ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا ، وهو نبش القبور ، وأخذ الأكفان ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ يقول : خافوا الله فعجّلوا التّوبة ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ يقول الله : أتاك عبدي يا محمّد تائبا فطردته ، فأين يذهب ، وإلى من يقصد ، ومن يسأل أن يغفر له ذنبه غيري ؟ ثمّ قال تعالى : ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا﴾ يقول : لم يقيموا على الزّنا ، ونبش القبور ، وأخذ الأكفان.
إلى أن قال : ولمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، خرج وهو يتلوها ويتبسّم ، فقال لأصحابه : « من يدلّني على ذلك الشّبابّ التّائب ؟ » . فقال معاذ : يا رسول الله ، بلغنا أنّه في موضع كذا وكذا ، فمضى رسول الله صلىاللهعليهوآله مع أصحابه ، حتّى انتهى إلى ذلك الجبل ، فصعدوا إليه يطلبون الشّابّ ، فإذا هم بالشّابّ قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه ، قد اسودّ وجهه ، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء ، وهو يقول : سيّدي قد أحسنت خلقي ، وأحسنت صورتي ، وليت شعري ما ذا تريد بي ، أفي النّار تحرقني ، أم في جوارك تسكنني ؟ اللهمّ إنّك قد أكثرت الإحسان إليّ وأنعمت عليّ ، فليت شعري
__________________
(١) في أمالي الصدوق : يقفني وإياك كما.
(٢) في أمالي الصدوق : أكفاني.
(٣) المسح : هو كساء من شعر يلبسه الراهب.