ثمّ حكى سبحانه عن مشركي العرب مذهبا آخر أقبح من الأول إظهارا لخفّة عقولهم ، وتحقيرا لهم في أنظار العقلاء بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ التزيين الذي يكون في أنظارهم للتّشريك بين الله وبين الأصنام في ما خلقه سبحانه من الحرث والأنعام ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ﴾ الإناث بدفنهنّ أحياء في الأرض خوفا من الفقر ، أو السّبي ، أو عارا من التّزويج ، والذّكور بنحرهم للحلف عليه ﴿شُرَكاؤُهُمْ﴾ وأولياؤهم من الشّيطان ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ ويهلكوهم إلى الأبد.
وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ في النّار (١) ، بالإغواء إلى الأعمال القبيحة ﴿وَلِيَلْبِسُوا﴾ ويخلطوا ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بالتّسويلات ﴿دِينَهُمْ﴾ الحقّ الذي كان عليه إسماعيل ، ويضلّوهم عنه.
وقيل : إنّ المراد من شركائهم : سدنة آلهتهم (٢) ، وعليه يكون المراد : أنّ عاقبة تزيينهم إهلاكهم وتشويش دينهم عليهم ، لظهور أنّه لم يكن قصد السّدنة من التّزيين ذلك ، وإنّما هو قصد الشّياطين.
ثمّ لمّا كان شيوع تلك القبائح في أولاد إسماعيل ثقيلا على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، سلّى سبحانه قلبه الشّريف بأنّ صدور هذا القبيح منهم إنّما كان بمشيئة الله لأنّه خلّاهم وأنفسهم ، وسلّط عليهم الشّياطين ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ عدم صدوره منهم ألجأهم على تركه ، أو قوّى عقولهم وصرف قلوبهم عنه ، إذن ﴿ما فَعَلُوهُ﴾ البتّة ، فإذا علمت أنّ الله شاء عصيانهم ، وأنّه مع كمال قدرته على أخذهم تركهم على ما هم عليه ليزدادوا إثما ﴿فَذَرْهُمْ﴾ واتركهم أنت أيضا ﴿وَما يَفْتَرُونَ﴾ على الله وكذبهم عليه من قولهم : إنّ الله أمرنا به ، فإنّ لهم في الآخرة عذابا عظيما.
﴿وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا
يَفْتَرُونَ (١٣٨)﴾
ثمّ حكى سبحانه أنّهم قسّموا أنعامهم ثلاثة أقسام ؛ فجعلوا قسما منها ومن حرثهم لآلهتهم ﴿وَقالُوا﴾ مشيرين إلى هذه القسمة : ﴿هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ﴾ لآلهتنا ﴿حِجْرٌ﴾ وممنوعة من التّصرّف فيها ﴿لا يَطْعَمُها﴾ ولا يذوق منها أحد ﴿إِلَّا مَنْ نَشاءُ﴾ أن يطعمها ، وهم خدمة الآلهة ، وخصوص الرّجال دون النّساء ، وهذا الحكم يكون ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ الباطل وهوى أنفسهم الفاسد ، لا بالحجّة والأخذ من الشّريعة ، وقسمة منها جعلوها بحيرة وسائبة وحام ، وقالوا مشيرين إليها : ﴿وَ﴾ هذه ﴿أَنْعامٌ حُرِّمَتْ﴾ على النّاس ﴿ظُهُورُها﴾ وركوبها ، وقسمة منها جعلوها للذّبح على النّصب ، وقالوا مشيرين
__________________
(١ و٢) تفسير الرازي ١٣ : ٢٠٦.