في تفسير سورة الأنعام
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)﴾
في بيان وجه نظم سورة الأنعام
ثمّ لمّا تمّت السّور التي كان أهمّ المقاصد فيهنّ محاجّة اليهود والنّصارى الّذين هم أعلم الملل الباطلة ، وإبطال شبهاتهم وعقائدهم الفاسدة ، وبيان ما ينتظم به امور المعاد والمعاش ، من أحكام العبادات والسّياسات ، وحقوق النّاس ، والمحلّلات والمحرّمات من الأطعمة والأشربة والمناكح ، والمنّة على المسلمين بتكميل الدّين وإتمام النّعمة بنصب الحجّة على العالمين ، ثمّ ختم المائدة ببيان كمال قدرته وعظمة سلطنته ، انتظمت سورة الأنعام المبتدأ فيها بالحمد على نعمائه ، وتأكيد ما في آخر السّورة السّابقة بإعادة بيان كمال قدرته ، وشرح ملكيّته بالملكيّة الإشراقية الإيجاديّة المشتملة على محاجّة المشركين الّذين هم أجهل الملل ، وإبطال بدعهم ، وبيان بعض أحكام الأطعمة ، وغير ذلك من الوجوه الموجبة لحسن النّظم.
فابتدأ فيها بقوله : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، وقد مرّ تفسيره ، ثمّ بحمد ذاته المقدّسة بقوله : ﴿الْحَمْدُ﴾ بجميع أنواعه وأفراده ، والثّناء الجميل بأيّ نحو وجد ملك ﴿لِلَّهِ﴾ ومختصّ بالواجب المستجمع لجميع الكمالات لا يشركه فيه غيره حمد أم لم يحمد.
ثمّ عرّف ذاته المقدّسة بكمال القدرة وسعة الإنعام تقريرا لاختصاصه به وحثّا عليه بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وسوّى بقدرته وحكمته ﴿السَّماواتِ﴾ وما فيها من الكواكب والملائكة ﴿وَالْأَرْضَ﴾ وما عليها وفيها من الحيوانات والنّباتات وغيرها.
وتخصيصهما بالذّكر لكونهما أعظم المخلوقات الجسمانيّة في الأنظار. وقد مرّ وجه جمع السّماوات وإفراد الأرض مع كونها مثلهنّ. وإنّما قدّم ذكر السّماوات مع تأخّرهنّ في الوجود من الأرض ، لكونهنّ أعظم وأشرف في الأنظار ، ولنزول البركات منهنّ ، وكونهنّ بمنزلة الآباء للمواليد ،