ثمّ قال الشّيخ بعد نقل الرّواية : أقول : في قوله : ( إلّا ما أحلّه الله لهم ) تنبيه على أنّهم يحترزون عن الشّبهات ، بل [ عن ] كلّ ما يمنعهم عن الشّهود مع الله. والجناح في الآية نكرة في سياق النّفي يعمّ كلّ مراتبه ، كاستحقاق العتاب (١) ، والسرّ فيه أنّ شكر نعم الله تعالى أن تصرف في طاعة الله سبحانه على وجهها ، فليتدبّر فيه.
وعلى ما حقّقناه إن صحّ [ أنّ ] نزول [ هذه ] الآية ما ذكره القمّي وفاقا لطائفة من المفسّرين ، فمعنى الآية : أنّ الّذين كانوا يشربون الخمر قبل نزول تحريمها ، إذا كانوا بهذه المثابة من الإيمان والتّقوى والعمل الصّالح ، فلا جناح عليهم في شربها (٢) .
أقول : حمل الآية على المعنى الذي ذكره غير ممكن ، لوضوح عدم إمكان كون الجناح على شاربها قبل نزول تحريمها لقبح العقاب بلا بيان عقلا وإن لم يكونوا واجدين لأوّل مراتب التّقوى. نعم إذا كان المراد من قوله : ﴿فِيما طَعِمُوا﴾ جميع المأكولات والمشروبات ، يصحّ اشتراط نفي الجناح على الإطلاق ، وبجميع مراتبه بما إذا اتّقى جميع محرّماتها ومشتبهاتها ، ويكون غرضهم من أكلها القيام بالأعمال الصّالحة ، وأنّهم لا يشبعون من الطّعام وهم مطّلعون على بطون غرثى وأكباد حرّى ، بل يحسنون إليهم بالزّائد ممّا يحفظون به رمقهم وأنفسهم.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ
لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة الخمر من المشروبات ، ذكر حرمة لحم الصّيد من المأكولات على خصوص المحرّم بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ﴾ ويمتحنكم ويختبرنّ طاعتكم وعصيانكم ﴿بِشَيْءٍ﴾ قليل ، وبلاء يسير بالنّسبة إلى سائر البليّات الشّاقّة العظيمة ، كبذل النّفس والمال ، ثمّ فسّر ذلك الشيء بقوله : ﴿مِنَ الصَّيْدِ﴾ وهو ابتلاء سهل يسير (٣) .
وقيل : إنّ المراد : بعض الصّيد ، وهو صيد البرّ (٤) .
قيل : إنّ الله امتحن امّة محمّد بصيد البرّ ، كما امتحن امّة موسى بصيد البحر (٥) .
أمّا كيفيّة الابتلاء فإنّه قرّبه منكم بحيث ﴿تَنالُهُ﴾ وتصل إليه ﴿أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ﴾ فيسهل عليكم أخذه وطعنه.
__________________
(١) في الصافي : العقاب.
(٢) تفسير الصافي ٢ : ٨٦.
( ٣ و٤ و٥ ) . تفسير الرازي ١٢ : ٨٥.