ثم لما بشر سبحانه بسعة رحمته ، قرره بما أراهم من إنزال الأمطار النافعة التي منها حياة كل شيء ، وفيها الشهادة على سعة رحمته ، وكمال قدرته ، وتدبيره لمصالح خلقه بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ القادر المدبر الرحيم ﴿الَّذِي يُرْسِلُ﴾ بقدرته وحسن تدبيره ﴿الرِّياحَ﴾ الأربعة ، حال كونها ﴿بُشْراً﴾ وإعلاما للناس بما يسرون به ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ وقدام المطر المحيي للأرض ﴿حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ﴾ الرياح وحملت بسهولة ﴿سَحاباً﴾ وغماما سارية في العلو ، حال كونها ﴿ثِقالاً﴾ بحمل الماء ﴿سُقْناهُ﴾ وسيرناه ﴿لِبَلَدٍ﴾ وإلى أرض ﴿مَيِّتٍ﴾ حاف (١) لا نبات فيها ، أو لأجل الأرض اليابسة ﴿فَأَنْزَلْنا بِهِ﴾ أي بسبب السحاب أو بالبلد ﴿الْماءَ﴾ والمطر النافع ﴿فَأَخْرَجْنا بِهِ﴾ من الأرض ما تعيشون به ﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ وجميع أنواعها.
ثم استدل سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها وإخراج الثمرات منها ، على إحياء الرمم ، وإخراج الموتى منها للحشر ، وجزاء الأعمال بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ الإحياء والإخراج ﴿نُخْرِجُ الْمَوْتى﴾ من الأرض إلى الحشر بعد إحيائهم في القبور. وإنما ضربنا لكم المثل ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ أيها الناس ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ وتتنبهون على أن من قدر على ذلك قدر على هذا بلا ريب.
عن ابن عباس رضى الله عنه : إذا مات الناس كلهم في النفخة الاولى مطرت السماء أربعين يوما قبل النفخة الأخيرة مثل مني الرجال ، فينبتون من قبورهم بذلك المطر ، كما ينبتون في بطون أمهاتهم ، وكما ينبت الزرع من الماء ، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ، ثم تلقى عليهم نومة فينائمون في قبورهم ، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية - وهي نفخة البعث - جاشوا وخرجوا من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤسهم كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه ، فعند ذلك يقولون : ﴿مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ﴾ فيناديهم المنادي : ﴿هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾(٢) .
﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)﴾
ثم أنه تعالى بعد بيان رحمته العامة بإنزال المطر وإخراج الثمار من الأرض ، نبه على أن عدم نبت الثمار من الأرض الصلبة أو السبخة ليس لعدم نزول المطر عليها ، أوعدم النفع فيه ، بل إنما هو لخباثة الأرض ، وعدم قابليتها للتأثر به بقوله : ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ والأرض الخيّرة لرخاوتها ، وقوّة استعدادها
__________________
(١) كذا ، ولعلّه من قولهم : حفا شاربه ، فهو حاف ، إذا بالغ في قصّه. أو تصحيف ( جاف ) من الجفاف. وينبغي تأنيث هذه الكلمة نظرا إلى قوله : ( أرض ) ثمّ قوله : ( لا نبات فيها ) .
(٢) تفسير روح البيان ٣ : ١٨٠ ، والآية من سورة يس : ٣٦ / ٥٢.